أبناء شعبه من الروهينغا غير معترف بهم بصفتهم مواطنين والدليل على ذلك مطبوع على جلده. فقد ضربه عساكر جيش ميانمار (بورما سابقا) على قدميه بلا رحمة وتعقبوه إلى أن فر من بلاده في التسعينات من القرن الماضي. عذبوه في معسكر للاجئين ببنغلاديش عقابا على تزعم حركة رفض جماعية لسياسة بنغلاديش، التي حاولت من خلالها إجبار اللاجئين من أبناء الأقلية المسلمة العودة إلى ميانمار. عبد السلام تخيل نفسه غاندي أو مانديلا أو مارتن لوثر كينغ، ورغم أن هؤلاء جميعا شكلوا مصدر إلهام له، فقد كان هناك شخص آخر يراه عبد السلام كقارب النجاة الذي سيحمله إلى شاطئ الأمان. لم يكن ذلك الشخص سوى أون سان سو تشي، التي طالما اعتبرها أيقونة شعب ميانمار الجديدة التي جاءت لتخلصه من الاستبداد. كان حلم عبد السلام أن تواجه زعيمتهم الجديدة الجيش وأن تعيد الروهينغا إلى وطنهم بصفتهم مواطنين كغيرهم متساويين في ميانمار. تحقق الجزء الأول من الحلم وعادوا بالفعل، لكن للعيش في أكواخ متهالكة بمعسكر للاجئين في بنغلاديش، حيث يتوقع عبد السلام أن يقضى الأيام الباقية من عمره، ليخيب ظنه في سان سو تشي التي «عقدت صفقة مع الشيطان»، بحسب تعبيره.
أصبحت سو تشي في عام 2016 الرئيسة الفعلية لميانمار، لكن منذ ذلك الحين لم تفعل شيئا لوضع حد للعنف المتزايد الذي يواجهه أبناء الأقلية المسلمة من الروهينغا الذين يقطنون تاريخيا ولاية راخين في ميانمار وتم طردهم منها بعد التنكيل بهم وحرق قراهم في حملة «تطهير عرقي» كما وصفتها كثير من المنظمات الأممية. وعلى مدار الشهرين الماضيين، وصل عنف الميليشيات البوذية ضد الروهينغا إلى ذروته، وسعى أكثر من نصف مليون منهم إلى اللجوء إلى بنغلاديش المجاورة. ولا يزال الآلاف يحاولون الفرار كل يوم، ويحمل كل منهم معه قصصا عن الإعدامات بعد محاكمات شكلية قصيرة، وعن عمليات الاغتصاب التي تقوم بها العصابات البوذية والجيش، وعن قتل الأطفال. ففي بنغلاديش، انضم هؤلاء النازحون إلى مئات الآلاف مثل عبد السلام ممن فروا من المذابح المنظمة في التسعينات والعقد الأول من الألفية الجديدة.
في الحقيقة، دفع الوضع الجديد كثيرين إلى التساؤل: هل أخطأنا بالمبالغة في الأمل؟ كانت المرة الأولى التي سمع فيها عبد السلام، 62 عاما الآن، عن سو تشي عام 1988 عندما كان عمدة قريته. انتشرت الأخبار في ذلك الحين عن مظاهرات الطلاب ضد المجلس العسكري وأن ابنة الأب الروحي لميانمار الذي طالما عشقته الجماهير تتزعم حزبا سياسيا جديدا تأسس تحت اسم «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية». تصدت سو تشي للجيش، الذي اغتال والدها عام 1947 واستولى على الحكم عام 1962، ودعت إلى انتخابات وطنية. ولأنه كان يراها كـ«ضوء ساطع»، فقد قرع عبد السلام الطبول ليجمع الفلاحين من حوله ويطالبهم بمساندة «الرابطة الوطنية»، وهو ما حدث في يوم الانتخابات حيث منح غالبية شعب الروهينغا وميانمار أصواتهم لسو تشي وفاز حزبها بالانتخابات محققا انتصارا ساحقا.
