الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز... أهم قرارات بناء الدولة والمؤسسات والإرث الممتد

«الشرق الأوسط» تنشر مراسلات خاصة وتفاصيل تُكشف لأول مرة

الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
TT

الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز... أهم قرارات بناء الدولة والمؤسسات والإرث الممتد

الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز

حظي تاريخ الملك عبد العزيز على مدى عقود باهتمام المؤرخين والباحثين على اختلاف توجهاتهم وجنسياتهم، وغطت عشرات البحوث والدراسات والمؤلَّفات جوانب متنوعة من ذلك التاريخ، سواء ما يتعلق بسيرة الملك السياسية، وشخصيته القيادية، وفكره الاستراتيجي، ومهاراته العسكرية، ورؤيته النهضوية... فذلك ليس تاريخ ملك فحسب، وإنما تاريخ مملكة وسيرة أمة.

يصف الكاتب والدبلوماسي، خير الدين الزركلي، كيف أنه في أقل من 50 عاماً نجح «رجل واحد في أن ينشئ بين البحر الأحمر وخليج العرب ما عجز 12 قرناً عن إنشائه أو الإتيان بمثله». ووصف الزركلي ذلك بالقول: «إمارات تتوحد، وأمة تتكون، ودولة تُبنى، وحضارة تُشَيَّد».

وإلى ذلك، يضيف الأديب والمؤرخ السعودي محمد حسين زيدان: «الملك عبد العزيز تاج تاريخه. لقد رد الاعتبار لجزيرة العرب في وحدة الكيان الكبير». أما الكاتب والصحافي البريطاني، سيسيل روبرتس، فيشرح كيف «ملأ الملك عبد العزيز فراغاً كبيراً في التاريخ، باسطاً ملكه على مساحة تقارب مساحات إنجلترا وفرنسا وألمانيا مجتمعة»، ويضيف: «لقد غنم ملكاً باذخاً بسيفه، وأمن حمايته بالسياسة».

الملك عبد العزيز وقد شارف على السبعين من عمره

ويرجَّح أن يكون الملك؛ الذي عاش نحو 80 عاماً، قد وُلد في عام 1293هـ - 1876م في مدينة الرياض، بينما سُجلت وفاته في 2 ربيع الأول 1373هـ - 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1953م في مدينة الطائف. ورغم مرور 7 عقود على رحيله؛ فإن وقائع كثيرة أحاطت بتلك الوفاة تحتاج إلى تجلية، وأخرى إلى إيضاح، وثالثة إلى تصويب، وغير هذه وتلك؛ هناك ما يقتضي التدقيق والتثبت أيضاً. وغاية هذا البحث توثيق وقائع الوفاة وما رافقها من ردود فعل رسمية وشعبية من جهة، وأيضاً الإشارة إلى أبرز قرارات الملك المؤسس في أواخر أيامه، وما أوكله من مهام، وأصدره من أوامر وتعليمات، تثبت استقرار البلاد، وترسخ رؤيته في بناء الدولة ودعائمها، والحفاظ على أمنها واستقرارها؛ فالملك عبد العزيز لم يكن حاكماً فحسب، بل صاحب رسالة، وباعث نهضة، وباني دولة، وموحد أمة.

وما يقتضي التدوين والتوثيق أيضاً، طريقة تعامل أبناء الملك عبد العزيز مع ذلك الحدث الجلل؛ فرغم مصابهم بالفقد الكبير، فإن مهمتهم الهائلة في تحمُّل مسؤوليات حكم، وترتيب انتقال سلطة، وتأمين استقرار بلاد، وإدارة شؤون دولة لم تنل أيضاً حقها كاملاً من التوثيق. فما اصطلح الدستوريون على تسميته «فراغ السلطة» في حالات كثيرة؛ أحد أكثر الأوقات حرجاً في تاريخ الدول، هو مما لم تعرفه المملكة العربية السعودية طوال تاريخها. ولا شك في أن مرد ذلك هو المرجعية التي اعتمدتها مؤسسة الحكم، والسوابق الدستورية التي أقرتها، وحرص الملك عبد العزيز على وضع آلياتها قبل وفاته، لا سيما الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته التي يرصدها هذا العمل.

وإذ يسجل شهر نوفمبر الحالي ذكرى مرور 70 عاماً على وفاة الملك عبد العزيز، سنحاول الإجابة عن كثير من التساؤلات التي تتعلق بذلك التاريخ المهم في المملكة العربية السعودية، والذي تزامن مع انتقال مقاليد الحكم إلى أبناء الملك عبد العزيز، بما يحمله من دلالات وأثر على ما تلته من مراحل.

الرحلة الأخيرة

الملك على «الحصان» وهو كرسي متحرك أهداه إياه الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت

لم تعلم الحشود التي توافدت إلى ساحة مطار الرياض فجر السبت 28 ذو القعدة 1372هـ - 8 أغسطس (آب) 1953م لتوديع الملك المؤسس، أنه سيكون الوداع الأخير. وفي ذلك الفجر أنهى الملك صلاته، وخرج بموكبه لآخر مرة من بوابة «قصر المربع» قاصداً المطار وقد بدت عليه أعراض التقدم في العمر، وكان منذ نحو 8 سنوات (1364هـ - 1945م) غير قادر على المشي، ويعتمد في حركته على «الحصان» وهو كرسي متحرك أهداه إياه الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت.

