طريق شائكة وطويلة لبناء جيش ليبي موحد

تساؤلات «العقيدة العسكرية» و«الشرعية» و«الولاء» تنتظر إجابات

أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)
أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)
TT

طريق شائكة وطويلة لبناء جيش ليبي موحد

أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)
أفراد من الجيش الوطني الليبي يشتبكون مع عناصر متشددة في أحد أسواق بنغازي في مايو الماضي (غيتي) - المشير خليفة حفتر (رويترز)

أعاد المُشير خليفة حفتر، في 2014، لَمْلَمة القوات العسكرية الليبية، بعد أن تفرقت بها السبل وتعرضت لضعف وانقسام، جراء انتفاضة مسلحة دعمها حلف شمال الأطلسي (ناتو) ضد حكم معمر القذافي. لكن عدد الضباط والجنود في ظل النظام السابق كان يزيد قليلا على 140 ألف عنصر نظامي، وفقا للضابط السابق والسياسي الحالي، أحمد قذاف الدم. واليوم يبلغ قوام القوات المنضوية تحت قيادة حفتر نحو 35 ألفا فقط. فأين ذهب الباقون، بأسلحتهم وعتادهم وعقيدتهم العسكرية؟
رغم ظروفٍ صعبة تمرُّ بها المؤسسة العسكرية، منذ مقتل القذافي في مثل هذا الشهر من عام 2011، فإن حفتر تمكَّن من تحقيق أمرين... الأول قتالي؛ ويخص طرد جماعات متطرفة من معظم مناطق الشرق والجنوب. والآخر يتعلق بإصلاحات هيكلية في بنية الجيش الموروثة من العهد السابق، وهي - كما يقول العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الليبي - أن تَكُوْن «الكتائب الأمنية»، مثلها مثل «كتائب الجيش» تابعة، فقط، للقيادة العامة للقوات المسلحة.

ظهرت «الكتائب»، بأسلحتها الثقيلة كالدبابات الروسية والمدرعات وراجمات الصواريخ وقذائف الهاون، مصطلحا سيئ السمعة، لقمع الانتفاضة المسلحة ضد حكم العقيد الراحل. ولم يكن لها قيادة موحدة تُذكر. بيدَ أنَّ قذاف الدم، الذي بدأ حياته العسكرية مع القذافي، يرى أن الأمر لم يكن بهذه الصُّورة القاتمة. وعلى العكس من ذلك، يقول: إن كل المقاتلين كانوا يخضعون للقوات المُسلَّحة، وكانوا يدافعون عن الوطن في 2011.
على كل حال، تبدو الطريق اليوم طويلة، من أجل الوصول إلى جيشٍ مُوحَّد. ولا يُحب العسكريون في ليبيا - مثل غيرهم في أي مكان آخر في العالم - الكلمات التي تتعلق بالتساؤل عما إذا كانت هناك انقسامات في مؤسسة الجيش وعقيدته، أم لا، سواء بالنسبة للضباط الذين ما زالوا محسوبين على نظام القذافي، أو العسكريين المحسوبين على انتفاضة فبراير (شباط) التي أسقطت «العقيد الراحل»؛ والمقصود بهم حفتر وخصومه من قادة تلك الانتفاضة.
وبينما تجري محاولات لتوحيد الجيش الليبي، انطلاقاً من مصر، بالتزامن مع جُهود المبعوث الدولي غسَّان سلامة، لإنهاء الخلافات، تستطيع أن تقول في يأس: ماذا يفعل الإنسان إذا كانت بعض الأسئلة لا تجد إجابات شافية من داخل الوحدات العسكرية المنتشرة في ربوع ليبيا؟
مثلا... كيف يمكن تفسير موقف العميد المخضرم مصطفى الشركسي، الذي كان آمرا لمنطقة بنغازي العسكرية، ثم وجد نفسه خصما لحفتر ويقود «سرايا الدفاع» المتهمة بالإرهاب والمصنفة في القائمة المرتبطة بقطر.
وبعد حديث مطول مع الشَّركَسي، وهو وسط الصحراء، تستطيع أن تدرك أن بعض الأمور يمكن أن تُحل بخليطٍ من الحُوار، وحُسن النوايا، وإظهار القوة أيضا. فهناك عملية جراحية يظهر أنه لا بد منها، كما يقول أحد آمري الاستخبارات العسكرية هنا، وهي «الإقدام سريعا على فك ارتباط ضباط كبار، معروفين، بأي ميليشيات مذهبية أو مناطقية».
