السعودية... نموذج فريد بين توارث العرش وولاية العهد

«الشرق الأوسط» ترصد تحولات اليوم الوطني... بين «عيد الجلوس» و«العيد الوطني»

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن
TT

السعودية... نموذج فريد بين توارث العرش وولاية العهد

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن

إن المتأمل في رؤية الملك عبد العزيز لبناء الدولة وإرثه السياسي والدستوري ومدرسته في مناهج الحكم وإدارة الدولة، يدرك أن كل ذلك كان كفيلاً بجعل الملك عبد العزيز يغمض عينيه مطمئناً على دولة سيحافظ عليها من بعده أبناؤه، خريجو مدرسته، وأمناء إرثه، وورثة حكمه، فكيف به لو أدرك طلائع منجزات أحفاده التي أدركنا؟

لكن تأريخ ذلك الإرث ودراسته لم ينل كامل حقه من البحث والتدوين والرصد والتوثيق والتحليل! كما أسهمت فوضى وسائل التواصل ومنصات الاتصال في تأصل مفاهيم غير دقيقة تتصل بجوانب عدة من التاريخ السعودي الحديث، علاوة على وجود نظريات ومقولات يجانب معظمها الصواب، خاصة ما يتعلق بتاريخ الدولة السعودية عموماً وأسسها الدستورية وطبيعة أنظمتها وخلفياتها وأعرافها وتقاليدها وقواعد عملها النظامية والقانونية خصوصاً.

المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن

كما أن نُدرة الدراسات والبحوث التي تتناول، وبعمق جوانب مهمة مثل الجوانب «الدستورية» من التاريخ السعودي وشح المعلومات المتصلة بها تُصعّب من مهمة الباحثين، وقد يكون مفهوماً حساسية بعض المعلومات المرتبطة بانتقال السلطة والبيعة، أو ما يعرف بـ«توارث العرش» في دساتير بعض الدول مع إيضاح الفرق بين المصطلحين، والمتعلقة بأهم منصبين في المملكة العربية السعودية (الملك وولي العهد)، والتي يصف الحديث عنها الفقيه الدستوري السعودي الدكتور إبراهيم الحديثي: «أنه يقترب من الخطوط الحمراء التي تعودنا ألا نقترب منها في السعودية؛ نظراً لحساسيتها، ولأنها قد تفسر تفسيرات غير التي يقصدها الباحث»، لكن غير المفهوم هو ندرة الدراسات التي تتناول جوانب تاريخية أخرى كتاريخ اليوم الوطني، أو تاريخ العَلم السعودي، أو توثيق بعض الحوادث والقرارات التاريخية المهمة.

من هذا المنطلق أتى هذا البحث ليسهم في إلقاء الضوء على جوانب من تاريخ المملكة العربية السعودية، وليوثق مراحل التطورات الدستورية التي مرّت بأحد أهم عوامل الاستقرار السعودية (انتقال الحكم)، وارتباط ذلك باليوم الوطني، كما رصد وبالتفصيل تاريخ الأيام الوطنية السعودية وصور طرق الاحتفال بها، وتناول بعض التفصيلات المتعلقة بتاريخ البيعة في السعودية، وشهودها وأماكن انعقادها وأولياتها؛ كونها «الخطوة الأولى لممارسة الحكم في المملكة العربية السعودية»، وفقاً لوصف الحديثي.

وجاء هذا الموضوع ليُسهم في تعريف الأجيال السعودية بصفحات لم تنل حقها من البحث والتدوين في تاريخهم الوطني، وليساعد في الإجابة عن تساؤلات كثير من المراقبين والمحللين حول العالم عن السر وراء سلاسة انتقال السلطة في المملكة العربية السعودية؟

لأن موضوع انتقال السلطة يعدّ تطبيقياً من المراحل الحرجة حتى في أبرز الديموقراطيات، بينما أثبتت التجربة السعودية صلابتها وأكدت على استقرار الحكم وسلاسة انتقال السلطة، وجرى انتقال السلطة منذ وفاة الملك المؤسس وحتى اليوم بكل سلاسة ودون حدوث ما يوصف في الدساتير بـ«فراغ السلطة»، رغم أن عملية انتقال الحكم لم تأتِ كلها في ظروف طبيعة؛ بل أتى بعضها في ظروف بالغة الدقة، كما كان الحال عند تولي الملك فيصل (1384هـ - 1964م)، وكذلك الملك خالد (1395هـ - 1975م)، مقاليد الحكم.

الإمام عبد الرحمن الفيصل

الإمام يبايع ابنه عبد العزيز

بعد استرداد الملك عبد العزيز الرياض في شوال 1319هـ الموافق يناير (كانون الثاني) 1902م وبدء تحركاته لضم أقاليم نجد، عاد والده الإمام عبد الرحمن إلى عاصمة حُكمه التي غادرها قبل إحدى عشرة سنة، معلناً تنازله عن الإمارة لابنه عبد العزيز، يقول المؤرخ والدبلوماسي خير الدين الزركلي: «وفي اجتماع عام حضره علماء الرياض وكبراؤها في باحة المسجد الكبير بالرياض (جامع الإمام تركي بن عبد الله الآن)، بعد صلاة الجمعة أعلن الإمام عبد الرحمن نزوله عما له من حقوق في الإمارة، لكبير أبنائه عبد العزيز، وأهدى إليه سيف سعود الكبير.....، وبذلك تمت البيعة الأولى لعبد العزيز في سنة 1320هـ الموافق 1902م».

لكن الزركلي وأكثر المصادر الأخرى التي أشارت إلى تلك البيعة لم تحدد تاريخ ذلك اليوم والشهر، وإن كانت بعض المصادر، خاصة الأجنبية كالباحث والمؤرخ الروسي أليكسي فاسيليف وغيره، قد أشارت إلى أنه في منتصف ذلك العام (بين شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران).

صورة قديمة للرياض وتبدو مئذنة الجامع الذي تمت فيه مبايعة الملك عبد العزيز عام 1902

ولأهمية ذلك اليوم في تاريخنا الوطني؛ رصد هذا البحث أهم المصادر التي تطرقت إلى خروج الإمام عبد الرحمن من الكويت، ووجد إشارة مهمة أوردها حسين خلف الشيخ خزعل في الجزء الثاني من كتابه «تاريخ الكويت السياسي»، كما جاءت في بحث بعنوان «الدور السياسي للإمام عبد الرحمن الفيصل» للدكتور سطام بن غانم الحربي، وهذه المعلومة ومن خلال الوثائق تذكر، أن الإمام عبد الرحمن غادر الكويت يوم 19 مايو 1902م في طريقه إلى الرياض. وإذا عرفنا أن الرحلة بين الرياض والكويت تستغرق بين 12 و14 يوماً على ظهور الإبل فيكون وصول الإمام للرياض في أوائل شهر يونيو، وبهذا ينحصر بحثنا في ذلك الشهر، وأول جمعة تلي تاريخ وصول الإمام عبد الرحمن للرياض يكون تاريخها 6 يونيو 1902م الموافق 30 صفر 1320هـ وهذا هو التاريخ الذي أرجحه، مع احتمال أن يكون أحد الجمع التالية خلال شهر يونيو 1902م ــــــ ربيع الأول 1320هـ.

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن

عبد العزيز ملكاً

بعد ذلك التاريخ بنحو 22 عاماً، استطاع الملك المؤسس أن يوحّد تحت رايته أقاليم متعددة من الجزيرة العربية، دخل الملك عبد العزيز مكة المكرمة يوم 7 جمادى الأولى 1343هـ الموافق 4 ديسمبر (كانون الأول) 1924م، وكان لقبه الرسمي وقتذاك «سلطان نجد وملحقاتها»، وعندما أتم ضم الحجاز، نُشر بلاغ عام مؤرخ في يوم 22 جمادى الآخرة 1344هـ الموافق 7 يناير 1926م، ومذيلٌ باسم عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل (السعود) مجرد من أي لقب، وملخصه أن أهل الحجاز طلبوا منه أن يمنحهم حريتهم في تقرير مصير بلادهم كما وعدهم، فلم يسعه أمام طلباتهم المتكررة إلا أن يمنحهم ذلك، وبعد نشر ذلك البلاغ رفع أهل الحل والعقد في مملكة الحجاز كتاب البيعة لـ«عظمة السلطان عبد العزيز».

وبعد صلاة الجمعة من يوم 23 جمادى الآخرة 1344هـ الموافق 8 يناير 1926م، بايع أعيان الحجاز وعلماء البلد الحرام وجموع الأهلين الملك عبد العزيز ملكاً على الحجاز، مع الإشارة إلى أن الملك عبد العزيز لم يتَسَمّ ملكاً إلا حينما بويع ملكاً على الحجاز، وحمل قبل ذلك ألقاباً عدة، منها: أمير نجد ورئيس عشائرها في بداية التكوين السياسي للدولة، ثم سلطان نجد وملحقاتها بعد ضم الأحساء وعسير، ثم ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها بعد ضم الحجاز، ثم ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بعد تحول نجد مملكة، لكن الأهم أن تلك البيعة التي تمت قبل أكثر من مائة عام كانت لحظة تاريخية فارقة.