وبفيض من المشاعر، يصف الأديب والتربوي السعودي السيد أحمد علي الكاظمي لقاء الملك على عربته عام 1370هـ - 1950م، فيقول: «كنا دخلنا المجلس قبل الملك، ثم بعد قليل جاء جلالته راكباً عربة صغيرة جميلة ذات عجلتين كبيرتين من خلف وعجلتين صغيرتين من أمام، وفوق رأسه مظلة يدفعها أحد المرافقين. وبرؤيته في هذه العربة تذكرت أشياء كثيرة مرت بذاكرتي مرور الطيف والحلم، وكلها تدل على التوفيق الذي رافق هذا الرجل طوال حياته، منذ خروجه لطلب مُلك آبائه. سلسلة من نعم الله التي يسبغها عليه ويغدق عليه بها؛ وذلك - لا شك - جزاء حسن نيته وأعماله الطيبة».

وكان الملك قد أطلق على عربته تلك التسمية المحببة (الحصان)، واستحسن استخدامها؛ ما جعله يترك المشي على قدميه مع تقدم السن والإصابة بتصلب الشرايين، إضافة إلى قلة النوم، والإجهاد بمتابعة شؤون الدولة؛ فهو لم ينم أكثر من 4 إلى 6 ساعات في اليوم، وأصيب بعدد من النوبات التي أثرت في صحته.

ويبقى أن كاريزما الشخصية وهيبة الملك وقوة الحضور لم تغب، كما ظل ملازماً ذلك الحب الكبير من الشعب الوفي لأبي الأمة. وكان الملك رغم ظروفه الصحية عازماً على السفر إلى الطائف للإشراف بنفسه على موسم الحج ذلك العام.

ومع شروق الشمس غادرت الطائرة الملكية من طراز «دي سي 4 سكاي ماستر» الرياض في نحو الساعة 5:30 صباحاً، وكأن شروق شمس ذلك اليوم وبسط أشعتها على هضبة نجد يذكران بشروق شمس الملك عبد العزيز على الرياض قبل ذلك التاريخ بأكثر من 50 عاماً وانطلاقه لتوحيد الجزيرة، وبسط حُكمه عليها بعد قرون من الشتات.

ولا أعلم إن كان أحد في تلك الطائرة المقلعة إلى السماء يتصور أنها الرحلة الأخيرة، وأن شمس الملك عبد العزيز تؤذن بالمغيب، وسط إقلاع سرب من الطائرات أقلّت مرافقي الملك من الأمراء وكبار رجالات الدولة والحاشية والحرس.

الاستقبال في الطائف

الملك عبد العزيز ينزل من طائرته

وفي تمام الساعة 8:20 صباحاً حطت الطائرة الملكية في مطار «الحوية»، وصعد إليها ولي العهد الأمير سعود ونائب الملك في الحجاز ووزير الخارجية الأمير فيصل للترحيب بمقدم عاهل الجزيرة. وعلى أرض المطار اصطفت الحشود من أمراء وعلماء ووزراء وأعضاء مجلس شورى وكبار التجار وقادة الجيش ورؤساء القبائل وعمد المحلات وجموع غفيرة من أبناء الشعب السعودي.

وبعد ذلك، أدت الفرقة العسكرية التحية لجلالته، وعُزف السلام الملكي، ودوّى المطار بالتصفيق، وأقيم سرادق كبير للاستقبال توافدت إليه الحشود قادمة من مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف وضواحيها لتحية الملك.

وألقى نائب رئيس مجلس الشورى وشاعر جلالة الملك أحمد بن إبراهيم الغزاوي قصيدة ترحيبية قال فيها:

-وأقبلت بك في الأجواء أجنحة

-مسخرات تشق المزن والأفقا

-ما أن تحلق باسم الله موغلة

-إلا وضوؤك فيها يغمر الحدقا

ثم غادر الموكب الملكي مطار الحوية متجهاً إلى الطائف، بينما اصطف أبناء القرى على جانبي الطريق يحيون مليكهم المفدى. وما إن وصل الموكب مدخل الطائف حتى أطلقت المدفعية 21 طلقة ترحيبية، واصطف أشبال أبناء المدارس العسكرية مؤدين التحية ومرددين عبارات الترحيب والإخلاص، كما اصطفت الجماهير على جانبي الطريق الممتدة من مدخل الطائف إلى القصر (طريق الملك فيصل حالياً) منشدين الأهازيج الوطنية. وازدانت الطريق بأقواس النصر والزينات والرايات السعودية التي رُفعت في جميع شوارع الطائف وأسواقها. وكان الأمير فيصل قد أعد قصره الجديد (قصر العقيق حالياً) ليكون مقراً لسكن الملك عبد العزيز، وسيرد تعريفه تالياً بـ«القصر الملكي»، واستأجر «الأمير» فيصل فيلتين في حي العزيزية من أمير الطائف وقتذاك عبد العزيز بن معمر، وانتقل للسكن فيهما مع أسرته.

وعند وصول الموكب إلى القصر الملكي أُدِّيت التحية العسكرية، وعُزف السلام الملكي. وفي مساء اليوم نفسه استقبل الملك وفوداً من أهالي الطائف، وأُلقيت خلال الاستقبال قصيدة لوجيه الطائف الأديب عبد الوهاب عرب، وكلمة الأهالي ألقاها نيابة عنهم المدرس بالمدرسة العزيزية الأستاذ أحمد كمال. واستمر برنامج الملك في استقبال الوفود الرسمية والشعبية، وتصريف شؤون الدولة، ووصفت ذلك الجريدة الرسمية بالقول: «لا يزال القصر الملكي العامر بمدينة الطائف يكتظ كل يوم بالوفود من مختلف الطبقات للتشرف بالسلام على جلالة مولانا الملك المفدى، والترحيب بمقدم جلالته الميمون، فيتفضل جلالته بمقابلتهم، ويغمرهم بعواطفه الملكية الكريمة، إلى جانب استمرار جلالته في تصريف شؤون الدولة، وإدارة سياستها العليا، وتوجيه وزاراتها وإداراتها المسؤولة. مع النظر والإيجاز في ما يرفع إلى أعتاب جلالته من المعاملات والمعروضات».