ويرى أن الأمر نفسه يسري على قيادات عسكرية أخرى مبعثرة هنا وهناك. مثلا... ما ملابسات موقف الفريق علِي كَنَّة، الذي كان من الضباط الأقوياء أيام النظام السابق؟ لقد كان متحمسا لإصلاح أوضاع المؤسسة العسكرية عقب مقتل القذافي. غير أنَّ دوره اليوم يبدو أنه يتقلص إلى مجرد مدافع، مع جنوده وضباطه، عن قبيلته «الطوارق»، ذات الأصول غير العربية، في إقليم فزان جنوب ليبيا.
لقد تحوَّل موقف كَنَّة، في نظر بعض العسكريين المنتمين لقبائل عربية هناك، ومنهم آمر الاستخبارات المشار إليه، إلى مصدر قلق، في بعض الأحيان، بشأن تهيئة البلاد للتقسيم، وبخاصة بعد استقالة ابن قبيلته، موسى الكوني، من المجلس الرئاسي المدعوم دوليا، والذي يرأسه فايز السراج؛ وذلك بالنظر أيضا إلى شرحٍ مماثلٍ قدَّمه الدكتور محمد الورفلي، القيادي السابق في مؤتمر القبائل الليبية.
ومع هذا، ورغم أطماع دول عدة للهيمنة على الجنوب - منها فرنسا - ومحاولاتها استقطاب الفريق كَنَّة بعيدا عن مؤسسة الجيش، فإن هذا العسكري قليل الكلام، لديه رؤية تتعلق بتوحيد المؤسسة، وبإمكانه أن يكون إضافة مهمة لها في عموم البلاد، وليس في الجنوب فقط.
ويقول أحد مساعديه من الضباط ذوي الأصول الطوارقية: نحن ليبيون... هدفنا الحفاظ على وحدة ليبيا. وهذا لن يتحقق إلا بوحدة المؤسسة العسكرية. المشكلة، أن التواصل بين القيادات في عموم البلاد أصبح أقل من السابق... أو هذا على الأقل ما نلاحظه في الجنوب، حتى بالنسبة إلى العسكريين من قبيلة التبو (وهي قبيلة من أصول غير عربية أيضا، ومنافسة كذلك للطوارق في الجنوب).
وفي منطقة الوسط الليبي، اختفى من المشهد العميد محمد أحمودة، الذي قاد عملية «البرق الخاطف» ضمن الجيش الذي يتزعمه حفتر، لتحرير الموانئ النفطية من الميليشيات مطلع هذا العام. ويقول أحد وجهاء قبيلته إنه «موجود في بيته، ولا يفضل الظهور في الإعلام، أو التحدث عن سبب اختفائه من المشهد العسكري... لقد كان مخيفا للخصوم». ويشير إلى أن العميد أحمودة... «ربما صادفته خلافات مع بعض القادة، وقد يكون رأى من الأفضل أن ينسحب، بدلا من زيادة المشاكل في هذه الظروف الصعبة».
وفي العاصمة، هناك العميد محمود زَقَل، قائد «الحرس الوطني». وهو رجل يتميز بلغة نظامية صلبة، ويقود مئات عدة من الضباط والجنود. ومحسوب على «المؤتمر الوطني (البرلمان السابق)» المنبثق عنه حكومة الإنقاذ التي يرأسها خليفة الغويل. ما موقف العميد زَقَل من الإعراب في أي ترتيبات جديدة؟
يبدو من إجاباته - ومن خلال الاستماع إليه مرات عدة في الفترة الأخيرة - أنه معارض متشدد لحفتر وحربه في الشرق. ويقول: «أنا شخصيا لن أرضى في أي يوم من الأيام أن يكون حفتر في المشهد. إنه يطمع في السيطرة على السلطة. إنه يريد أن يكرر تجربة القذافي. وهذا غير مقبول لدينا».