وأقيمت مراسمها داخل المسجد الحرام، وتحديداً عند باب الصفا، أحد أكبر الأبواب وقتئذ وتعتليه قبة تحفها النقوش والزخارف الإسلامية، ويحتوي على خمسة منافذ للدخول والخروج، ويعدّ البوابة الرئيسية في الجهة الجنوبية من الحرم ويؤدي إلى شارع الصفا، ثم إلى جبل الصفا حيث بداية السعي. أقيمت مراسم البيعة نحو الساعة الواحدة والربع ظهراً وتلا الشيخ عبد الملك مرداد، إمام وخطيب المسجد الحرام، نص البيعة وأطلقت المدافع «مائة مدفع ومدفع»، ثم توافد الناس أفواجاً أفواجاً لمبايعة الملك، وتزامن معها بيعة أهالي مدن الحجاز في المدينة المنورة، والطائف، وجدة، وينبع، والوجه، وظبا والعلا، وغيرها من البلدات، حيث تلقى أمراء المدن والبلدات البيعة نيابةً عن الملك.

باب الصفا

كانت تلك المناسبة التاريخية هي المرة الأولى التي يحمل فيها أحد حكام الدولة السعودية في أيٍ من مراحلها الثلاثة لقب «ملك»، وأول بيعة ملكية سعودية تستخدم فيها البرقية وسيلةَ مبايعة وتنشر الصحف وتتناقل وسائل الإعلام الخارجية أخبارها.

عيد الجلوس الملكي

وبعد مرور عام على تلك المبايعة، أصدر مجلس الشورى قراراً بتاريخ 16 جمادى الآخرة 1345هـ الموافق 22 ديسمبر 1926م «برفع استعطاف للملك عبد العزيز يطلب موافقته على جعل يوم مبايعته ملكاً على الحجاز يوماً وطنياً تحيي الأمة ذكراه سنة بعد سنة»، لكن الملك عبد العزيز لم يوافق على ذلك الاستعطاف.

ولإيمان أعضاء المجلس بالفكرة وقناعتهم بها لم ييأسوا؛ فحشدوا التماسات من الأهالي والهيئات الرسمية ورفعوا معها استعطافاً آخر في 9 رمضان 1347هـ الموافق 18 فبراير (شباط) 1929م، راجين من الملك ألا يخيّب رجاءهم في إقرار يوم مبايعته في السابع عشر من برج الجدي الموافق للثامن من يناير من كل عام «عيداً وطنياً» وصدرت موافقة الملك عبد العزيز على ذلك يوم 7 ربيع الثاني 1348هـ الموافق 10 سبتمبر (أيلول) 1929م، وأصدر نائب جلالة الملك في الحجاز الأمر بشأن مراسم عيد الجلوس الملكي في الأول من جمادى الآخرة من عام 1348هـ الموافق 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1929م، بالنص الآتي:

«النائب العام لحضرة صاحب الجلالة الملك المعظم:

بعد الاطلاع على قرار مجلس الشورى الموقّر رقم 64 تاريخ 16 جمادى الثانية سنة 1345 ورقم 257 تاريخ 9 رمضان سنة 1347.

وبما أن حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم قد تفضل بإصدار موافقته الكريمة على إجازة الاستعطاف المرفوع إلى مقامه الملوكي، بتاريخ 7 ربيع الثاني برفق القرارين المذكورين بشأن مراسم عيد الجلوس الملكي، يأمر بما يلي:

المادة الأولى: يعتبر اليوم الذي يوافق اليوم السابع عشر من برج الجدي من كل سنة عيداً وطنياً تعيده البلاد لإحياء (ذكرى) الجلوس الملكي.

المادة الثانية: تعطّل دوائر الحكومة الرسمية في ذلك اليوم، وتجري فيه مراسيم المعايدة وتطلق المدافع 21 طلقة.

المادة الثالثة: يصادف العيد الأول لعامنا الحالي في اليوم الثامن من شعبان سنة 1348».

الطوابع البريدية احتفالاً بعيد الجلوس

ويلاحظ هنا استخدام كلمة «العيد الوطني» بهذا اللفظ وتكراره في البيانات والأخبار الرسمية؛ بل وحتى في القصائد التي نُظمت في تلك المناسبة. وقد شُكلت «لجنة تنظيم الاحتفال بعيد جلوس جلالة الملك»، انبثق عنها لجان فرعية، وقد نُشرت أخبارٌ وتغطيات عن الترتيبات والفعاليات التي واكبت الاحتفال بعيد الجلوس أو العيد الوطني الأول، حيث اشتملت مظاهر الاحتفال على: منح عطلة للدوائر الحكومية، وإصدار الإدارة العامة للبريد والبرق والتلفون طوابع بريدية خاصة بمسمى «طوابع ذكرى الجلوس الملكي» بفئات عدة تراوحت قيمتها بين نصف قرش وخمسة قروش.

كما أصدرت الجريدة الرسمية (أم القرى) يوم الثلاثاء 7 شعبان 1348هـ - 7 يناير 1930م عدداً تضمن أخباراً ومعلومات عن المناسبة، عدا العدد الأسبوعي للجريدة والذي يصدر كل جمعة. كما أصدر نائب الملك في الحجاز أمراً بالعفو عن المساجين المحكومين بمدد صغيرة، وتخفيض ثلث المدة عن المحكومين بمدد كبيرة.

كما وجهت الدعوات لمجموعة من محبي البلاد وأصدقائها ومراسلي الصحف في البلدان العربية لحضور الاحتفالات. وقد وضعت اللجنة برنامجاً للاحتفال بعيد الجلوس في مكة المكرمة يبدأ في الساعة الثانية والنصف صباحاً (بالتوقيت الغروبي أي الثامنة والنصف) من صباح يوم الأربعاء 8 شعبان 1348هـ - 8 يناير 1930م برعاية النائب العام لجلالة الملك في الحجاز.

الملك فيصل حينما كان نائباً للملك عبد العزيز في الحجاز

وقد وصل الأمير فيصل إلى الملتزم أمام الكعبة الشريفة وكان بابها مفتوحاً فتقدم الشيخ حسن يماني، وكيل رئيس هيئة مراقبة القضاء، بترتيل الدعوات لجلالة الملك المعظم، وتبعه سادن بيت الله الحرام الشيخ عبد القادر الشيبي وهو واقف بباب الكعبة المعظمة بالدعاء للملك عبد العزيز وأطلقت المدفعية من قلعة أجياد 101 طلقة.

كما أقيمت الاحتفالات الرسمية في باقي مدن وبلدات الحجاز كالمدينة والطائف وجدة وينبع والوجه ووادي فاطمة، وقد رعى نائب جلالة الملك الحفلة التي أقامتها لجنة الاحتفال في قصر الكندرة بجدة، ثم شرَّف استعراض الجيش وحضر مأدبة العشاء التي أقيمت بهذه المناسبة بحضور كبار رجالات الدولة والأعيان والقناصل وممثلي الدول والوفود القادمة من الخارج.

«وألقى سعادة فؤاد بك حمزة، وكيل الشؤون الخارجية خطاباً أشبه بالبيان، شرح فيه سبب الاحتفال بذكرى الجلوس والمظهر الذي ظهرت به البلاد والأمة تجاه هذا (العيد القومي) وسبب التقدير والإعجاب بجلالة الملك وما قدمه للبلاد والعباد، ثم تحدث عن سياسة جلالته الخارجية». كما احتفلت بهذا اليوم الوكالات الحجازية النجدية (المفوضيات أو السفارات السعودية حينذاك)، كما تلقى الديوان الملوكي الخاص المئات من برقيات التهاني من مختلف الأقطار، من ضمنها برقيات من رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس ومن اللجنة التنفيذية العربية في القدس ومن الجمعية الإسلامية في حيفا ومن هيئة الأمر بالمعروف في المدينة المنورة، كما أقامت لجنة الاحتفال بهذه المناسبة حفلة في وادي فاطمة، ألقيت فيها الخطب والقصائد، ومنها قصيدة الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي، التي قال فيها:

ألا إن هذا اليوم عيد مخلد

يظل على كر الدهور له ذكر

وقصيدة للأستاذ خير الدين الزركلي، جاء فيها:

هنيئاً لأهل العيد عيد (مُملّكِ)

شفى المجد من سُقمٍ عراهُ وإدناف

كان ذلك الاحتفال هو أول احتفال باليوم الوطني وحدث في عام 1348هـ - 1930م، تلاه احتفال مماثل في عام 1349هـ - 1931م، «ويذكر فؤاد حمزة أن حفلات عيد الجلوس لم تتكرر إلا تلكما المرتين، ثم تم الاقتصار على الاحتفال بتلك الذكرى في جدة فقط، حيث تتقبل الحكومة تهاني ممثلي الحكومات الصديقة وفق مراسيم مقننة، كما يتلقى جلالة الملك برقيات الملوك ورؤساء الجمهوريات»، فما الذي حدث؟

تحول في احتفالات عيد الجلوس

ورصد البحث أكثر من أمر طرأ أدى إلى التحول في احتفالات عيد الجلوس، وهي كالتالي:

الأول: اعتراض علماء الدين؛ إذ أرسل علماء أهل نجد كافة (مع ملاحظة أن نجد في ذلك التاريخ كانت مملكة كما الحجاز تماماً) كتاباً إلى الملك عبد العزيز بتاريخ 7 ذي القعدة 1349هـ - الموافق 26 مارس (آذار) 1931م، أي بعد الاحتفال الثاني بعيد الجلوس الملكي بنحو شهرين ونصف الشهر، ينتقدون فيه الاحتفال بعيد الجلوس، ويناصحون الملك، مبينين أن هذا الأمر لا يجوز إقراره ولا السكوت عليه لأنه من أعياد الجاهلية.