أما الزركلي فوصف مشهداً مختلفاً فقال: «لما أقبلت للسلام عليه، رأيته جامد البصر، لم يعرفني ولم يعرف أحداً من مقبِّلي يده أو جبهته، وفيهم بعض خواصه والمقربين منه، فارتعدت فريصتاي وحزنت. وفي ذلك العام لم يتمكن من ترؤس الحج، فناب عنه ولي عهده الأمير (الملك) سعود». ولعل الملك كان يصاب بحالات وهن وإرهاق لا يعود فيها قادراً على التركيز الكامل، يعود بعدها إلى طبيعته، ويستجمع قواه.

وروى الكاظمي وغيره شيئاً عن حال الملك في سنواته الأخيرة، وكيف لم يعد يخرج إلى البر أو المقناص، ولا يتحدث مع جلسائه كما في السابق، وأنه في أغلب الأوقات «يجلس ساكناً»، لكنه يبت في ما يُعرض عليه من معاملات، ويعلق على الأخبار. ولا بد لمن يقرأ تاريخ الملك عبد العزيز أن يدرك أن متاعبه الصحية إنما هي نتيجة حتمية لرجل مثله وحّد بلاداً مترامية الأطراف من فوق صهوة جواده، وتعرض لعشرات الجروح والإصابات بعضها معلوم وأخرى لم يُفصح عنها، وسط ضغوط وتحديات هائلة لبناء الدولة، بينما بدأت في السنوات الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز زيادة صلاحيات ومهام ولي العهد، وسجلت سنة 1370هـ - 1951م الحجة الأخيرة للملك المؤسس.

الحج وزيارة نجيب

الملك عبد العزيز مولماً للرئيس المصري محمد نجيب وخلفهما الأمير طلال والأمير (الملك) سلمان

بقي الملك في الطائف يتابع شؤون الحج والحجيج، ويتلقى التقارير عما تقوم به أجهزة حكومته للتسهيل على ضيوف الرحمن لأداء نسكهم بكل أمن وسلامة. ومع شروق شمس يوم الخميس 10 ذو الحجة 1372هـ - 20 أغسطس 1953م توجه الموكب الملكي إلى مصلى العيد بالطائف، شمال شرقي القصر الملكي، وتبعد بوابته عن بوابة القصر أقل من كيلومتر واحد. وبعد أداء صلاة عيد الأضحى، عاد إلى القصر، واستقبل المهنئين، وتبادل برقيات التهاني مع القادة والمسؤولين، واستمر في متابعة سير أعمال الحج.

في هذه الأثناء أشرف ولي العهد على شؤون الحجيج، وتأمين سلامتهم وصحتهم، وقد بلغ عددهم نصف مليون حاج، وكان ذلك رقماً قياسياً. وأعلنت وزارة الصحة سلامة الحج من الأوبئة والأمراض، وصادف ذلك العام اكتمال 30 موسم حج تحت حكم الملك عبد العزيز، أَوْلَى خلالها الحرمين الشريفين جل اهتمامه من حيث العمارة والتوسعة والعناية والرعاية، كذلك وطّد الأمن، وأمَّن السبل، ووفَّر الخدمات والماء والغذاء، وسخَّر إمكانات الدولة لخدمة ضيوف الرحمن، وكثير من ذلك لم يكن متوافراً من قبل.

وعصر يوم الأحد 13 ذو الحجة 1372هـ - 23 أغسطس 1953م استقبل الملك عبد العزيز في القصر الملكي بالطائف الرئيس المصري اللواء محمد نجيب الذي وصل إلى الطائف بعد أداء مناسك الحج وهي الزيارة الخارجية الأولى للرئيس المصري بعد ثورة يوليو (تموز) 1952م. وبعد مغرب اليوم نفسه أقام الملك حفلة عشاء تكريماً للرئيس ومرافقيه حضرها الأمراء وكبار رجالات الدولة. وبعكس المتداول بأن لقاء الزعيمين حدث في قصر جبرة، وهو قصر ضيافة أُعد لإقامة ضيف البلاد، فإن اللقاء وحفل العشاء أقيما في القصر الملكي (قصر العقيق حالياً). ووثقت البعثة المصرية تلك الزيارة، وأنتجت فيلماً توثيقياً عنها مع مجموعة من الصور الفوتوغرافية منها الصورة الشهيرة على المائدة، يقف فيها الأمراء طلال وسلمان خلف والدهما الملك عبد العزيز. وهذه الصورة تحديداً من الصور التي يعتز بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وجعلها تتصدر قاعة الطعام الكبرى في قصر العوجا؛ فهي تدل على خدمته المتصلة لدولته وقيادته، وعلى ما رباه وإخوته عليه والدهم، وهو ما أدى إلى تفانيه في ما أوكل إليه من مهام وما تولاه من مناصب، إضافة إلى ما اكتسبه من خبرات وتجارب على مدى 7 عقود. وكما تخرج سلمان في مدرسة الملك عبد العزيز، خرّجت مدرسة سلمان، محمد بن سلمان، وهذا الإرث العظيم هو ما يجني ثماره الشعب السعودي اليوم.

المراسيم والمهام الأخيرة

الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز

وفي يوم 15 ذو الحجة 1372هـ - 25 أغسطس 1953م أصدر الملك عبد العزيز مرسوماً ملكياً بإسناد القيادة العليا العامة لجميع القوات المسلحة السعودية لولي العهد (الأمير) سعود، ونص المرسوم على أن ترتبط قوات الدفاع والحرس والأمن العام وأهل الجهاد والمجاهدين بالقائد الأعلى.

