في الوقت الذي يندرج فيه فيلم «آخر رجال حلب» لفارس فياض، في سباق أوسكار أفضل فيلم تسجيلي مع احتمالات كبيرة بفوزه (أو لا تقل حجماً عن احتمالات فوز الفيلم الفرنسي «وجوه أماكن» لأغنيس فاردا)، يخرج فيلم تسجيلي سوري آخر بجائزة «أفضل فيلم تسجيلي» من مهرجان «صندانس» السينمائي في دورته الجديدة التي انتهت مساء أول من أمس (السبت).
الفيلم هو «عن الآباء والأبناء» لطلال دركي الذي نال جائزة مماثلة سنة 2014، عن فيلمه السابق «العودة إلى حمص»، ذلك الذي راقب فيه دمار مدينة شهدت ويلات الحرب الدائرة.
لكن «عن الآباء والأبناء» يختلف في أنّه ليس عن دمار مدينة بل عن دمار أنفس. ينتقل المخرج هذه المرّة إلى مدينة إدلب ويدخل صرح عائلات سورية تشهد نتائج تلك الحرب. لكن عوض أن يعرض لكل النتائج مع لفيف من النماذج، يرصد، على نحو محدد، عائلة انضم ربها إلى أحد الفصائل المتطرفة (النصرة)، وما لبث أن تطوع صغاره للفعل نفسه. يدّعي المخرج أنّه صحافي مؤيد للمتشددين ويتعرف على رجل يكنى أبو أسامة وكيف يدير شؤون حياتيه العسكرية والعائلية. والحقيقة أنّهما متلاصقتان لدرجة تثير لدى المتلقي دائرة بانورامية كاملة لا تعرف أين تبدأ إحداهما وأين تنتهي، فالرجل يلقي دروسه على أولاده (أكبرهم في الـ13 من العمر)، كما يلقيها على أتباعه من المحاربين.
الفيلم أبعد ما يكون عرضاً حيادياً للجماعات المتشددة (لو كان لما ربح جائزته)، ولا يتبنى منوالهم (وإلا لما قُبل اشتراكه في المهرجان على الأرجح)، لكنّه في الوقت ذاته لا يتعاطى والنظام. ما يهدف إليه ويشكل لبنته الأساسية هو النظر ملياً إلى وضع غير إنساني بعين إنسانية. ليس على مسافة بعيدة أو آمنة، بل على نحو تفصيلي مقرّب. يستمع المخرج إلى الأولاد حيناً وإلى الأب حيناً آخر. ينقل أفكارهم حول الحياة على الأرض وما بعدها. لا يناقش ولا يعارض، لكنّه يكوّم تلك الأفكار، ومعها بعض المشاهد المفجعة في معانيها، ليضعها أمام المشاهد لعله الآن يعرف أكثر ممّا تكتفي النشرات الإخبارية عرضه على الشاشات الصغيرة.
- الدورة رقم...
فوز «عن الآباء والأبناء» بالجائزة الأولى في مسابقة «وورلد دوكيومنتري»، في نهاية الدورة فتح عيناً على مهرجان يلعب أدواره السياسية ضمن توليفة طبيعية في بيئتها. صحيح أنّ المهرجان ذاته خلا من مواقف سياسية معلنة (في العام الماضي كال الخطباء في ليلة النتائج لدونالد ترمب وسياسته)، لكنّ عدداً من أفلامه، كهذا الفيلم، بحث في شؤون مهمّة تحيط بنا قام المهرجان بنقلها للعيان. وهي ليست المرّة الأولى. دورات المهرجان منذ إنشائه، كثيراً ما عرضت ذلك النحو من الأفلام المستقلة التي تفكر خارج الخط وبعيداً عن التقليد.
لكن أي دورة هي هذه الدورة؟ يعتمد ذلك على كيف تحسب عدد سنواته.