ورد الملك على العلماء متفهماً وجهة نظرهم، لكن اللافت هو صيغة المناصحة والرد الملكي، ونرى كيف ناصح العلماء الملك وأبدوا رأيهم بلا أي تحفظ، وكيف احترم الملك رأي العلماء وقدّر نصيحتهم؛ لندرك الأسس التي أقام عليها الملك عبد العزيز دولته.

كان طلب العلماء من الملك إلغاء الاحتفال بعيد الجلوس، وكان ذلك الطلب أو الاعتراض قبيل موسم حج العام 1349هـ - شهر أبريل (نيسان) 1931م، كما صادفت ذكرى عيد الجلوس في عام 1932م وعام 1933م شهر رمضان 1350هـ و1351هـ، فلم يكن هناك أي مظاهر احتفالية خلال ذلكما العامين، وتغير المسمى من عيد الجلوس إلى ذكرى الجلوس أو يوم الجلوس رسمياً. لكن مسمى «عيد الجلوس» استمر يُتداوَل شعبياً وفي بعض وسائل الإعلام، كما استمر الاحتفال به كيوم وطني بشكل رسمي خلال الأعوام التالية وطوال حياة الملك عبد العزيز (أي لمدة 23 عاماً) مع تفاوت المراسم البروتوكولية والتغطيات الإعلامية لها، وكان آخر احتفال بذلك اليوم في عهد الملك عبد العزيز يوم 22 ربيع الثاني 1372هـ - الموافق 8 يناير 1953م، حيث توفي رحمه الله بعد نحو 11 شهراً من ذلك التاريخ.

أما الأمر الثاني: هناك موضوع أهم كان يجول في ذهن الملك عبد العزيز، ألا وهو الإعلان عن توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية؛ لذا فإن الملك لم يشأ أن يكون هناك جدل حول عيد الجلوس مع الوضع في الحسبان أن الاعتراض رسمياً كان من علماء نجد، ولم يكن هناك اعتراض رسمي من علماء الحجاز؛ بل إن علماء الحجاز كانت لهم مشاركة في المراسم الاحتفالية بعيد الجلوس.

كما أن تلك الاحتفالات كانت تقام في الحجاز، حيث مقر الحكومة ووزارة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي الأجنبي، والمناسبة في مجملها تتعلق بالاحتفال بجلوس الملك عبد العزيز على عرش الحجاز.

ونَجْد في ذلك التاريخ كانت مملكة مستقلة تماماً كما الحجاز، والجامع بينهما هو جلالة الملك، إضافة إلى أنه قد يكون نُظر إلى الاحتفالات التي صاحبت إعلان توحيد البلاد خلال شهر جمادى الأولى 1351هـ - سبتمبر 1932م في أنحاء المملكة كافة بما في ذلك نجد والحجاز، كاحتفالات بديلة عن احتفالات عيد الجلوس.

ورغم ذلك لم يتم اعتبار ذكرى الإعلان عن توحيد البلاد يوماً وطنياً في تلك الأيام أو حتى الاحتفال بها في السنوات اللاحقة، كما يؤكد على ذلك الباحث والمؤرخ السعودي قاسم بن خلف الرويس: «ويلاحظ أن الصحيفة الرسمية نشرت ــ ربما لأول مرة ــ تنويهاً مقتضباً بمناسبة وطنية مهمة هي الذكرى السابعة لإعلان توحيد المملكة العربية السعودية عام 1357هـ - 1939م، وتكرر التنويه بهذه المناسبة في ذكراها الثامنة عام 1358هـ - 1940م، وكما يظهر فإنه لم يكن هناك أي بوادر للاهتمام بهذه المناسبة الوطنية أو إبرازها أو الاحتفال بها في تلك الفترة».

ومن ذلك يتضح أن اليوم الوطني الأول للمملكة العربية السعودية والذي كان يحتفل به رسمياً لمدة 23 عاماً في عهد الملك عبد العزيز منذ عام 1348هـ وحتى 1372هـ - 1930م وحتى عام 1953م هو يوم 17 الجدي الموافق 8 يناير، وهو يوم مبايعة الملك المؤسس ملكاً على الحجاز، وخلال تلك الثلاثة والعشرين عاماً كانت المظاهر الاحتفالية باليوم الوطني تتأرجح بين مد وجزر حسب الظروف المحيطة.

أول بيعة لولي العهد

تعدّ أول بيعة لولي عهد المملكة العربية السعودية؛ وجاءت بناءً على المقترح المرفوع للملك عبد العزيز والذي أورده وزير الدولة والمستشار فؤاد حمزة بالنص الآتي:

في اليوم الثاني عشر من شهر جمادى الأولى عام 1351هـ (13 سبتمبر 1932م) اجتمع لفيف من الوطنيين في الطائف وحرّروا الصك التاريخي الآتي:

«الحمد لله وحده، إنه لما كان في هذا اليوم الثاني عشر من شهر جمادى الأولى من عام الواحد والخمسين والثلاثمائة والألف من هجرة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، اجتمع الموقّعون أدناه للبحث والمذاكرة في أمر فيه عزّ ومنعة وشرف وألفة ووضع قرار فيه يرفعونه إلى سدة حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، نصره الله وأيّد ملكه، ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد خصّ هذه البلاد بين شقيقاتها الأقطار العربية، فكانت أشرف صنعاً، وأوسع رقعة وأعزّ نفراً وأوفر خلقاً وعداً، وأظهر استقلالاً وسؤدداً، وأقدر على مواجهة الملمات والكوارث، وأسبق إلى الغايات والمصالح، ووهب أهلها مزايا لم تكن لسواهم فجاءوا عنصراً عربياً واحداً في أصله، واحداً في عاداته وتقاليده، واحداً في دينه وإسلامه، واحداً في تاريخه وعنعناته، ففي البلاد بأجمعها ما يوحّدها ويجعلها وحدة عنصرية كاملة، ويجعل أهلها أمة واحدة لا فرق بين من أتهم منهم ومن أنجد، ومن أغور، ومن أحجز، ومن أيمن. فلما كانت حال البلاد وأهلها كما مرّ وكان لها هذا المقام الممتاز بين سائر الأصقاع والأمصار التي يقطنها العرب، وكانت أوضاعها الحكومية الراهنة لا تتلاءم مع طبيعة الوحدة التي هي وأهلوها عليها، وكان اسمها الحاضر وهو (المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها) لا يعبر عن الوحدة العنصرية والحكومية والشعبية الواجب إظهارها فيها ولا يدل إلا على مسميات لأصقاع جغرافية لبعض أقطار العرب، تقصر عن الإشادة بالحقيقة الواقعة المشار إليها آنفاً، ولا يرمز إلى الأماني التي تختلج في صدور أبناء هذه الأمة للاتحاد والائتلاف بين جميع الناطقين بالضاد على اختلاف أقطارهم وتباعد أمصارهم. ولما كانت الأوضاع الشكلية المشار إليها لا تدل على الروابط العميمة الكائنة بين أفراد السكان ولا على التضامن الموجود بينهم على ما فيه عز البلاد وتعاليها (كما ظهر ذلك جلياً في التضامن في حوادث ابن رفادة الأخيرة) ولا على الارتباط الحقيقي بين شقي المملكة المهيبين تحت ظل جلالة الجالس على العرش، فإن المجتمعين يرفعون بكمال الخضوع إلى سدة حضرة صاحب الجلالة أمنيتهم الأكيدة في أن يتكرم بإصدار الإرادة السنية بالموافقة على تبديل اسم المملكة الحالي إلى اسم يكون أكثر انطباقاً على الحقيقة وأوضح إشارة إلى الأماني المقبلة وأبين في الإشادة بذكر من كان السبب في هذا الاتحاد، والأصل في جمع الكلمة وحصول الوحدة وهو شخص جلالة الملك المفدى، وذلك بتحويل اسم (المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها) إلى اسم (المملكة العربية السعودية) الذي يدل على البلاد التي يقطنها العرب ممن وفّق الله جلالة الملك عبد العزيز السعود إلى توحيد شملهم وضم شعثهم هذا، ولما كان الاستقرار والديمومة والثبات من الشروط الأساسية التي تستهدفها الأمم في حياتها السياسية والاجتماعية، والتي لا أمل بمواجهة صروف الحدثان وكوارث الدهر إلا بها، والتي لا تقوم لبلاد ولا لأمة بدونها قائمة كما هو مشاهد في تاريخ الأمم والحكومات والدول التي أهملت مثل هذا الأمر الخطير وما آلت إليه من سوء المنقلب والمصير. فإن المجتمعين يتقدمون إلى سدة صاحب الجلالة الجالس على العرش أطال الله بقاءه وأمد حياته باستعطاف آخر مؤداه أن يتفضل جلالته بإصدار الأمر الكريم بالموافقة على سن نظام خاص بالحكم وتوارث العرش لكي يعلم الجميع من صديق وعدو، وقريب وبعيد، أن هذا المُلك موطد الأركان ثابت الدعائم لا تزعزعه العواصف، ولا تثني عوده الأيام، وجلالته أطال الله عمره أول من يقدّر أهمية هذا الأمر الخطير وفوائده العميمة في داخل البلاد وخارجها وتقوية مركزها الأدبي والمادي. والله تعالى نسأله أن يوفق جلالة الملك المفدى إلى ما فيه الخير والصلاح.