ويوجد أيضا العميد عمر عبد الجليل، آمر غرفة تحرير مدينة صبراتة، الشهير بأدبه الجم وصبره الطويل، والذي أعلن، عقب طرده الميليشيات المسلحة من منطقته في غرب طرابلس، قبل أسبوع، أنه يتبع السراج، بعد أن ساد اعتقادٌ بأنَّه يتبع حفتر. وللعلم، يستمد المشير حفتر شرعيته من «البرلمان»، بينما يستند العميد عبد الجليل في تلقي الأوامر من السراج، على القرار رقم 4 الذي أصدره رئيس المجلس الرئاسي في 2016 بتشكيل حكومته. وهو قرار لم يُعتمد من «البرلمان» حتى الآن. ويلعب مثل هذا التضارب في السلطات دورا في تشرذم العسكريين.
وأيضا العميد نجمي الناكوع، القائد العسكري الأسمر، الذي يعتمد عليه السراج في حفظ الأمن في مناطق بطرابلس، حيث يقوم الرجل، برئاسة «الحرس الرئاسي»، ويحاول جذب عسكريين سابقين للعودة إلى صفوف الجيش، وقد شمَّر كُمَّي بزته العسكرية... كأن الموضوع صعب تحقيقه. وهو يظهر أنه كذلك بالفعل، في ظل وجود منافسه «الحرس الوطني»، بقيادة العميد زَقَل، داخل العاصمة نفسها!
ويوجد بعض من القادة العسكريين الآخرين، وجنودهم، ممن كانوا بمثابة العمود الفقري لجيش الدولة في عهد النظام السابق، وقد وجدوا أنفسهم، بعد نحو سبع سنوات من رحيل القذافي، والفوضى السياسية، وغياب السلطة المركزية، يعملون إما كجزر منعزلة في مناطقهم، أو ينتظرون في دول الجوار إلى حين، كما يفعل آلاف عدة منهم.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يعرف بـ«قوات البنيان المرصوص»، وأغلب قادتها العسكريين من مدينة مصراتة، وتولت، تحت قيادة السراج، مهمة تطهير سرت من تنظيم داعش، أواخر العام الماضي، بعد أن أصبح التنظيم يمثل خطرا على المدينة. لكن هذه القوات لم تعد اليوم على نفس درجة الوفاق مع السراج.
أثناء الانتفاضة المسلحة، كان صراخ بعض الأطراف يعلو من جبروت «الكتائب الأمنية» باعتبار أنها كتائب غير منضوية تحت سلطة الجيش، وتدافع عن شخص القذافي. لكن قذاف الدم الذي رافق العقيد الراحل لسنوات طويلة يقول: إن «هذه مسميات كانت جزءا من الحرب النفسية».
ويضيف: «الحقيقة أن القوات المسلحة العربية الليبية كانت في ذلك الوقت تتشكل من أربع قوات، هي القوات البرية، والبحرية، والجوية، والدفاع الجوي... وتحتها سلسلة من الفروع. مثلا كان في القوات البرية، الوحدات الأمنية، والردع، والحرس، والمناوبة الشعبية، والحرس الشعبي... هذه كلها أفرع من القوات المسلحة، وتتبع القائد العام، ورئيس أركان القوات البرية».
ويشير في هذا السياق إلى نقطة لافتة، تتعلق بما كان يعرف في الجيش الليبي بـ«المناوبة الشعبية المسلحة»، التي يوضح أنها كانت «تشبه ما هو موجود لدى جيش الدفاع الإسرائيلي». ويقول إنه في حالة النفير «كان العدد يصل إلى نحو 450 ألف مقاتل؛ لأن الشعب الليبي كان، كله، مُجيشّا في وحدات قتالية. وكل الطلبة الليبيين، من المرحلة الثانوية إلى الجامعة، كانوا يتدربون على حمل السلاح، ويدخلون في تخصصات».
وعما إذا كان انضمام بعض القيادات العسكرية، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، إلى جماعات مذهبية أو جهوية أو بعض القبائل، أثرت في عقيدة الجيش، يجيب قائلا: «لا... لأن الجيش الليبي عادة معبأ نفسيا ومعنويا، مثل أي جيش في العالم، للدفاع عن الوطن».