بسؤال أحد الإداريين عن السبب الذي لا يعلن مهرجان «صندانس» عن دوراته في ملصقاته أو في عناوينه ونشراته المختلفة، قيل للسائل إنّ هناك تاريخين للمهرجان ولا يود المهرجان أن يُلغي أحدهما. عند هذا الجواب بدأ البحث عمّا يعنيه ذلك فتبدى تلقائياً: المهرجان أسس للمرة الأولى سنة 1978، لكنّه لم يعرف باسم «صندانس» بل باسم «يوتا/ يو إس» (نسبة للولاية) ولم تكن للممثل والمخرج روبرت ردفورد علاقة مباشرة به، بل كان نتيجة الرغبة في ترويج ولاية يوتا مكاناً صالحاً لتصوير الأفلام. في عام 1984 قام روبرت ردفورد بإدارته وتحويله إلى المهرجان الأكبر والأفضل الذي ما زال قائماً حتى الآن. لذلك إذا اعتبرنا عمر المهرجان بدأ سنة 1984، فإنّ هذه الدورة تحمل الرقم 34. أمّا إذا لم نشأ إغباط حق السنوات السابقة، فالمهرجان أكمل 40 سنة على تأسيسه.
مهما يكن، فإن الدورة الحالية بإعلان جوائز شملت 28 فيلماً، برهنت على أنّ المهرجان لا يزال في عمر الشباب فعلاً. الحضور كان حافلاً ولو أنّ معظم الموجودين فيه كانوا من ذوي الأسماء الشابة والشخصيات غير المعروفة، والعروض شملت 123 فيلماً طويلاً و69 فيلماً قصيراً انتُخبت من بين رقم مهول هو 13468 فيلماً، ما يجعل المرء يتساءل عمّا قد تكون عليه الأفلام الأخرى التي لم يجرَ انتخابها وأين يمكن لها أن تتوجه بعد ذلك.
- بحر من الأفلام
على أنّ حقيقة وجود كم كبير من الأسماء الجديدة في عالم السينما لا يعني أن المهرجان لم يضم هذا العام، ككل عام مضى، بعض الأسماء التي تأسست منذ سنوات بعيدة أو حتى تلك التي ما زالت فاعلة ونشطة في سينما اليوم.
شمل الحضور، على سبيل المثال، نيكولاس كايج، وإيما روبرتس، وواكين فينكس، وإيثان هوك، وتوم هانكس، وجاك بلاك، وجونا هِل، وجين فوندا من بين آخرين. طبيعة المدينة ومقراتها المشاركة في إحياء المهرجان لا تشبه طبيعة مدينة كان أو برلين أو فينيسيا، ولا قاعات العروض الرئيسية هي ذاتها في تلك المهرجانات. هي قاعات مزوّدة بأفضل صوت وأفضل صورة، لكنّ ذلك البساط الأحمر أقل طولاً وتصرفات السائرين عليه أقل استعراضاً. هناك مصوّرون لكنّهم حفنة بالمقارنة مع الذين يصطفون على جانبي السلم الطويل في قصر المهرجانات في «كان». هناك جمهور كبير يقف بانتظار نجمه المفضل، لكن لا أحد يحضر معه كرسياً أو سلماً لينتظر فوقه قبل ساعات من موعد وصول «النجم» كما الحال في «فينيسيا» و«كان».
وفي حين أنّ «كان» و«فينيسيا» يتمتعان بطقس معتدل على الرغم من احتمالات المطر، فإن «صندانس» يلتقي و«برلين» (الذي تبدأ دورته الجديدة بعد أقل من 20 يوماً)، في أنّه يحب البرد ويلوذ به. «صندانس» الأول كان يقام في عز الصيف في أغسطس (آب) و«برلين» كان يقام في الربيع يونيو (حزيران)، وكلاهما قرّر الانتقال إلى موسم الشتاء على أساس أنّ كل ما يحتاجه المرء للتدفئة في أيام البرد هو فيلم جيد.