التــواقيـــع

فؤاد حمزة، صالح شطا، عبد الله الشيبي، محمد شرف رضا، السيد عبد الوهاب نائب الحرم، إبراهيم الفضل، محمد عبد القادر مغيربي، رشيد الناصر، أحمد باناجه، عبد الله الفضل، خالد أبو الوليد القرقني، محمد شرف عدنان، حامد رويحي، حسين باسلامة، محمد صالح نصيف، عبد الوهاب عطار، مهدي القلعلي.

مرسوم التوحيد الذي أصدره الملك عبد العزيز

توحيد البلاد

لكن ما يهمنا هنا هو هذا النص النفيس الذي كتبه سبعة عشر من رجال الدولة الكبار لخّصوا فيه الحال واستشرفوا المستقبل واقترحوا الفكرة، استكمالاً لرؤية قائدهم عبد العزيز، رحم الله الجميع. ومثل هذه النصوص تستحق أن تُقرأ وتُحلل في سياقها التاريخي، ويستنبط منها ويكتب عنها الكثير عن ظروف الزمان والمكان والإنسان.

لقد كان تحدي بناء الدولة وإدارتها هو أحد أكبر التحديات التي واجهت الملك المؤسس، ناهيك عن استمراريتها وتطورها وضبط أهم عناصر استقرارها. يقول مؤرخ القومية العربية الكاتب والدبلوماسي اللبناني جورج أنطونيوس: «ولم يكن ما حققه ابن سعود في إدارة إمبراطوريته أقل روعة من نجاحه في ميادين القتال ومجالات السياسة. وكانت مهمة إنشاء نظام وعدالة وأسس للتقدم من الأمور الشاقة العسيرة في بلاد مفتوحة مترامية الأطراف.....».

وفي 17 جمادى الأولى 1351هـ - 18 سبتمبر 1932م، صدر الأمر الملكي رقم 2716، ونصّت المادة السادسة منه: «على مجلس وكلائنا الحالي الشروع حالاً في وضع نظام أساسي للمملكة ونظام لتوارث العرش ونظام لتشكيلات الحكومة وعرضها علينا لاستصدار أوامرنا فيها». ويلاحظ في منطوق الأمر الملكي النص على مصطلح «توارث العرش»؛ وذلك تأسيساً على ما ورد في النظام المقترح والالتماسات المرفوعة من المواطنين، وسنتطرق فيما يلي لما حصل بعد ذلك، ونحاول الإجابة عن أسباب استبدال ذلك المصطلح.

ونزولاً عند رغبة الملك عبد العزيز عقد اجتماع مساء يوم الأربعاء 15 محرم 1352هـ - 10 مايو 1933م في قاعة مجلس الشورى بدار الحكومة (مبنى الحميدية) في مكة المكرمة، والحقيقة أن ذلك الاجتماع لم يقتصر على أعضاء مجلسي الوكلاء والشورى (السلطتين التنفيذية والتشريعية)، كما أوردت ذلك أكثر المصادر التي تطرقت للاجتماع؛ بل إن الاجتماع كان اجتماعاً للسلطات الثلاث، حيث كانت السلطة القضائية ممثلة أيضاً. رأس الاجتماع (الأمير) فيصل، رئيس مجلس الوكلاء ورئيس مجلس الشورى، وبحضور الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، رئيس القضاة والشيخ عبد الله المحمد الفضل نائب رئيس مجلس الوكلاء ونائب رئيس مجلس الشورى، والشيخ أحمد القاري قاضي مكة المكرمة والسيد محمد المرزوقي أبو حسين عضو هيئة التدقيقات (مجلس القضاء الأعلى)، وأعضاء مجلس الوكلاء: يوسف ياسين، وفؤاد حمزة، وعبد الله السليمان والسيد صالح شطا، وأعضاء مجلس الشورى: الشريف محمد شرف رضا، والسيد عبد الوهاب نائب الحرم، وعبد الله الشيبي، ومحمد مغيربي، وعبد الوهاب عطار، وأحمد الغزاوي، وعبد الله الجفالي وحسين باسلامة.

الملك سعود بن عبد العزيز

مبايعة سعود بن عبد العزيز ولياً للعهد

وفي صباح يوم الخميس 16 محرم - 11 مايو، عقد المجتمعون جلسة ثانية وقّعوا فيها على قرار مبايعة (الأمير) سعود بن عبد العزيز ولياً لعهد المملكة العربية السعودية. تم توقيع ذلك القرار التاريخي على ورق من «رق الغزال الفاخر»، ثم توجه المجتمعون إلى القصر الملكي في المعابدة وقدموا القرار إلى الملك عبد العزيز الذي أصدر أمره السامي بالموافقة على ذلك. وتم تعميم منطوق الأمر الملكي إلى أنحاء المملكة كافة وتحديد موعد الاحتفال بالبيعة، وجرت مراسلات برقية بين الملك عبد العزيز وابنه سعود تضمنت وصايا وتوجيهات الملك المؤسس لولي عهده، وبلّغه فيها أن أخاه فيصل سيتلقى البيعة نيابةً عنه في مكة المكرمة ومن ثم سيسافر مع أفراد الأسرة إلى الرياض لمبايعته، ورد (الأمير) سعود، مؤكداً التزامه بوصية والده وأنها ستظل في قلبه راسخة مرحباً بمجيء إخوته.

وتلقى (الأمير) فيصل البيعة نيابةً عن ولي العهد عند باب الصفا في المسجد الحرام صباح يوم الاثنين 20 محرم 1352هـ - 15 مايو 1933م، كما تم الاحتفال بالبيعة في الملحقات (المناطق)، ووجّه (الأمير) سعود في بيان نشرته الجريدة الرسمية، شكره للشعب السعودي على إجماع كلمته على مبايعته بولاية العهد.

ومساء يوم الخميس 23 محرم - 18 مايو غادر وفد برئاسة (الأمير) فيصل نائب الملك في الحجاز ورئيس مجلس الوكلاء ورئيس مجلس الشورى يرافقه عماه الأميران أحمد ومساعد ابنا عبد الرحمن، وأخواه محمد وخالد، وأبناء عمومته خالد وعبد الله ابنا محمد بن عبد الرحمن، وفيصل وفهد وسعود أبناء سعد بن عبد الرحمن، وتركي وسعود بنا عبد الله بن سعود بن فيصل، وابنه عبد الله، كما رافقه أعضاء مجلس الشورى عبد الله الشيبي وعبد الوهاب نائب الحرم وأحمد الغزاوي، وحمل الوفد صك البيعة بولاية العهد للأمير سعود.

مأدبة كبرى في عتيقة

وفي قصر الحكم بالرياض تلقى الأمير سعود صباح يوم الاثنين 27 محرم - 22 مايو البيعة من كبار الأمراء يتقدمهم عمّه الأمير محمد بن عبد الرحمن والأمير سعود الكبير، وأفراد الأسرة والعلماء وأعيان البلاد وشيوخ القبائل، وتُليت برقية الملك عبد العزيز والكتاب الملكي الذي أرسله مع وفد البيعة، وألقى كل من الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ والشيخ عبد الله الشيبي كلمتين، وألقى الشاعر أحمد الغزاوي قصيدة بهذه المناسبة، ثم ألقى الأمير محمد بن عبد الرحمن كلمة ضافية، وفي عصر اليوم نفسه أقام الأمير محمد بن عبد الرحمن بقصره في عتيقة مأدبة كبرى احتفاءً بإعلان البيعة لولي العهد.

وتزامن مع بيعة ولي العهد إجراء أول مكالمة هاتفية بين مكة والرياض، وذلك يوم الخميس 30 محرم - 25 مايو، حيث تحدث فيها الملك عبد العزيز مع ولي عهده (الأمير) سعود لمدة 20 دقيقة، كما طرحت إدارة البريد أوائل عام 1353هـ - 1934م طوابع تذكارية بمناسبة مبايعة (الأمير) سعود بولاية العهد، وحملت تلك الطوابع ولأول مرة اسم المملكة العربية السعودية. لقد أرسى الملك المؤسس بثاقب رؤيته نهجاً دستورياً فيما يتعلق بانتقال السلطة وولاية العهد، أثبت صلابته في «تثبيت دعائم الملك وتشييد أركانه وإدامة تسلسله».