أما عن بعض القيادات العسكرية التي انضمت مع ميليشيات ومع جهات أخرى، ولا تعمل تحت قيادة حفتر، وهل هذا يمكن أن يؤدي إلى تقسيم ليبيا؟ يجيب مرة أخرى موضحا: «لا... معظم العسكريين الآن في مدنهم، وقراهم، يحاولون الالتحاق بالجيش، بغض النظر عمن يقود؛ لأنه، في الحقيقة، لا أحد يقود في ليبيا. كلها هياكل وَهْمِية. العسكريون تنادوا، اليوم، لكي يثبِّتوا الأمن، ويواجهوا التطرف الموجود في مناطقهم... يشكلون وحدات قتالية لمواجهة هذا الخلل».
رغم كل شيء تمكنت القوات العسكرية التي جمعها حفتر في ظروف صعبة، من أن تفرض نفسها، وهي تقصف بمدافع الهاوزر أوكار الجماعات المتطرفة، ليس في منطقة واحدة، ولكن في مواقع عدة، بدأت من الشرق ووصلت إلى الجنوب، وأعينها الآن على غرب البلاد. وكما يقول أحد أعضاء لجنة الحوار السياسي التابعة للبعثة الأممية: على الأقل تستطيع القول إنه أصبح يوجد في ليبيا جنرال يمكن التحدث معه. هذا سيساعد على إقناع المجتمع الدولي برفع الحظر عن تسليح الجيش المفروض عليه منذ عام 2011.
ولدى حفتر ضباط أقوياء، مثل اللواء المبروك سحبان، آمر المنطقة العسكرية الوسطى الممتدة من إجدابيا إلى سرت. ويعد اللواء سحبان، بقواته، ومعظمها من النخبة التي جرى تدريبها أيام القذافي، العائق الوحيد، حتى الآن، لانفصال المنطقة الشرقية عن إقليمي طرابلس غربا وفزان جنوبا، كما يقول الدكتور الورفلي. بالإضافة إلى أن قوات حفتر تمكنت، خلال الشهور الماضية، من التمركز في مناطق مهمة في الجنوب وطرد ميليشيات عدة إلى الصحراء، إضافة إلى مغازلة ضباط كبار في غرب طرابلس.
ويقول مصدر عسكري تابع لغرفة عمليات سرت الكبرى: إذا عرفت أننا أصلحنا أسلحة قديمة عمرها يزيد على 30 عاما، واستخدمناها بكفاءة، فهذه إنجازات ضخمة بالنظر إلى استمرار الحظر الدولي على تسليح الجيش. وبالنظر إلى استمرار بعض الجهات الإقليمية في تدليل ودعم زعماء ميليشيات من خصوم حفتر وبخاصة في طرابلس، وبالنظر إلى محاولات لاستقطاب قادة عسكريين من غرب البلاد وجنوبها.
ويضيف: مهما كان، فنحن نعمل بما لدينا من إمكانات ضعيفة، لكننا نتقدم. وتستطيع أن ترى آثار هذا التقدم على وجوه الليبيين، على الأقل في المنطقة الشرقية، حيث ارتاحوا أخيرا من جرائم المتطرفين. التعويل اليوم على توحيد مؤسسة الجيش، وهذا سيحدث قريبا.
وردا على سؤال بشأن ظهور دعوات في بعض المناطق الليبية بترشيح حفتر ليكون رئيسا للبلاد، وما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا التحرك من غضب لدى قادة عسكريين متربصين، أصلا، بتحركاته، يقول أحد القادة المقربين من الجنرال في قاعدة الرجمة: إن الهدف من توحيد الجيش ليس سياسيا، و«الحقيقة أن حفتر لا يسعى لمنصب سياسي... نحن ندافع عن بلادنا المعرّضة للضياع، وليس عن سياسيين».
لقد كانت مسألة توحيد الجيش مجرد حلم وفكرة، إلا أن عزيمة حفتر، كما يرى البعض، نقلت هذه الفكرة إلى طاولة الحوار، إقليميا ودوليا. ودخلت مصر لتأخذ بيد الليبيين في هذا الاتجاه. بَيْدَ أنَّ التحدي هو كيفية دمج القادة الآخرين، بضباطهم وجنودهم، في كيان واحد والالتفاف حول عقيدة واحدة. ويقول العميد المسماري: «بالتأكيد عقيدة الجيش الليبي هي عقيدة دفاعية، للدفاع عن ليبيا، وعن مكتسبات الشعب الليبي، وفرض سيطرة الدولة على إقليمها الجغرافي بالكامل».