على كل ذلك، فإنّ أياً من هذه المهرجانات، وأياً من مهرجانات العالم كافة، معرض لتفاوت في نسبة الأعمال الجيدة من عام لآخر. وما غاص فيه «صندانس» هذه السنة، هو سيل من الأفلام الطموحة التي لم ينجز كثير منها ما يطمح إليه. وهذا يشمل الفيلم البريطاني «ماتانغي/ مايا» حول مغنية الراب الإنجليزية المعروفة بأحرف M.I.A: بيوغرافي يشمل حقباً مختلفة من حياتها في الهند، قبل أن تتحوّل إلى أيقونة معروفة بين هواة موسيقى «الراب»، وفيلم برت هايلي «القلوب تدق بصوت عالٍ» حول رب عائلة يتمنى لو ابنته الشابة تنضم إلى فرقته الغنائية و«أرنب أبيض» حول الكاتبة والممثلة الكوميدية فيفيان بانغ، من بين أخرى كثيرة.
هذه الأمثلة المذكورة ليست سوى جزء بسيط من بحر من الأفلام التي دارت حول المرأة سواء في سير ذاتية تسجيلية أو روائية أو خلال حكايات خيالية أُلّفت مباشرة للشاشة حتى لتكاد كثرة هذه الأعمال تمنح المهرجان صفة نسائية بحتة. بعض المراقبين هنا يعتبرون أنّ كثرة الأفلام التي تتناول المرأة (لجانب الأفلام التي أخرجتها نساء) هي ما أنقذ دورة هذه السنة من دورات المهرجان على أساس أنّها كانت الميزة الوحيدة له، وفي الوقت الذي خلت فيه السوق من صفقات كبيرة تطغى بأخبارها على برامج العروض ذاتها كما جرت العادة في السنوات السابقة.
- حياة مراهقة
أحد هذه الأفلام «النسائية» هو «تَلي» (Tully)، اسم مربية أطفال تدق ذات ليلة باب بيت المرأة التي آل إليها الاهتمام بـ3 أولاد بينهم طفل رضيع. في البداية نتعرف على الأم (تشارليز ثيرون)، وهي تستعد لاستقبال وليدها الجديد الذي يحضر ومعه كل ذلك الهم الإضافي المعتاد. تنظيفه وإطعامه والاستيقاظ من النوم باكياً. إنها امرأة متزوجة، لكن عليها حمل هذه الأعباء بطبيعة الحال لذلك يأتي وصول تَلي (ماكنزي ديفيز) التي تم استئجار خدماتها لمساعدة الأم. هنا ينطلق الفيلم الذي أخرجه جاسون رايتمان وكتبته ديابلو كودي (اشتغلا معاً على «جونو» و«راشدون شبان» من قبل) في سبر غور ما يبدو أنّه دعوة مبطنة لحياة بلا رجل (أقرب لنهاية «أحلام هند وكاميليا» لمحمد خان أو لفيلم رومان بولانسكي الأخير «مؤسس على قصة حقيقية»، إنّما من دون جودة الأول وترفيه الثاني)، أو لقراءة ما هو أبعد من ذلك. لكن الفيلم ينتهي من تأسيس الوضع الماثل بعد نحو نصف ساعة ويكمل من دون بنزين كافٍ لساعته التالية.
هناك تمثيل لا بأس به هنا، لكنّ هذا لم يعد فعلاً مميزاً في مثل هذه الأفلام ونرى مثيله في «رجاءً الانتظار» (Please Stand By) للمخرج الجديد بن ليفِن الذي تقوم داكوتا فانينغ ببطولته ببراعة قد تضعها في دائرة ترشيحات موسم الجوائز المقبلة في نهاية هذا العام. هي فتاة تعاني من مرض «التوحد» الذي يفسره الفيلم على أساس أنّه السبب فيما تشعر به من غضب حيال كل شيء. في يدها سيناريو تريد الدخول به في إحدى المسابقات ورغبة في إصلاح علاقتها مع شقيقتها التي كانت تركت البيت بسببها. لكنّ الفيلم يقوم على مفارقات تبدأ مسحونة بالانفعال ثم تتحوّل إلى مجرد ذكرى لحدث حُلّ في المشهد اللاحق.