توارث العرش وولاية العهد

ونلاحظ هنا استبدال عبارة «توارث العرش» بـ«ولاية العهد». والسبب كما يراه بعض الدارسين للنظام الدستوري السعودي، أن توارث العرش قد يُفهم منه انتقال الحكم دون شورى أو بيعة، حيث ينتقل الحكم وفقاً لخط الوراثة الذي تحدده أحكام دستورية مدونة أو عرفية، دون اشتراط الشورى والبيعة؛ بينما ينتقل الحكم في المملكة العربية السعودية بانعقاد البيعة.

وكل ما يتعلق بتفاصيل البيعة والاستخلاف وولاية العهد يجده الباحث في كتب السياسة الشرعية. لذا؛ ورد في ذلك القرار التاريخي (صك مبايعة الأمير سعود بولاية العهد) النص الآتي: «رأى (الملك عبد العزيز) بعين حكمته الساهرة على راحة رعاياه والعاملة على تثبيت دعائم هذا الملك العربي الوطيد وتشييد أركانه وإدامة تسلسله أن يجيب طلب رعاياه، ويوافق على تعيين شكل واضح ثابت لولاية العهد كما ورد في أمره الملكي الكريم الصادر في 17 جمادى الأولى 1351 (الموافق 18 سبتمبر سنة 1932)، وأن يسير في ذلك على المنهاج الشرعي الذي سار عليه خلفاء المسلمين وملوكهم، وأن يعقد البيعة بولاية العهد على ما كان مستجمعاً للشروط الشرعية المرعية».

أما بشأن وضع نظام أساسي للمملكة، ففي شهر جمادى الأولى 1355هـ – أغسطس (آب) 1936م انتهى مجلس الشورى من إعداد مشروع (النظام الأساسي للمملكة العربية السعودية) بهذا المسمى، والذي تكون من 140 مادة ورفعه للمراجع العليا للمصادقة عليه، لكن ذلك النظام لم يصدر، ولم تتوفر نسخة من مسودته لاطلاع العموم.

ويرى بعض الباحثين أن عدم صدور ذلك النظام لأنه تضمن خطوات وبرامج إصلاحية يتطلب تنفيذها مبالغ كبيرة ولم تكن موارد الدولة ولا الظروف الاقتصادية تمكن الحكومة من تنفيذها. وأذهب إلى أن الظروف السياسية والاقتصادية بعد ذلك أعاقت صدور النظام الأساسي الذي تكرر ذكره في أكثر من بيان حكومي في عهود الملوك سعود وفيصل وخالد، ورغم عدم صدور تلك الوثيقة الدستورية المكتوبة، إلا أن القواعد والأعراف الدستورية استقر واستمر عليها العمل وحتى صدور الأنظمة الأساسية في عهد الملك فهد.

التطورات الدستورية والتنظيمية

ولعله من المهم أن نوضح هنا أن تأخر صدور تلك الأنظمة لم يكن – بأي حال من الأحوال – معيقاً للبناء والتطور الدستوري للدولة، ذلك البناء الذي بدأ في عهد الملك المؤسس من خلال توحيد البلاد ونيل الاعتراف الدولي بإقليمها «إعلان الدولة»، والشروع في إصدار أنظمة للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية «تنظيم سلطات الدولة»، وسنّ وأخذ البيعة لولي العهد «تنظيم انتقال الحكم في الدولة».

مع الإشارة إلى التطورات التنظيمية التي سبقت وتلت ذلك، فقد أصدر الملك عبد العزيز في شهر صفر 1373هـ - أكتوبر 1953م مرسوماً بإنشاء مجلس الوزراء، وتضمن ذلك المرسوم أول نظام لمجلس الوزراء تكون من 10 مواد، ثم أصدر الملك سعود نظاماً أشمل لمجلس الوزراء في شهر رجب 1373هـ – مارس 1954م، وتكوّن النظام من 21 مادة، ثم صدر في شهر شوال 1377هـ – أكتوبر 1958م النظام الشهير للمجلس من 50 مادة، ومنح ذلك النظام مجلس الوزراء – مع مؤسسة المُلك – الولاية الدستورية على السلطتين التنظيمية (التشريعية) والتنفيذية، إلى أن صدر نظام مجلس الشورى مع صدور الأنظمة الأساسية عام 1412هـ - 1992م، والذي أشرك مجلس الشورى في دراسة الأنظمة، والمعاهدات، والاتفاقيات الدولية، ويرى الفقيه الدستوري السعودي الدكتور محمد بن عبد الله المرزوقي: أنه «من الأمور الجديدة التي جاء بها النظام الأساسي للحكم إسناده السلطة التنظيمية (التشريعية) إلى جهتين، هما مجلس الوزراء ومجلس الشورى».

استقلال السلطة القضائية

وبالنسبة للسلطة القضائية، كانت منذ عهد الملك عبد العزيز ولا تزال مستقلة وتستند إلى مبادئ الشريعة الإسلامية، وأكدت أنظمة القضاء التي صدرت في مراحل مختلفة على أن: «القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية، وليس لأحد التدخل في القضاء». وقد أصدر الملك المؤسس جملة من الأنظمة والتعليمات المتعلقة بالمحاكم ورئاسة القضاء (صاحبة الولاية الدستورية على السلطة القضائية)، كان آخرها تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية، ونظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي الذي تكوّن من 258 مادة لتنظيم رئاسة القضاء، والتفتيش القضائي، واختصاصات وصلاحيات وأعمال المحاكم الشرعية وقضاتها. صدر ذلك النظام عام 1352هـ – 1953م وظل نافذاً لأكثر من ستين عاماً وحتى صدور نظام المرافعات الشرعية عام 1435هـ - 2013م في عهد الملك عبد الله.

ولفظة «تركيز المسؤوليات» التي ظهرت في عنوان ذلك النظام القضائي، جاءت كذلك في ديباجة مرسوم إصدار نظام مجلس الوزراء لعام 1377هـ - 1958م، وهي تشير بوضوح إلى تنظيم مسؤوليات واختصاصات كانت قائمة وممارسة فعلاً وبعضها ذو صفة أو صبغة دستورية، كاختصاص إصدار الأنظمة وكذلك إبرام المعاهدات والتي برع الملك عبد العزيز في الاضطلاع بها مرفوداً – في الجانب الفني القانوني – بخبرات عدد من مستشاريه وكانت حجر أساس في البناء الدستوري للدولة.

كما كان نظام مجلس الوزراء ولخمسة وثلاثين عاماً، بكل ما اشتمل عليه من تنظيم لاختصاصات الدولة التشريعية والتنفيذية والإدارية والمالية، وثيقة دستورية، وفي رأي بعض شراح القانون الدستوري السعودي بمثابة نظام أساسي، شكلت مع أنظمة القضاء ومن بينها نظام القضاء الذي صدر عام 1395هـ - 1975م في عهد الملك خالد، قاعدةً للأحكام الدستورية الخاصة بسلطات الدولة التي تضمنها النظام الأساسي للحكم.

«الفراغ الدستوري»

وقد أشار الملك فهد، في بيانه الشهير عند إصدار الأنظمة الأساسية، إلى ذلك بالقول: «وقد استدعى تطور الحياة الحديثة أن ينبثق عن هذا المنهج أنظمة سياسية في عهد الملك عبد العزيز. ونظراً لتطور أمور الدولة وتكاثر واجباتها فقد أصدر الملك عبد العزيز - رحمه الله – أمره بتأسيس مجلس الوزراء والذي يعمل الآن وفقاً لنظامه الصادر في عام 1377هـ، وما طرأ عليه من تعديلات. لقد استمر العمل بهذا المنهج حتى يومنا هذا بحمد الله وتوفيقه.

ولذلك لم تعرف المملكة العربية السعودية ما يسمى (بالفراغ الدستوري)، فمفهوم (الفراغ الدستوري) – من حيث النص – هو ألا تكون لدى الدولة مبادئ موجهة وقواعد ملزمة ولا أصول مرجعية في مجال التشريع وتنظيم العلاقات، إن المملكة العربية السعودية لم تشهد هذه الظاهرة في تاريخها كله لأنه طوال مسيرتها تحكم بموجب مبادئ موجهة وقواعد ملزمة وأصول واضحة يرجع إليها الحكام والقضاة والعلماء وسائر العاملين في الدولة».

شركة «أرامكو» تهنئ الملك سعود بذكرى الجلوس الملكي

الاحتفال باليوم الوطني

وعودة إلى الاحتفال باليوم الوطني، فقد تغير تاريخ اليوم الوطني عندما تولى الملك سعود مقاليد الحكم بعد وفاة الملك عبد العزيز يوم الاثنين 2 ربيع الأول 1373 هـ الموافق 9 نوفمبر 1953م، وبايعته الأسرة المالكة وأهل الحل والعقد في القصر الملكي بالطائف كما بايعت (الأمير) فيصل بولاية العهد، ولكن تم اختيار اليوم الثاني عشر من شهر نوفمبر وليس اليوم التاسع من الشهر نفسه يوماً للاحتفال بذكرى جلوس الملك سعود على العرش (اليوم الوطني)؛ وقد يكون ذلك تيمناً كما يرى بعض الباحثين، إذ إنه اليوم الذي توجه فيه الملك سعود إلى مكة المكرمة (مقر الحكومة آنذاك) وأمّ المصلين في صلاة المغرب في المسجد الحرام وتلقى بيعة رؤساء الدوائر الحكومية وكبار الموظفين والعلماء والتجار والوجهاء وأعضاء المجالس والهيئات وعموم الشعب، أو أن الملك سعود لم يستحسن أن يكون يوم الاحتفاء يوم 9 نوفمبر لأنه يوم وفاة الملك عبد العزيز، وهذا هو المرجح.