لكن، مرة أخرى، ما العمل تجاه استقطاب جهوي ومذهبي يبدو أنه يجرُف ضباطا كبارا في غرب ليبيا وجنوبها، بعيدا عن سلطة الجنرال حفتر، وهو أمر يرى البعض أنه يمكن أن يدفع إلى تفتيت البلاد، كما يوضح الدكتور الورفلي.
ومع ذلك، ورغم الجانب القاتم من القصة، ما زالت توجد فُرص، وضغطٌ دولي، وجهودٌ عربية ومصرية، لإنقاذ الدولة الليبية. فقد التقى حفتر، المَزهوّ بانتصارات جنوده، قبل أيام، مع سلامة، في مكتبه في قاعدة الرجمة العسكرية، على بعد 40 كيلومترا من مدينة بنغازي. وسبق لعواصم مثل موسكو وباريس وروما، استقبال الجنرال الذي يحتفظ بعلاقات قوية ومهمة، مع كل من القاهرة وأبوظبي.
وقبل نهاية الشهر الماضي اتفق عسكريون ليبيون في القاهرة، على تشكيل لجان فنية ونوعية مشتركة لبحث آليات توحيد مؤسسة الجيش الليبي. ويقول المسماري: «لقد قررنا الآن البدء في عمل هذه اللجان بمصر».
وعما إذا كان يرى أن النزعات الجهوية والمذهبية لبعض العسكريين يمكن أن تؤثر على الجيش، يجيب المسماري قائلا: «أنا أتحدث عن القوات المسلحة... الجيش الوطني الليبي. كل العناصر التي تنتمي إلى الجيش الوطني الليبي، لا تنتمي إلى قبائل، ولا تنتمي إلى تكتلات معينة، أو أحزاب معينة، كل من ينتمون لهذه الأحزاب، أو ينتمون لهذه العقائد القبلية، أو الميليشياوية، أو الحزبية... هؤلاء خارج القيادة العامة للقوات المسلحة».
أما المحلل السياسي الأميركي شريف الحلوة، الذي كان يتجول بين مدن عدة في الغرب الليبي، فيرى الأمور من منظور مختلف. ويوضح قائلا إن وجود قيادات عسكرية ليبية كبيرة خارج سلطة حفتر، يؤثر في الجيش بالفعل... «هذا أمر طبيعي، ويمكن أن تتسبب مثل هذه القيادات في الجنوب والغرب في تقسيم البلاد إلى ثلاث دول أو أقاليم... ولا بُدَّ أنْ تعلم أن الفوضى التي مرت على ليبيا جعلت لكل قيادة أتباعها في منطقتها».
ولا يمكن - كما يقول الحلوة - تجاهُل وجهات نظر قيادات عسكرية معتبرة، أو التغاضي عن أسباب رفضها العمل تحت قيادة حفتر حتى الآن. ويضيف: «أعتقد أن حفتر عسكري، قد يكون ذكيا، لكنه ربما يفتقر إلى مَلَكات تجعله زعيما مُوحِدا لكل الأطراف الليبية، حتى الآن». ويشير إلى أن محاولات توحيد الجيش لا تقتصر فقط على الجهود التي يقوم بها حفتر انطلاقا من شرق ليبيا، أو من مصر، ولكن «يوجد الآن، كما نرى، محاولات لتوحيد بعض القيادات العسكرية، وتوحيد الصف العسكري، في مناطق أخرى من البلاد».
ويقول أيضا: «هناك، من بين هؤلاء القادة العسكريين، من لهم علاقة وطيدة بوزارة الدفاع الأميركية، ويمكن أن يكون لهم دور في مستقبل ليبيا... كما أن هناك قيادات عسكرية لا تريد الدخول في المشهد في الوقت الراهن، حتى لا يُحسبوا على أي من الأطراف المتنازعة سياسيا».
ويتابع الحلوة: «أعتقد أنه مهما حدث فإن الجيش لن يستمر في حالة الانقسام... ما أعرفه أنه يوجد تواصل بين قياداته؛ لأنهم، في الأصل، أبناء مؤسسة واحدة، مهما حدث من تغيرات سياسية».
ويقول العميد زَقَل: «نحن نريد حكومة ليبية تستطيع جمع الليبيين... تكون ديمقراطية مدنية... والجيش مهامه معروفة، في أي دولة ديمقراطية؛ وهي حماية الوطن... وألا يتدخل في الأمور السياسية».