على نحو شبيه يأتي «الليل يغشى» (The Night Comes On) حول حياة مراهقة (دومينيك فيشباك) ليس لديها سوى الاعتماد على نفسها بعدما قتل والدها والدتها وأصبحت مسؤولة عن شقيقتها الصغرى. على الرغم من هذا المنوال الدسم بمعطياته العاطفية فإن المخرجة جوردانا سبيرو (في ثاني فيلم لها بعد The Deuce)، تمنحه ما يحتاجه من بطانة اجتماعية. الفيلم أفضل حالاً من تلك المذكورة قبله، كونه أكثر تشابكاً مع مشكلات الحياة في القاع. ليس أنّه لا يمكن لفيلم يعالج مشكلات الحياة بين الأثرياء (كما في «تَلي») أو بين أبناء الطبقة الوسطى («رجاءً، الانتظار») غير ممكن، بل لأن المحيط الاجتماعي يفرض في «الليل يغشى» حضوراً مؤثراً رغم خفوت إيقاعه في منتصفه وحتى الدقائق العشر قبل نهايته.
- ضد الإصلاح؟
الحال هي أنّ هذه الأفلام جزء من ظاهرة واسعة ربما لم يكن ليتاح لها الظهور بهذا القدر من الوضوح لولا دورة هذا العام. المرأة وحكاياتها كانت بالفعل التميّز الأول بين كل ما يمكن جمعه من ملاحظات حول أفلام هذه الدورة. والفيلم الذي نال جائزة أفضل فيلم درامي أميركي، وعنوانه «التعليم الخاطئ لكاميرون بوست» (بطولة كليو مورتيز وإخراج ديزيريه أكافان) برهان الدورة على ذلك.
بالنسبة للبعض هنا، هو أيضاً اكتشاف مبهر، لكن بالحديث إليهم يتبين أنّ الموضوع هو الذي خطف الاهتمام وليس كيفية معالجته، كونه يتعلق بحياة فتاة شابة لديها ميول مثلية يحاول المجتمع، في أحداث تعود إلى التسعينات، إصلاح شأنها بإدخالها مدرسة خاصة. يبدأ الفيلم بتعريفنا بميول بطلته المبكرة ثم يدخل مرحلة الرغبة في إصلاحها تلك التي - وفي ظل أخلاقيات هذا العصر - تتحوّل هي إلى موضع النقد في فيلم تحاول المخرجة أن تؤكد فيه ضرورة ترك المرء يتوجه في حياته الجنسية حسبما يريد.
ويمكن ملاحظة الفارق الجسيم بين اهتمامات الأفلام الأميركية، هنا كما فيما سبق من نماذج، وما أتت به السينمات العالمية من مواضيع شتّى بداية بالفيلم الذي نال قصب السباق في مسابقة أفضل فيلم روائي عالمي (المقابل للمسابقة الذي منح «التعليم الخاطئ لكاميرون بوست» جائزته)، وهو الفيلم التركي «فراشات» لتولغ كاراشيليك. هناك بساطة ومعالجة تتسع لأكثر من حكاية الفرد الواحد في هذا الفيلم الذي يتحدث عن 3 إخوة عاشوا متفرقين ومتباعدين يعودون لحضور جنازة والدهم، حيث يبدأ كل منهم التعرف على الآخر للمرّة الأولى.
كاراشيليك سبق وحقق «آيفي»، قبل 3 أعوام، الذي عكس فيه دراية وموهبة جيدة. فيلم مدهم بقوّة موضوعه وبنقده المبطن للنظام حول كابتن باخرة شحن في طريقها إلى الإسكندرية، لكن ما لديها من وقود لن يكفي؛ لا لعودتها إلى المرفأ الذي انطلقت منه ولا لوصولها إلى المرفأ المصري الذي تقصده.
جائزة أفضل فيلم تسجيلي أميركي ذهبت إلى «كايلاش». لم تتح لي مشاهدته، لكنّه يدور حول رابح جائزة نوبل كيلاش ساتيارتي الذي أسهم في إنقاذ ورعاية أكثر من 80 ألف طفل من التجارة والرّق والعوز مؤسساً لذلك جمعية ما زالت تحارب في سبيل هذه الغابة.