وجاء الاحتفاء بالذكرى الأولى لجلوس الملك سعود يوم الجمعة 12 نوفمبر 1954م الموافق 17 ربيع الأول 1374هـ «يوماً وطنياً سعيداً» مثلت فيه الوفود بين يدي الملك للتهنئة وتلقى فيه برقيات التهاني من الداخل والخارج وأقيمت فيه الاحتفالات في عدد من المناطق وأصدرت فيه الجرائد والمجلات أعداداً ممتازة خاصة بهذه المناسبة، ومن أبرزها جرائد «أم القرى، والبلاد، والمدينة» ومجلتا «الرياض، والمنهل».

كما انبرى عدد من الشعراء العرب للتعبير عن فرحتهم بهذه المناسبة، لكن التطور اللافت هو الخطاب الملكي السنوي الذي كان يوجهه الملك إلى الشعب في هذه المناسبة كل عام، ويتناول فيه ما يتعلق بقضايا الوطن وحياة المواطنين.

الملك سعود بن عبد العزيز أثناء إلقائه الخطاب

ووفقاً للباحث الرويس، «كان هناك تطور سنوي على برامج الاحتفال بتلك الذكرى، فبدءاً من الذكرى الأولى، أصبحت الجريدة الرسمية (أم القرى) تنشر كلمات للأمراء والوزراء بهذه المناسبة، واختارت الإذاعة السعودية يوم الذكرى لإصدار مجلة (الإذاعة)، كما أقامت كلية الملك عبد العزيز الحربية مهرجاناً خاصاً بتلك المناسبة».

استمرت الاحتفالات سنوياً مع تصاعد الاهتمام الإعلامي كإصدار الجريدة الرسمية عدداً خاصاً، وتخصيص الإذاعة برامج خاصة بالذكرى ونشر إعلانات التهاني في الصحف، وظل الاحتفال بذكرى الجلوس يوم 12 نوفمبر كيوم وطني (ثانٍ) للمملكة العربية السعودية لمدة عشر سنوات، وكان آخرها الذكرى العاشرة في عام1383هـ - 1963.

صور الأمر الملكي لليوم الوطني بتحديد 23 سبتمبر يوماً وطنياً

الملك فيصل يحدد 23 سبتمبر

وحينما ارتقى الملك فيصل العرش في 27 جمادى الأخرة 1384هـ - 2 نوفمبر 1964م وقبل حلول الذكرى الحادية عشرة بأيام، ولم يكن هناك أي احتفال باليوم الوطني ذلك العام، رأى الملك فيصل أن تحديد اليوم الوطني بذكرى جلوس الملك يجعله يوماً غير ثابت، حيث يتغير مع تولي كل ملك للعرش فعُرض على مجلس الوزراء بضرورة جعل يوم وطني محدد وثابت التوقيت في كل عام.

فتقرر اختيار يوم إعلان توحيد المملكة العربية السعودية الموافق لليوم الأول من الميزان (مطلع السنة الهجرية الشمسية) وهو يوم 23 سبتمبر من السنة الميلادية وصدر قرار من مجلس الوزراء بذلك، وتوج بالمرسوم الملكي رقم م/9 بتاريخ 24 ربيع الآخر 1385هـ الموافق 21 أغسطس 1965م، بأن يكون يوم 23 سبتمبر هو اليوم الوطني (الثالث) للمملكة العربية السعودية.

وقد بدأ الاحتفال بهذا اليوم لأول مرة في 28 جمادى الأولى 1385هـ - 23 سبتمبر 1965م، أي بعد مرور 33 عاماً على إعلان توحيد المملكة العربية السعودية. ومنذ ذلك الحين اختفى مصطلح ومناسبة (ذكرى الجلوس الملكي) واستبدل بذكرى البيعة، غير أنها ظلت مناسبة ليس لها أي مظاهر أو مراسم. كما أن الاحتفاء باليوم الوطني كان في إطار رسمي تمثل في تلقي الملك التهاني وإقامة السفارات السعودية في الخارج حفلات استقبال مع تغطيات إعلامية، دون احتفالات شعبية ودون أن يكون عطلة رسمية.

استمر الوضع على هذا المنوال طوال عهد الملك فيصل والملك خالد وأكثر سنوات عهد الملك فهد. لكن الاهتمام باليوم الوطني شعبياً والمواكبة الإعلامية زادت في أواخر عهد الملك فهد، حيث صدر الأمر السامي رقم (7/1600/م ب) وتاريخ 2 ذو القعدة 1425هـ الموافق 14 ديسمبر 2004م القاضي بالموافقة على ما رأه مجلس الوزراء بأن يكون يوم (23 سبتمبر) من كل عام إجازة رسمية بمسمى إجازة اليوم الوطني، وذلك بعد نحو 40 عاماً من إقرار ذلك التاريخ يوماً وطنياً، وبدءاً من عام 1426هـ - 2005م أخذ الاحتفاء باليوم الوطني بُعداً رسمياً وشعبياً وأصبحت الاحتفالات تقام في أنحاء المملكة كافة مع تغطيات إعلامية مكثفة ازدادت مع انتشار وسائل التواصل وتطور تلك الاحتفالات وتنوعها.

3 مراحل لليوم الوطني

مما سبق يتضح أن اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية تنقّل تاريخه ثلاث مرات بين 8 يناير و12 نوفمبر واستقر في 23 سبتمبر، وكان أول احتفال به في عام 1930م، وذلك قبل إعلان توحيد البلاد. وبذلك يكون مرّ 93 عاماً على أول يوم وطني في عهد الملك عبد العزيز كما مرّ معنا. وهذا قد يوضح اللبس الذي يتداول كل عام حول صحة عدد أعوام اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية.

هذا فيما يتعلق بتاريخ اليوم الوطني وعيد الجلوس، أما عن البيعة فهي في الأصل مبدأ إسلامي تميزت به الحضارة الإسلامية وتُعدّ عهداً وعقداً بين الراعي والراعية، كما أنها أحد الأسس الدستورية للدولة السعودية منذ تأسيسها الأول قبل 300 عام، كما أكدت عليها نصوص النظام الأساسي للحكم ثم نظام هيئة البيعة. وكما تقدم: تمت مبايعة الملك عبد العزيز في المسجد الحرام، وتطرقنا كذلك إلى تفاصيل مبايعة ولي عهده (الأمير) سعود، لكن ماذا عن أماكن وتفاصيل مبايعة الملوك وأولياء العهد بعد ذلك؟

الملك سعود يتوسط أخوته بعد مبايعته ملكاً للمملكة العربية السعودية

البيعة وانتقال الحكم

هنا لا بد من التفصيل، حيث إنه عند وفاة الملك عبد العزيز (يوم 2 ربيع الأول 1373هـ - 9 نوفمبر 1953م) بايع كبار الأمراء الملك سعود في القصر الملكي بالطائف (قصر العقيق حالياً)، وهو المكان نفسه الذي توفي فيه الملك المؤسس كما بايعوا (الأمير) فيصل بولاية العهد.

وتم ذلك قبل إعلان بيان الوفاة وأصبح هذا تقليداً متبعاً (مبايعة كبار أفراد الأسرة الحاكمة أو «البيعة الخاصة» أولاً ثم تتم «البيعة العامة»)، وجاء نص البلاغ رقم (2) الذي صدر عن الديوان الملكي العالي كالآتي: «على إثر وفاة حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية تغمده الله برحمته والتفاف أفراد الأسرة المالكة الكريمة حول جثمانه الطاهر خرجوا من عنده وبايعوا حضرة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبد العزيز المعظم ملكاً على البلاد العربية السعودية على طاعة الله ورسوله والسمع والطاعة، فنُودي بحضرة صاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الفيصل آل سعود ملكاً للمملكة العربية السعودية. وعلى أثر ذلك أعلن حضرة صاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز ولاية عهده لأخيه حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز ولياً للعهد، كما بايع سموه على أثر ذلك أفراد الأسرة المالكة».

ويلاحظ في نص هذا البيان، أن الملك سعود أعلن ولاية العهد لأخيه فيصل، ويفهم من كلمة «أعلن» أن الأمر كان محسوماً قبل ذلك، وفي اليوم التالي تلقى الملك سعود في القصر نفسه بيعة قادة الجيش وأعضاء مجلس الشورى وكبار رجالات الدولة وشيوخ القبائل وجموع غفيرة من المواطنين، وهذا يصحح ما ذكرته بعض المصادر، وهو ما يتداول في مواقع رسمية بأن بيعة الملك سعود تمت في جدة، مع إيضاح أن الملك سعود بقي في الطائف ولم يرافق جثمان الملك عبد العزيز للرياض، ثم توجه من الطائف بالطائرة إلى جدة يوم الأربعاء 4 ربيع الأول 1373هـ - 11 نوفمبر 1953م، ثم إلى مكة وتلقى البيعة من وفود وجموع من طبقات الشعب كافة، بينما تلقى ولي العهد (الأمير) فيصل البيعة في قصر الحكم بعد دفن الملك عبد العزيز في الرياض.