أما العميد الشركسي، خريج الأكاديمية العليا لضباط الطيران في بولندا، والذي سبق وأعلن استعداده لحل سرايا الدفاع عن بنغازي، فيرفض رفضا تاما التعامل مع حفتر.. «نحن خلافنا واحد؛ حفتر... إذا خرج حفتر من المشهد فنحن لسنا انتقاميين. نحن نريد قيام مؤسسات الدولة».
ومنذ أكثر من سنة كلفت القاهرة الفريق محمود حجازي، رئيس أركان الجيش المصري، برئاسة لجنة معنية بليبيا. وعقدت اللجنة لقاءات مع سياسيين وناشطين ليبيين، والأهم، مع عسكريين من أتباع حفتر ومن منافسيه، في محاولة لتوحيد الجيش، حتى يكون قادرا على إنهاء حالة الفوضى والانفلات الأمني والقدرة على حراسة حدود الدولة الليبية.
وتطور الأمر، خلال مناقشات القاهرة، إلى استلهام تجربة قديمة تعود لعام 1939 حين بدأ تأسيس جيش التحرير الليبي، بمساعدة من البريطانيين، انطلاقا من ضاحية أبو رواش في غرب العاصمة المصرية، من أجل تحرير ليبيا من الاحتلال الإيطالي حينذاك.
وكان والد قذاف الدم أحد قيادات هذا الجيش الوليد، حيث تولى في خمسينات وستينات القرن الماضي موقع آمر منطقة إقليم فزان. وعقب اجتماع لقيادات من الجيش الليبي مع الفريق حجازي، قبل أيام، صرح العميد أركان حرب تآمر الرفاعي، الناطق باسم الجيش المصري، بأن أبناء المؤسسة العسكرية الليبية اختاروا مصر لتكون نقطة البدء في إعادة تنظيم الجيش الليبي، كما كانت نقطة البدء عند التأسيس، في النصف الأول من القرن الماضي.
ويقول الرفاعي: «نعم... ما يمكن قوله أن الاجتماع تطرق لمختلف الشواغل التي عرقلت مسيرة توحيد المؤسسة العسكرية الليبية. كما تطرق الاجتماع أيضا لمختلف الأفكار والحلول لتدشين مرحلة جديدة على مسيرة توحيد المؤسسة العسكرية الليبية».
ومن جانبه، يبدو العميد المسماري متفائلا، مثل معظم قيادات الجيش التي جاءت إلى القاهرة خلال الشهور الأخيرة، أو تلك التي تترقب من بعيد، بمن فيهم ضباط من مدينة مصراتة التي تعد من أقوى المدن تسليحا وعداء لحفتر.
وعلى العموم، يمكن كذلك ملاحظة تغيُّر في لهجة عسكريين من مصراتة. فالعقيد سالم جحا، مثلا، وهو ممن شاركوا في دعم الانتفاضة ضد القذافي، بدا، أخيراً، أنه يُفضِّل التوصل إلى حلول وسط من أجل توحيد الجيش، رغم أنه ما زال هناك ضباط متشددون، من مصراتة، ضد الجنرال حفتر، مثلهم مثل العميد زَقَل في طرابلس، والعميد الشَّركسي، ابن بنغازي، وغيرهم.
وبينما تمر الأيام، يبدو أن قطار توحيد الجيش الليبي يستعد للانطلاق من مصر، بمن لديه الرغبة في ذلك، بغض النظر عن أي مواقف مسبقة. ومن جانبه، يقول المسماري: «سيبدأ في مصر عمل اللجان الفنية... الغرض دراسة ضم، أو توحيد، كل المؤسسة العسكرية، بضباط من المنطقة الغربية، والشرقية، والجنوبية. وستعمل هذه اللجان برئاسة الفريق حجازي».
وعلى كل حال، من السهل أن تلمس شعوراً بالثِّقة لدى ضباط مصريين كبار بشأن إمكانية إنجاز المهمة قبل فوات الأوان. ومع ذلك، تبدو ظروف تأسيس الجيش الليبي في غرب القاهرة عام 1939 مختلفة عما يجري اليوم، إلا أن بارقة الأمل ما زالت تلوح في الأفق أمامهم ولو بعد حين.



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».