وعصر يوم 17 ذو الحجة – 27 أغسطس شرّف الملك عبد العزيز العرض العسكري للقوات المسلحة، ووصف مندوب الإذاعة عبد الله المزروع المناسبة بـ«العرض التاريخي العظيم، وأنه أعظم عرض عسكري يقام في الطائف، وأشرف عليه الأمير مشعل وزير الدفاع، وأقيم في الساحة الفسيحة التي أمام القصر الملكي (ساحة العقيق)، وحضره نحو 50 ألف مشاهد، وسجلته بعثة الإذاعة. واشترك في العرض طلاب المدارس الحربية ووحدات المشاة والمدفعية والرشاش والصحة والقوات الميكانيكية... وغيرها، كما تضمن العرض استعراضاً جوياً لسلاح الطيران». ووفق ما رُصِدَ، كان ذلك العرض من أواخر المناسبات العامة التي يظهر فيها الملك عبد العزيز أمام الجمهور الذي اصطف لتحيته.

وبتاريخ 28 ذو الحجة 1372هـ - 18 سبتمبر (أيلول) 1953م، أصدر الملك عبد العزيز مرسوماً ملكياً بتأسيس وزارة المواصلات، وتعيين الأمير طلال بن عبد العزيز وزيراً لها. وفي 1 المحرم 1373هـ - 20 سبتمبر 1953م أصدر مرسوماً آخر بالموافقة على نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي، وشمل النظام: تشكيل رئاسة القضاة، وتفتيش المحاكم الشرعية، وبيان اختصاصاتها وصلاحياتها، وبيان اختصاصات وصلاحيات رؤساء المحاكم والقضاة وكتاب المحاكم الشرعية، والمحضرين، وكتّاب العدل، ومأمور بيت المال ومعاونيه... وغيرها.

وتجدر الإشارة إلى أنه خلال تلك المدة كانت هناك حوادث محلية وإقليمية وعالمية، كما استمر استقبال الملك الوفود الرسمية في القصر الملكي بالطائف؛ إذ استقبل بعد موسم الحج رئيس وزراء اليمن الأمير سيف الإسلام الحسين، ووزير الأوقاف المصري الشيخ أحمد حسن الباقوري، ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني، ودولة رئيس وزراء لبنان السابق صائب سلام، والوزير اللبناني المفوض في جدة غالب الترك.

وبتاريخ 13 المحرم 1373هـ - 22 سبتمبر 1953م، وبعد اطلاعه على التقرير السنوي المرفوع لجلالته عن أعمال مجلس الشورى، أصدر مرسوماً ملكياً بتمديد مدة المجلس عاماً كاملاً.

وكان آخر خبر من المصادر الرسمية عن نشاط الملك عبد العزيز في الطائف هو استقباله المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ يوم 1 صفر 1373هـ - 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1953م. وفي التاريخ نفسه أصدر الملك أحد أهم المراسيم الملكية وآخرها، وتقضي بتشكيل مجلس الوزراء، وإسناد رئاسته إلى ولي العهد الأمير سعود. وأسند ولي العهد رئيس مجلس الوزراء نيابة رئاسة المجلس إلى الأمير فيصل. ويلاحظ هنا أن الملك عبد العزيز كان يريد استكمال البناء المؤسسي للدولة قبل وفاته، وتنظيم مؤسسة الحكم وتراتبية الخلافة. وبعد ذلك التاريخ وحتى وفاة الملك المؤسس كانت الأخبار تركز وبشكل واضح على نشاطات ولي العهد رئيس مجلس الوزراء القائد الأعلى العام للقوات المسلحة.

صحة الملك والفريق الألماني

وكانت صحة الملك عبد العزيز قد بدأت تتراجع في الشهر الأخير من حياته، وراجت شائعات بأن الأطباء أشاروا عليه بالسفر للرياض بسبب عدم ملاءمة أجواء مدينة الطائف لصحته لارتفاعها. وكانت هناك استعدادات للسفر، وتكرر الحديث عن سفر الملك ثم العدول عنه، وقيل إنه لم يكن مرتاحاً للسفر.

ويروي الدكتور أمين رويحة رئيس أطباء الجيش السعودي وأحد أعضاء الفريق الطبي الذي أشرف على علاج الملك عبد العزيز في الطائف، أن الملك كان يعاني مرضاً يسمى «التهاباً مفصلياً مشوهاً» تفاقم على مر السنين، وأدى إلى صعوبة حركته، ثم أصيب في أواخر حياته بتصلب في الشرايين. ولم تكن الطائف رغم جودة مناخها تناسب حالته الصحية؛ وذلك بسبب ارتفاعها عن سطح البحر لما يقارب 1700 متر. وازدادت النوبات بعد وصوله للطائف فرأى الأمراء جلب فريق طبي من ألمانيا لمعالجته، وكلف الدكتور رويحة بذلك، ووصل 3 من الأطباء الألمان وبقوا أسبوعاً، أجروا خلاله الفحوصات، وقرروا العلاج المناسب، وشعر معهم الملك بالارتياح، لكن النوبات لم تنقطع.