عاد الأمير فيصل إلى الطائف ورافق الملك سعود إلى جدة ومكة. وكانت بيعة الملك سعود أول بيعة تبث أخبارها الإذاعة السعودية، وزاد استعمال البرقيات فيها كوسيلة مبايعة، كما زادت التغطيات الصحفية، حيث نشرت الصحف وأذاعت الإذاعة بياناً باسم الملك سعود يمكن أن يعدّ بمثابة «خطاب العرش».

الملك سعود يتلقى البيعة من المواطنين

وأصدر الملك سعود عدداً من الأوامر تضمنت استمرار الوزراء وكبار المسؤولين في مناصبهم والعفو عن السجناء والمبعدين السياسيين وسجناء الحق العام، واستقبل الملك وفوداً خارجية وممثلي البعثات الدبلوماسية والجاليات الأجنبية الذين قدموا التهاني لجلالته بتوليه الحكم، وتلقى أمراء المناطق البيعة نيابة عن الملك كما تلقت الممثليات السعودية في الخارج البيعة من المواطنين السعوديين الموجودين في تلك الدول، وأصبحت هذه وغيرها من التدابير والمراسم والإجراءات من التقاليد المصاحبة للبيعة.

وفي يوم الاثنين 27 جمادى الآخرة 1384هـ - 2 نوفمبر 1964م عُقدت جلسة مشتركة لأعضاء مجلسي الوزراء والشورى في قصر الحمراء (وهذا هو الاسم الأساس للقصر وليس «الأحمر») بالرياض برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء (الأمير) خالد بن عبد العزيز، وقرروا فيها: «مبايعة ولي العهد فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملكاً شرعياً على المملكة العربية السعودية وإماماً للمسلمين»، وطلبوا من الملك فيصل: «قبول البيعة وإعلانها»، بايع كبار الأمراء والعلماء (أعضاء السلطة القضائية) وأعضاء مجلس الوزراء وأعضاء مجلس الشورى المجتمعون في قصر الحمراء الملك فيصل هناك، أذيع «بيان البيعة» نحو الساعة الثانية ظهراً وتلاه وزير الإعلام السعودي آنذاك الشيخ جميل الحجيلان، الذي ذكر أنه نحو الساعة 11 من صباح ذلك اليوم أقلته طائرة بوينغ 707 وكانت من أوائل الطائرات الحديثة في أسطول الخطوط السعودية من مطار الرياض إلى جدة لبث البيان، حيث لم يكن هناك استوديوهات إذاعية في الرياض.

بيان البيعة

وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتلو فيها وزير الإعلام بيان البيعة وأصبحت تقليداً مصاحباً، أما خطاب العرش فقد تلاه الملك فيصل بنفسه وبثّته الإذاعة مساء ذلك اليوم، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يبث فيها خطاب اعتلاء العرش بصوت الملك عبر الإذاعة، وذكر الإعلامي والمؤرخ السعودي الدكتور عبد الرحمن الشبيلي تفاصيل عن كواليس تسجيل الخطاب الملكي في قصر المعذر عصر ذلك اليوم بحضور الأمير سلطان بن عبد العزيز (وزير الدفاع والطيران وأحد كبار مستشاري الملك فيصل) والدكتور رشاد فرعون (المستشار الخاص للملك) والشيخ محمد النويصر (رئيس المكتب الخاص) والكاتب والشاعر كنعان الخطيب (يُرجح أنه هو من صاغ الخطاب الملكي)، وكيف أن طائرة خاصة أقلت الشبيلي إلى جدة بتوجيه من الأمير سلطان، حاملاً معه شريط تسجيل خطاب العرش.

وفي قصر الحكم بوسط العاصمة الرياض تلقى الملك فيصل يوم الثلاثاء 28 جمادى الآخرة - 3 نوفمبر البيعة من الأمراء وكبار رجال الدولة وأعيان البلاد وممثلي فئات الشعب، وكان يقف إلى جانبه أخوه أمير الرياض وقتذاك سلمان بن عبد العزيز.

الملك فيصل بن عبد العزيز وبجانبه الملك سلمان بن عبد العزيز حين كان أميراً للرياض

ويتكرر الأمير (الملك سلمان) والمكان والمراسم في كل بيعة تالية ولما يزيد على نصف قرن؛ مما يبين عراقة مراسم وتقاليد البيعة في المملكة العربية السعودية. ولعله من المهم الإشارة هنا إلى أن بيعة الملك فيصل في قصر الحكم عام 1384هـ - 1964م كانت أول بيعة ملكية في ذلك القصر كما كانت أول بيعة بعد إعادة بناء القصر على الطراز الحديث.

الملك فيصل بن عبد العزيز حين تلقيه البيعة ملكاً للبلاد وبجانبه الأمير محمد بن عبد العزيز

كما تلقى الملك بيعة قادة القطاعات العسكرية، واستقبل وفوداً ومبعوثين ودبلوماسيين وإعلاميين من مختلف الدول، مهنئين باعتلائه عرش البلاد، كما بدأت إعلانات التهاني في الصحف تنتشر. وصدرت أوامر ملكية باستمرار تشكيلات الوزارة (مجلس الوزراء)، وتعديلات لنظام المجلس وتعيينات، والعفو عن سجناء الحق العام، وتلقى أمراء المناطق البيعة نيابةً عن الملك، كما فتحت السفارات السعودية في الخارج أبوابها لاستقبال المواطنين المبايعين. غير أنه فور تولي الملك فيصل مقاليد الحكم لم يتم اختيار ولي للعهد، وجرت مشاورات داخل الأسرة؛ إذ بعث الملك فيصل كتاباً إلى أخيه الأمير محمد يوم 22 رمضان 1384هـ - 24 يناير 1965م - أي بعد أكثر من شهرين ونصف الشهر من مبايعته ملكاً - ومضمون الكتاب استطلاع رأي الأمير محمد حول موضوع ولاية العهد؛ كونه الذي يلي الملك فيصل في السن من أبناء عبد العزيز، وجاء في نص الكتاب:

«من فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية

إلى جناب الأخ الكريم محمد بن عبد العزيز حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد:

فإنني أرى من المصلحة اختيار ولي للعهد؛ لأن ذلك عنصر أساسي من عناصر استمرار الحكم ورسوخه في هذه البلاد التي باتت تنعم بالطمأنينة والاستقرار، وتتطلع لحياة أفضل بعد أن عصفت بها تيارات مختلفة داخلية وخارجية، وإنني إذ أطلب من سموكم إخباري بوجهة نظركم في هذا الموضوع، أنتهز هذه الفرصة لأشيد بالجهود العظيمة التي بذلها سموكم ومساهمتكم الفعالة في سبيل استقرار الوضع وتجنيب البلاد الفتن والكوارث، وبانتظار مرئياتكم».

لحظة مبايعة الملك فيصل بن عبد العزيز ملكاً وبجانبه الأمير محمد بن عبد العزيز والملك سلمان بن عبد العزيز واقفاً بجانبه حينما كان أميراً للرياض

وقبل التطرق إلى التفاصيل، لا بد من الإشادة بدور الأمير محمد وبقية إخوته من أبناء الملك عبد العزيز في تأمين وسلاسة انتقال مقاليد الحكم في جميع العهود الماضية رغم حساسيات المراحل وتحدياتها؛ وذلك لأنهم آمنوا بتقديم المصلحة العامة على المصالح الفردية لأي منهم. ويعزو المؤرخ السعودي عبد الرحمن الرويشد ذلك السلوك الرشيد إلى: «تقاليد الأسرة العتيدة وثوابتها، وقناعة أفرادها بأنهم أصحاب رسالة يسيرون على نهج والدهم الملك عبد العزيز، الذي قال: (نحن آل سعود لسنا ملوكاً ولكننا أصحاب رسالة)، وهذه الرسالة هي التي تعمق مفهومها في نفوس قادة البيت السعودي ومنحتهم دوراً خاصاً وملأت صدورهم قناعة» بأن مهمتهم المحافظة على كيان دولتهم وحفظ مصالحها وتوفير احتياجات مجتمعهم وخدمة أمتهم. يقول الكاتب والصحافي المصري محمد جلال كشك: «ولا أظن في تاريخ العرب الحديث رجلاً عرف أعباء الملك ومتطلباته ووفى بهذه الالتزامات أكثر من عبد العزيز...».

إيمان وعبقرية الملك عبد العزيز

يروي المؤرخ والسياسي الفرنسي جاك بنوا ميشان، أن «الملك عبد العزيز في شهر نوفمبر عام 1950م (1370ه) استقبل في الرياض بعثة من الأمم المتحدة وتحدث أحد أعضائها عن الإنجازات التي تحققت والتطور الذي شهدته الجزيرة العربية، فرد الملك المؤسس وهو يشير إلى بعض الفتية في المجلس: (إن أغلى ما أملك هم أبنائي... لقد عشت حياة حافلة، وها إنني اليوم في مرحلة الشيخوخة، وسوف لن يتأخر كثيراً زمن الراحة، وسأغمض عيني مطمئناً. إن أبنائي سيعكفون من بعدي على إكمال رسالتي وإذا منحهم الله العون الذي منحني فإنهم سيرسمون يوماً الطريق لأكثر من مائة مليون من المؤمنين).