بيد أن ما حدث لاحقا كان كارثيا، فقد قضت سو تشي 15 عاما من السنوات الإحدى والعشرين اللاحقة قيد الإقامة الجبرية ولم تستطع رؤية زوجها الذي توفي في بريطانيا بالسرطان خشية عدم تمكنها من العودة إلى بلادها. وعمد الجيش إلى بث الخوف وسط الطوائف التي احتضنت الثورة، وكان من بينها الروهينغا.
أصبح اسم سو تشي مرادفا للنضال في سبيل حقوق الإنسان وحصلت على جائزة نوبل للسلام عام 1991، وارتفعت شعبتيها كقديسة رغم إنها نادرا ما تحدثت عن الممارسات السيئة للجيش تجاه الأقليات. لكن لو أننا رجعنا إلى الماضي، سنجد أن سو تشي لم تبدي تعاطفا يوما مع الروهينغا، وبحسب فرانسيس وويد، مؤلف كتاب «عدو ميانمار في الداخل»، لم يحدث أن خاطبت سو تشي طائفة الروهينغا في الكلمات التي ألقتها عام 1988 وهو ما كان سببا في شعور عبد السلام بالحنق الشديد. أضاف وويد أنه «لم يجد في تاريخها ما يقول إنها دعت إلى معاملة هذه الطائفة بصفتهم مواطنين»، ورغم ذلك تمسك عبد السلام ببطاقة عضويته بحزب «الرابطة الوطنية» كل تلك السنوات.
أضاف عبد السلام أن «الجنود كانوا يأتون إلى المسجد وقت الصلاة ولم نكن نستطيع الهروب وكانوا يخطفوننا ويأمروننا بحمل أمتعتهم وكأننا حمير. كانوا يأمروننا بطهي لحم الخنزير لهم، وكانوا يسكبون الخمر على قبور آبائنا. كثيرا ما أتوا قرانا لاختيار أي فتاة تعجبهم ويذهبون بها إلى بيتها ويطلبون من أهلها الخروج ثم يغتصبونها في بيتها. كانوا يفعلون كل ما تتصوره أمام أعيننا».
وقف عبد السلام ليعيد تمثيل مشهد الهجوم الذي تعرضت له قريته وبصق عن غير قصد أثناء صياحه. أخذ عبد السلام يلوح بيديه وكأنه يمسك منجلا وتقدم للأمام ملوحا به قبل أن يهوي على الكرسي منهارا ليقول بصعوبة بالغة: «هكذا قتلوا طفلا أمامي»، ثم وضع وجهه بين راحتيه وأخذ في البكاء قائلا: «كنا كالحيوانات بالنسبة لهم».
تعتبر طائفة الروهينغا أكثر الفئات تهميشا في مجتمع ميانمار، حيث يمثل البوذيون نسبة 90 في المائة من عدد السكان، ولذلك لا يرون تلك الأقلية مواطنين. ورغم أن بعض أبناء الروهينغا يزعمون بأن تاريخهم في البلاد يمتد لقرون كثيرة، يقول كثير من البوذيين إنهم يعودون لحقبة ما بعد الاستعمار وإن البريطانيين هم من أحضروهم من البنغال في القرن التاسع عشر للعمل في الحقول وإنهم تزايدوا في القرن العشرين فقط. ساهمت ملامحهم المميزة في جعلهم منبوذين، ووضعتهم هيئتهم الدينية الواضحة موضع الشك دائما، واستغل الجيش حوادث عنف قام بها أبناء الروهينغا دفاعا عن النفس (مهاجمة بعض مراكز الشرطة بالعصي والسكاكين في 52 أغسطس «آب») لاعتبار جميع أبناء الروهينغا إرهابيين.