ويضيف الدكتور رويحة: «كان يشرف على علاج الملك وتنفيذ توصيات الأطباء، طبيب جلالته الخاص الدكتور مدحت شيخ الأرض، الذي استدعاني في صباح أحد الأيام على عجل، فتوجهت مع اثنين من الزملاء، ودخلنا على الراحل في مقر إقامته بقصر الأمير فيصل، فرأيناه جالساً على كرسيه بقامته المديدة وطلعته الجبارة، وقد احتقن وجهه بالزرقة بسبب ما يعانيه من ضيق التنفس. ورغم ذلك كله لم يكن يشكو أو يئن، بل كان يحوقل ويتشهد، وتطلب الأمر إجراء تخطيط كهربائي للقلب ما استدعى إبعاد أي جسم معدني. فاستأذنا نزع الخاتم من إصبعه وهو خاتم ذو فص نقش عليه اسمه، فابتسم طيب الله ثراه وقال: «إنها المرة الأولى التي أنزع فيها هذا الخاتم من إصبعي». وكانت عبارته هذه بمثابة طعنة أصابتني في قلبي؛ لأنني عَدَدْتُها تنبؤاً بالنهاية المنتظرة من الوجهة الطبية. ومع ذلك بقي يلاطفنا ويجاملنا بطيب الحديث طيلة مدة الفحص، وبعد أن حقنه الدكتور مدحت بإبرة طلبنا من الملك أن يرتاح. وحينما عدنا بعد الظهر وجدناه قد عاد إلى كرسيه وبين يديه الشيخ عبد الرحمن الطبيشي يعرض عليه البرقيات».

وصل مرض الملك إلى مرحلة لم تعد تجدي معها الأدوية أو المسكنات، وكان أبناؤه من حوله. يقول الأمير نواف بن عبد العزيز إن الملك عبد العزيز في أحد أواخر أيامه استيقظ فرأى أبناءه متحلقين بجوار سريره فقال: «أنتم ليه مجتمعين هنا؟ أنتم إيش جايبكم تجتمعون عندي؟ أنت يا سعود وش جابك؟ رح اهتم بأمور المسلمين، وارجع إلى جدة، لأن الناس لو شافوكم مجتمعين عندي سيشعرون بشيء سيئ، أو أنكم أهملتم شؤونهم، روحوا كل واحد يهتم بشؤونه». وأمر ولي العهد سعود أن يعود إلى جدة ويدير أمور الدولة، فاتفق ولي العهد مع طبيب الملك الدكتور مدحت أن يتصل عليه عندما تتطور الحالة ويقول له: «خلي أديب يجيب معه الأدوية» وكانت شفرة ليعرف أن حالة الملك حرجة.

قصر الملك السكني ويسمى «قصر الملك عبد العزيز الشمالي المسلح» في الرياض

مع البنات

وقبل 3 أيام من وفاته أتى بعض بنات الملك عبد العزيز لزيارته والاطمئنان عليه، وكانت حالته غير مستقرة، ومع حقنه بالأدوية والمسكنات غدا أكثر الوقت نائماً. وحين دخلن الغرفة وجدنه على السرير وجزء من شماغه قد غطى وجهه. قبّلت البندري بنت عبد العزيز يد والدها، وتبعتها الأخريات دون أن يشعر بهن. كان لقاءً من طرف واحد. ورأت البنات أباهن بحالة لا تسر فخرجن يكفكفن الدموع، ويستعدن ذكرياتهن معه وهو الذي لطالما أحاطهن بحنانه، لا سيما أن للمرأة دوراً كبيراً في حياته، وكثيراً ما افتخر وانتخى بها ونقل عنه قوله: «أنا أخو نورة». وبالتزامن مع فترة اشتداد المرض على الملك كان مقرراً أن يتزوج (الأمير) سلمان بن عبد العزيز من ابنة خاله الأميرة سلطانة بنت تركي السديري، وسبق للملك أن بارك ذلك. وفي إحدى الليالي كانت الأميرة حصة بنت أحمد السديري والدة فهد وسلطان وعبد الرحمن وتركي ونايف وسلمان وأحمد أبناء عبد العزيز ترعى شؤون الملك وتلاحظه، فأفاق وسألها: «هل تزوج سلمان؟». فأجابت أنه قرر تأجيل زواجه حتى يشفيك الله، فرد: «الله يبارك في سلمان» وكررها، وهي تؤمّن على دعائه. هذه التفاصيل وغيرها كثير من القصص عن علاقة الملك عبد العزيز بزوجاته وأولاده بنين وبنات تستحق أن توثق، علماً أن هناك نقصاً في الدراسات المتعلقة بأدوار زوجات الملك عبد العزيز وبناته أفقدنا الكثير من المعلومات عن دور المرأة في تأسيس وبناء الدولة.

الرحيل

يصف الأمير نواف تفاصيل الساعات الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز الذي كان يقيم في غرفة بالدور الأرضي من قصر الأمير فيصل، وكان الأمير نواف يقيم معه في الطابق العلوي من القصر: «كانت مع الملك في ليلته الأخيرة زوجته الأميرة هيا بنت سعد السديري (والدة الأمراء بدر وعبد الإله وعبد المجيد)، وشعر الملك بتحسُّن فطلب أن يغتسل فذهبوا به إلى الحمام على العربية، واغتسل وتوضأ ثم عاد إلى غرفته». ويتابع الأمير قوله: «شعرت بأن صحته أفضل، فصعدت إلى غرفتي وبعد مدة سمعت طرقاً على الباب فنزلت مسرعاً، وكان قد أصيب بنوبة، والأطباء مدحت شيخ الأرض والدكتور الفرنسي ميليز... وغيرهم حوله يراقبون الضغط، وفهمت منهم أنه بسبب مرض القلب يجب ألا ينهض مباشرة من الفراش وإنما بالتدرج. ولأنه حاول النهوض مباشرة أصيب بالنوبة، وحاولوا السيطرة على الوضع، وكان لا يزال يتنفس ثم جاء الأمير فيصل، واتصل الدكتور مدحت على الملك سعود وأعطاه الإشارة، وبدأنا نراقب الوضع».

استمر توافد الأمراء، ومع دخول الملك سعود باب القصر فاضت روح الملك عبد العزيز إلى بارئها. ويصف تلك اللحظات الأخيرة الأمير نواف بقوله: «كنت أدرك أنه وصل إلى النهاية، كان يتنفس ببطء وصعوبة، ويمسح خشمه ويتشهد، ومع دخول (سعود) من المدخل الخارجي، توفي الملك عبد العزيز، كأنها نهاية ملك وبداية ملك». كانت الساعة نحو العاشرة من صباح يوم الاثنين 2 ربيع الأول 1373هـ - 9 نوفمبر 1953م.

تحمل المسؤولية

الملك عبد العزيز متوسطاً الملك فيصل والملك سعود

سادت حالة من الحزن الشديد أنحاء المكان، ووفقاً لرواية الأمير نواف قال الأمير عبد الله بن عبد الرحمن للملك سعود: «أنا أخلصت لأبيك، وكنت معه، الآن أعطيك يدي وأبايعك، وانزل بايع، فاتجه إلى الصالون وتبعناه وبايعناه، فالتفت الملك سعود إلينا وقال: الآن يكون فيصل ولياً للعهد». ويفهم من كلام الأمير نواف أنه كان موجوداً في تلك اللحظات الدقيقة من تاريخ المملكة العربية السعودية الأمراء عبد الله بن عبد الرحمن وسعود وفيصل ومحمد وخالد... وغيرهم من أبناء الملك عبد العزيز الذين تحملوا مسؤوليتهم التاريخية في أقسى لحظات الحزن.

اتُخذت الإجراءات، وبدأت ترتيبات الجنازة، وأُعدت البيانات لتبثها الإذاعة، التي بدأت في بث القرآن الكريم، ثم أعلنت نحو الساعة 12:20 ظهراً الخبر، وعممت وزارة الخارجية البيان الرسمي على البعثات الدبلوماسية في جدة والسفارات والممثليات السعودية خارج المملكة. تناقلت الإذاعات والوكالات العالمية الخبر، وتصدر النشرات الإخبارية وعناوين الصحف. أما المشهد في الطائف فكان يسوده الوجوم، ويخيم عليه الحزن. هُرع الناس يتناقلون الخبر، ويعزّي بعضهم بعضاً، وأغلقت الأسواق والدكاكين أبوابها، وخرج التلاميذ من مدارسهم، واتُخذت الاحتياطات والتدابير الأمنية والعسكرية. كان الطائف مقر وزارة الدفاع وقيادة الجيش، وبدأت ترتيبات الجنازة والصلاة والنقل إلى الرياض والدفن، والبيعة العامة للملك سعود.

تولى الأمير فيصل الإشراف على تلك الترتيبات، وفي القصر تناوب أبناء الملك عبد العزيز مع بعض رجالاتهم على غسل والدهم وتجهيزه وتكفينه. يتذكر الأمير محمد الفيصل أن والده قال له: «روح مع سلمان واحملوا النعش»، ويبرر ذلك ربما لأنهما كانا أطول الموجودين من شباب الأسرة. ويضيف: «حملت النعش خلف سلمان بن عبد العزيز مع بقية الأبناء، وخرجنا به من الباب الرئيسي». شيعت جنازة الملك عبد العزيز من باب القصر محمولة على أعناق أبنائه وأحفاده ورجالات دولته، وساروا بها على الأقدام يتقدمهم الملك سعود وولي عهده فيصل وكبار الأمراء والعلماء والأعيان، وخرج الشعب بمختلف طبقاته لمصلى العيد، حيث أقيمت صلاة الجنازة على فقيد الأمة عند الساعة الثانية ظهراً. أمَّ المصلين الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز آل الشيخ رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإمام وخطيب مسجد عبد الله بن عباس. والشائع لدى أكثر من مصدر، ومنهم الزركلي وتبعه في ذلك جمهرة من المؤرخين، أنه صُلي على الملك عبد العزيز في الحوية، بينما الصلاة أقيمت في مصلى العيد القديم في الطائف (موقع جامع الملك فهد حالياً)، وذلك وفق ما ورد في المصادر الرسمية.

حُمل الجثمان من مصلى العيد في سيارة نقل إلى مطار الحوية، وتحرك الموكب المهيب يتقدمه ملك البلاد وولي عهده. يقول الأمير محمد الفيصل: «كان الأمراء نواف وسلمان وأنا مع الجثمان في السيارة، وكان الموكب متصلاً طوال الطريق الذي يبلغ طوله نحو 35 كيلومتراً من الطائف إلى مطار الحوية». وقد خرجت الطائف عن بكرة أبيها، وتحركت كل سياراتها لتشييع الإمام العادل الذي ضمها إلى حكمه؛ فذاقت في عهده طعم الأمن المفقود، والعدل المنشود، والاستقرار والرخاء، وأصبحت عاصمته الصيفية، وقاعدة جيشه، وركيزة منظومة تعليمه المدني والعسكري، وبلغت في عهده أوج تألقها ونمائها.

وفي المطار كانت الوفود قد اجتمعت من أنحاء البلاد لتودع ملكاً وتبايع ملكاً، والطائرات مصطفة في ساحة المطار. تلقى الملك سعود وولي عهده التعازي والبيعة، وحُمل الجثمان إلى الطائرة الملكية من طراز «دي سي 4 سكاي ماستر». وغادرت الطائرة التي أقلت مع الجثمان، ولي العهد الأمير فيصل وإخوته محمد وخالد وسعد وعبد الله وبندر وعبد المحسن وسلطان وعبد الرحمن وبدر وتركي ونواف وفواز وماجد أبناء الملك عبد العزيز، ورافقهم رئيس الخاصة الملكية عبد الرحمن الطبيشي. كما غادرت مجموعة من الطائرات الأخرى التي أقلت عدداً من الأمراء الآخرين وبعض المسؤولين والحرس والمرافقين. ووفقاً للترتيبات التي أُعدت، بقي الملك سعود في الطائف لتلقي التعازي والبيعة، ومعه أخوه وزير الدفاع الأمير مشعل وعدد آخر من إخوتهما.