لم تشارك سو تشي في شيطنة الروهينغا التي شاعت في أنحاء ميانمار، بل اعترضت على استخدام كلمة «الروهينغا»، حيث يفضل المتحدث باسم مكتبها استخدام لفظ «البنغالي»، للدلالة على أنهم مهاجرون غير شرعيين رغم أنهم ولدوا على أرض ميانمار. وفي كلمة لها الأسبوع الماضي تحدثت فيه عن الأزمة الراهنة، وصفت سو تشي أبناء الروهينغا بكلمة «هؤلاء الذين عبروا الحدود إلى بنغلاديش».
في الحقيقة، لم تصدر أوامر التصدي للروهينغا عن سو تشي، بل عن الجنرال مين أونغ هالينغ الذي يعد أكبر قائد عسكري في البلاد. لكن لم تعترف رئيسة البلاد بالفظائع التي ترتكب في حقهم رغم أنها وثقت بكل تفاصيلها من قبل الصحافيين ومن قبل جمعيات حقوق الإنسان.
لكن رئيسة البلاد نفت هي والجيش مزاعم إبادة أو حتى طرد أقلية الروهينغا خارج البلاد، وزعمت بأن عمليات «التصفية العرقية» التي جرت في قرى الروهينغا تهدف إلى إخماد ثورة الإسلاميين هناك. واستمرت الأمم المتحدة في وصف ما يجرى باعتباره «تطهيرا عرقيا» وأن هدف الجيش ليس طرد الروهينغا بل منع عودتهم إلى البلاد مجددا عن طريق حرق المئات من قراهم.
ويعكس موقف سو تشي المتخاذل مما يجري استمرار خضوعها للجيش الذي يهيمن بدوره على الحكومة رغم الامتيازات التي قدمها والمفترض أن تعزز الديمقراطية.
الجدير بالذكر أن نحو ربع مقاعد البرلمان مخصصة للجيش شأن وزارات الداخلية والخارجية والدفاع، ناهيك عن غالبية المقاعد بمجلس الدفاع الوطني، ومجلس الأمن الوطني الذي يملك صلاحية حل الحكومة. ويعنى ذلك أن الجيش بمقدوره القفز في المشهد واستبدال سو تشي حال شعر بأنها تتدخل في صلاحياته وخططه، وفي حال ساندت رئيسة البلاد طائفة الروهينغا فسوف تتراجع شعبيتها بين الأكثرية البوذية، مما يجعل عزلها عن منصبها أمرا سهلا.
ولذلك فإن حصول مواطني الروهينغا على حق المواطنة أمر غير قابل للنقاش في ظل المناخ السياسي الحالي، وبحسب وويد، فإن «الفرص تتضاءل أكثر وأكثر». تلاشى هذا الحلم أيضا بالنسبة لمحمد صديق الذي طالما افتخر والده محمد حسين بكونه حامل راية حزب «الرابطة الوطنية»، وما زال يذكر أن بطاقة عضوية والده في الحزب أنقذتهم من الترحيل القسري في التسعينات.
وكشف صديق عن أن «الأمم المتحدة أخبرت البنغاليين أن أي شخص ذي صلة بالرابطة الوطنية معرض للقتل أكثر من غيره حال عودته إلى بلاده»، مضيفا أن والده قال لأحد القضاة ذات مرة إنه «عندما تأتي الديمقراطية إلى ميانمار فسوف نعود إليها فورا وحينها سيحصر علم الرابطة الوطنية الأحمر الذي أخذه معه ليدعنا نراه».
توفي حسين عام 2014 بعد أن عاش سنوات طويلة فقد خلالها الأمل في الرابطة الوطنية، لكن لحسن حظه لم يشهد المذابح التي حلت بشعب الروهينغا في الشهرين الأخيرين، والآن بلغ ابنه 33 عاما وأصبح على يقين من أن شعب الروهينغا سيعيش من دون دولة تحتضنهم إلى الأبد.
* خدمة «واشنطن بوست»