من الرياض وإليها

وقبيل الغروب وتحديداً عند الساعة 4:40 دقيقة هبطت الطائرة الملكية في مطار الرياض الذي وصف مشهده يومئذ المؤرخ السعودي الشيخ حمد الجاسر بقوله: «اكتظ مطار الرياض بالجماهير الغفيرة التي اختلطت دموعهم بدعواتهم، يتقدمهم ابن عم الملك الأمير سعود الكبير، وأمير الرياض نايف بن عبد العزيز، وحشد من الأمراء والعلماء والأعيان، وجموع عظيمة من مختلف طبقات الأمة، وبعد إنزال الجثمان من الطائرة، حُمل في سيارة يرافقه الأمير فيصل وإخوته والجموع تتبعهم بعيون شاخصة وقلوب واجفة ودموع منهمرة، إلى مصلى العيد القديم (شرق بوابة الثميري وهو موقع مبنى أمانة مدينة الرياض وحديقة البلدية فيما بعد). ضاقت الساحة وما جاورها من طرقات وأسواق بجموع المصلين من الرجال والنساء والكبار والصغار، حيث صُلي على فقيد الأمة بعد صلاة المغرب، وأمَّ المصلين المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وكان منظراً مثيراً لكامن الحزن، حيث لا تقع عين الناظر بين تلك الفئام الكثيرة إلا على باكٍ حزين، أو متجلد يحاول إخفاء الأسى، ولكن الدموع تبرزه، أو مُظهِر للصبر ولكن حشرجة صوته تخونه.

وبعد الصلاة نُقل الجثمان بالسيارة إلى مقبرة العود، وانطلقت الجماهير تحف بالسيارة، وغصت المقبرة بجموع المشيعين، وازدحموا على جنازة الملك عبد العزيز ازدحاماً شديداً وهو الذي تبوأ في كلِّ قَلْبٍ من قلوب أفراد شعبه مكاناً رَحْباً، ومُسْتَقَراً دائماً، وأَحْدَثَ موتُه في كل قلب من الكآبة والحزن ما عجز القلم عن وصفه والتعبير عنه، ففي كل وجه من وجوه أفراد الأمة أثر بارز، وفي كلِّ نفس حسرة ولوعة.

رسالة بخط اليد من الملك إلى أبنائه سعود وفيصل ومحمد وخالد

ووسط تلك الجموع الغفيرة في المقبرة، تولى الأمير فيصل وعدد من إخوته إنزال جثمان والدهم إلى القبر، ثم شاركت الحشود في مواراته الثرى. لقد استرد الملك عبد العزيز الرياض وضمها قبل شروق شمس أحد أيام شهر شوال 1319هـ يناير (كانون الثاني) 1902م، وضم ثرى الرياض جسد الملك عبد العزيز بعد غروب شمس ذلك الاثنين الحزين، وبين التاريخين أكثر من 50 عاماً أشرق بها الملك عبد العزيز على الرياض، وأشرقت بعهده الرياض، استقراراً ونماءً وتطوراً وغير ذلك الكثير، وامتدت إشراقته لتعم كل أرجاء مملكته العربية السعودية (مملكة عبد العزيز).

في الأيام التالية، تقاطرت الوفود من كل مكان، وأبرق زعماء الدول معزين في عاهل الجزيرة، وأعلنت دولٌ الحدادَ على الراحل الكبير، ونُكست الأعلام، ونعاه الكتّاب والساسة، وعدّدوا مآثره، وأقيمت صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة 6 ربيع الأول 1373هـ - 13 نوفمبر 1953م في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي.

وكتب المؤرخ الألماني داكوبرت فون ميكوش: «لم يصبح ابن سعود عظيماً بفضل الإرث، ولكنه استطاع بشخصيته الفذة التي ليس لها في التاريخ العربي مثيل، تأسيس مملكته، وتوحيد الجزيرة العربية، وتجديد تعاليم الإسلام، وتوطيد الأمن الذي كان ولا شك من أهم ما أخذه ابن سعود على عاتقه من مهام، وبقي أن يستمر الجهد لإكمال العمل الذي بدأه ابن سعود خلال حكمه الطويل الأغر، ولئن مات ابن سعود فسيظل في التاريخ العربي حياً بوصفه رجلاً عظيماً فريداً من نوعه، شق الطريق لشعبه وللأمة العربية نحو قمة المجد».

ولا شك أن الملك عبد العزيز لم يملأ فراغاً كبيراً في التاريخ الحديث فحسب، بل ترك إرثاً عظيماً لم يقتصر على إنشائه دولة من الصفر، وتوحيد شعب من الشتات، وما تبع ذلك من التأسيس والبناء، ولكنه تَمَثَّلَ أيضاً في حرصه على تحميل أبنائه المسؤولية، وتأهيلهم لمتطلبات الحكم وخدمة الناس.

يلخص ذلك الشاعر السوري الدكتور خالد البرادعي في أبياته التي أنقلها بتصرف:

-صقر الجزيرة أنت أم رئبالها؟

-أم صبحها العربي في الآماد

-نوديت باسمك والملوك تهالكوا

-في ندوة الألقاب دون تفادي

-وغدت لاسمكَ لذة تندى بها

-أفواه شعبك بعد كل تنادي

-وكتبت ملحمة الخلود تتمة

-لملاحم الدنيا مع الأجداد

-وغدوت بعد الموت أطول قامة

-مما حييت بزندك الميقاد

-متجدداً في كل يوم مقبلاً

-نحو العروبة في مخاض ولاد

-عبد العزيز تركت خلفك ضمة

-من أنجم وكواكب وهوادي

-ملك يغيب فيرتقي لمقامه

-ملك يوازنه بكل مجاد

-ورثوا فرائدك الأوابد مثلما

-أورثتها عن سامق الأنضاد

ويكفي أن نقرأ رسالة الملك عبد العزيز التوجيهية إلى أبنائه الأكبر سناً وقتذاك، لندرك المبادئ التي أنشاء عليها دولته، ولنفهم أسس ذلك الإرث العظيم:

«من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل:

إلى الأبناء سعود وفيصل ومحمد وخالد سلمهم الله تعالى

بعد ذلك، من طرف أربعة أمور سأذكرها لكم أدناه وهي: أولاً: تكونون يداً واحدة فيما بينكم صغيركم يوقر ويمتثل أمر كبيركم، وكبيركم يعطف على صغيركم. كما أن الصغير إذا رأى أمراً ما يجوز من الكبير فيجب أن يبين له ذلك، ويقول إن الأمر هذا لا يجوز منك، وعلى الكبير الإصغاء لأخيه الصغير، كما هو لازم عليه مناصحة أخيه الصغير.

ثانياً: إن كل شيء آمر فيه أو دبرة أدبرها تنفذونها ولا تعترضونها، أو تعارضوا من وكلت إليه أمرها.

ثالثاً: إن كل ما سألتكم عنه أو لزم لكم رفعه لي تصدقونني فيه بأي حال تكون.

رابعاً: ألا تعترضوا أمور ماليتي لا قريبها ولا بعيدها، في قليل ولا كثير.

هذه الأربعة أمور افهموها، واحرصوا على تنفيذ موجبها، وكل شيء يصير منكم مخالفاً لشيء منها اجزموا أنه سيكون سبباً لسخطي عليكم، يكون معلوماً».

20 ربيع الآخر 1349هـ - 13 سبتمبر 1930م

تضمنت هذه الرسالة وصايا أربعاً، ووُجهت إلى الأربعة أبناء الأكبر سناً، وجاء الرد الفوري منهم في اليوم نفسه:

«أدام الله وجودكم

بعد لثم أياديكم الشريفة، كل ما ذكره جلالتكم أعلاه عن الأمور الأربعة تم فهمها، وإن شاء الله نعمل حسب ما جاء بها، وترون ما يسركم ويرضيكم بحول الله وقوته.

مملوككم الابن مملوككم الابن مملوككم الابن مملوككم الابن

فيصل محمد خالد سعود»

ويعلق على هذه الرسالة رجل الدولة السياسي السعودي الشيخ عبد العزيز التويجري قائلاً: «إنها رسالة أوسع من كل التصورات، عليها هيبة الأب، ورجل الدولة»، وهذه في تقديري إحدى معادلات الحكم الصعبة التي تمكن الملك عبد العزيز ومن بعده أبناؤه من تجاوزها بوضع أسس الفصل بين علاقة الأخوة وعلاقة رجال الدولة، وتنظيم العلاقة بينهم؛ لأن الملك عبد العزيز لم يكن يربي أبناءً فقط، لكنه كان يُخرّج قادة، ويؤهل رجالات دولة.

وها نحن أولاء نعيش اليوم فصلاً من فصول إرث الملك عبد العزيز المجيد، يكتبه سلمان بن عبد العزيز بتأهيله جيلاً من القادة من أحفاد عبد العزيز، يقودهم محمد بن سلمان الذي فاجأ العالم بمنجزاته، كما فعل الملك عبد العزيز قبل أكثر من 100 عام.


مقالات ذات صلة

«السوق المالية» السعودية: تقييد دعويين جماعيتين ضد تنفيذيين بـ«شركة الخضري»

الاقتصاد المدعي طلب تعويضه عن خسائر نتيجة مخالفات مرتكبة (الشرق الأوسط)

«السوق المالية» السعودية: تقييد دعويين جماعيتين ضد تنفيذيين بـ«شركة الخضري»

قررت «لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية» السعودية قبول طلبين لتقييد دعويين جماعيتين مقدمتين من مستثمر ضد الرئيس التنفيذي وبعض موظفي «شركة الخضري».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد المجلس استعرض أداء برامج تحقيق الرؤية والاستراتيجيات الوطنية (الهيئة الملكية لمدينة الرياض)

«المجلس الاقتصادي» ينوّه بقدرة السعودية على مواجهة التحديات العالمية

نوّه «مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية» السعودي بقدرة البلاد على مواجهة تحديات الاقتصاد العالمي، في ظل التحسن الملحوظ بالقطاع غير النفطي والأنشطة الصناعية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج الأمير خالد بن سلمان لدى لقائه العماد جوزيف عون (وزارة الدفاع السعودية)

خالد بن سلمان وعون يبحثان مستجدات لبنان

بحث الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي مع العماد جوزيف عون قائد الجيش اللبناني، مستجدات الأوضاع في لبنان والجهود المبذولة بشأنها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
خاص كيتامورا توشيهيرو مساعد وزير الخارجية والمتحدث باسم الخارجية اليابانية في حوار مع «الشرق الأوسط» (الشرق الأوسط)

خاص اليابان: هواجس داخلية ومواقف إقليمية

شددت اليابان على علاقتها الاستراتيجية مع السعودية، كاشفة عن مساعٍ جارية لتوسيع شراكاتها بشكل شامل، مؤكدة على أهمية الاستفادة من متغيرات الوضع الجديد في سوريا.

فتح الرحمن يوسف (طوكيو)
الخليج السعودية عدّت ممارسات إسرائيل في «الأقصى» تعدياً صارخاً (د.ب.أ)

السعودية تدين استمرار انتهاكات إسرائيل في فلسطين وسوريا

دانت السعودية اقتحام وزير الأمن القومي لباحة المسجد الأقصى، وتوغل قوات الاحتلال في الجنوب السوري.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك كثيرون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلة، يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلد يراكم الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى أكثر لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدّام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.