واعترض مندوب الأمم المتحدة فقال: ألا تعتقدون جلالتكم أنكم في هذا تغالون في التفاؤل؟ إن العالم يعيش على فوهة البركان، ولا يعلم أحد أي مصير يترقب الجزيرة العربية إذا نشبت حرب جديدة! ففكر ابن سعود لحظة ثم أجاب ببساطة: (لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا أدعي أنني أعلم الغيب، ولكن الله جل جلاله قد غمر هذه الجزيرة بفيض من خيراته وسيمُنُّ عليها بالمزيد إذا قدَّر أنها تستحق فضله وإحسانه)».

لا أعلم بماذا أصف ما قاله الملك المؤسس، أهو رؤية أم إيمان أم ثقة أم توكل؟ لكنه بلا شك (إيمانُ عبد العزيز) وشيء من عبقريته. ويكفي أن نقرأ جواب الأمير محمد المؤرخ في 23 رمضان 1383هـ - 25 يناير 1964م على كتاب الملك فيصل لنجد التطبيق العملي لما قاله الملك المؤسس، حيث جاء في رد الأمير محمد:

«إن ميادين العمل لخدمة الشعب ليست وقفاً على المناصب والألقاب، وهناك مجالات واسعة ومتعددة تمكن كل فرد من أفراد شعبنا العزيز من تأدية واجبه في خدمة بلاده.

وإنني وإن كنت المرشح الأول لمنصب ولاية العهد إلا أنني أفضّل أن أكون بعيداً عن مظاهر الرتب والألقاب ممن يشد أزركم ويوجد في الصفوف لمواصلة العمل في ظل قيادتكم الرشيدة التي لمس الجميع آثارها في الداخل والخارج.

وإذا جاز لي أن أرشح أحداً لشغل منصب ولاية العهد فإنني أرى في أخي الأمير خالد بن عبد العزيز من الصفات ما يجعله أهلاً لذلك، راجياً من الله أن يلهمكم التوفيق والسداد ويحفظ جلالتكم من كل سوء مولاي».

وفي يوم الاثنين 16 ذو القعدة 1383هـ - 29 مارس 1964م وجّه الملك فيصل رسالة سامية إلى الشعب السعودي هذا نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم

من فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية إلى إخواني أبناء الشعب العربي السعودي الكريم:

تحية وبعد:

فإني أحمد الله على نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه. هذا، ونظراً لأن ولاية العهد هي عنصر أساسي من عناصر استمرار الحكم ورسوخه، وبعد أن تمتعت البلاد بنعمة الاستقرار، وسارت في طريق التقدم والازدهار بفضل تمسكها بدينها الحنيف وشريعتها السمحاء.

فإنه ليسرني أن أعلن لإخواني أبناء الشعب السعودي الكريم، بأنني قد اخترت أخي الأمير خالد بن عبد العزيز ولياً للعهد، يحكم من بعدي بكتاب الله وسنة رسوله، وكلي ثقة بأن الشعب سيكون له خير ناصر ومعين.

والله ولي التوفيق».

ونلاحظ في هذا البيان استخدام مفردة (اخترت)، ويفهم منها أن القرار كان للملك.

ومساء اليوم نفسه، وفي قصر الأمير محمد بحي عليشة في الرياض، بايع أفراد الأسرة وعلى رأسهم الأمراء عبد الله بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد العزيز، (الأمير) خالد ولياً للعهد.

تجدر الإشارة إلى أن (الأمير) خالد كان قد عُيّن نائباً لرئيس مجلس الوزراء في عام 1382هـ - 1962م، واستمر في المنصب بعد اختياره ولياً للعهد، وأصبح ذلك تقليداً متبعاً، بأن يكون ولي العهد هو نائب رئيس مجلس الوزراء.

منصب النائب الثاني

كما حصل تطور لافت في عهد الملك فيصل، وهو استحداث منصب النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، حيث صدر يوم الأحد 27 جمادى الآخرة 1387 هـ - 1 أكتوبر 1967م الأمر الملكي رقم أ/36 بتعيين (الأمير) فهد بن عبد العزيز نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء مع احتفاظه بحقيبة الداخلية.

وعلى الرغم من عدم وجود نص دستوري، فإن هذا المنصب أصبح من يتولاه يكون الثالث عُرفاً في تراتبية الحكم بعد الملك وولي العهد، كما أن كل من تولاه منذ ذلك التاريخ اُختير ولياً للعهد.

وهكذا، مع كل بيعة هناك أسس راسخة وتقاليد مرعية ومراسم واضحة، وأشياءٌ أُخر يمكن أن تتطور أو تتغير، بيد أنه لا بد من التأكيد أن بيعة الملك فيصل بالذات أسست نهجاً محدداً لكل البيعات التي تلتها، أو كما يرى الكاتب والباحث الأمريكي جوزيف كيشيشيان: «وضع الأسس لخلافة أفقية متينة».

الملك خالد بن عبد العزيز

مبايعة في المستشفى

في ضحى يوم 13 ربيع الأول 1395 هـ - 25 مارس 1975م نُقِل الملك فيصل إلى مستشفى الرياض المركزي (الشميسي) إثر تعرضه لإطلاق النار، وانتقل ولي العهد وكبار الأمراء إلى هناك. وبعد الظهر عندما أعلن الأطباء وفاة الملك فيصل، بايع الأمراء ــ وهم في المستشفى ــ ولي العهد خالد بن عبد العزيز ملكاً، وصدر بيان الديوان الملكي الذي نعى الملك فيصل: «قام أفراد الأسرة وفي مقدمتهم الأمراء عبد الله بن عبد الرحمن، ومحمد وناصر وسعد وفهد أبناء عبد العزيز بمبايعة ولي العهد الأمير خالد بن عبد العزيز ملكاً على البلاد. وبعد إتمام البيعة أعلن صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز ترشيح صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولياً للعهد، وقد أجمع أفراد الأسرة على ذلك وقاموا بمبايعة سموه...».

ومما يلفت الانتباه هنا استخدام كلمة «ترشيح» الملك لولي العهد بدلاً من كلمة «اختيار» كما سبق، وقد يكون السبب وجود الأمير محمد وهو أكبر سناً من الملك خالد، وكذلك الأميران ناصر وسعد وهما أكبر سناً من (الأمير) فهد، فكان من الأنسب استخدام كلمة ترشيح.

ألقى وزير الإعلام إبراهيم العنقري كلمة الملك خالد إلى الشعب في أول «خطاب عرش» متلفز. وتلقى الملك خالد وولي عهده (الأمير) فهد البيعة من طبقات الشعب كافة في قصر الحكم صباح الأربعاء، وكانت هذه أول بيعة مشتركة للملك وولي عهده في قصر الحكم بالرياض. كما تطورت التغطيات الإعلامية هذه المرة، فإلى جانب الإذاعة والصحف والمجلات التي كثفت من تغطياتها وإعلاناتها، غُطيت مراسم البيعة تلفزيونياً وبثت وكالة الأنباء السعودية أخبار البيعة لأول مرة.

استقبل الملك وفوداً خارجية على المستويات كافة، وصدرت الأوامر الملكية بتعديل نظام مجلس الوزراء واستمرار أعضائه في مناصبهم وتعيين ولي العهد (الأمير) فهد نائباً أول و(الأمير) عبد الله نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء وغيرها من التعيينات، كما صدر الأمر بالعفو عن سجناء الحق العام، وتلقى أمراء المناطق البيعة من المواطنين نيابةً عن الملك، وكذلك السفارات في الخارج.

الملك فهد بن عبد العزيز

النظام الأساسي للحكم

توفي الملك خالد في قصره بالخالدية بالطائف صباح يوم الأحد 21 شعبان 1402 هـ - 13 يونيو 1982م، وصدر عن الديوان الملكي بيانٌ عن وفاة الملك وبيانٌ آخر عن مبايعة ولي العهد ملكاً، وجاء فيه: «لقد قام أفراد الأسرة وعلى رأسهم الأمير محمد بن عبد العزيز بمبايعة ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز ملكاً على البلاد. وبعد إتمام البيعة أعلن صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز ترشيح صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولياً للعهد، وقد أجمع أفراد الأسرة على ذلك وقاموا بمبايعة سموه...»، ونرى هنا استمرار استخدام كلمة «ترشيح» الملك لولي العهد وذلك للسبب نفسه.

وتضمن أول أمر ملكي يصدره الملك فهد استمرار جميع أعضاء مجلس الوزراء في مناصبهم وتعيين ولي العهد (الأمير) عبد الله نائباً، ووزير الدفاع والطيران الأمير سلطان نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء.

وفي مساء اليوم نفسه ألقى الملك فهد كلمة مؤثرة بثها التلفزيون السعودي، وتعدّ أول خطاب عرش يلقيه الملك بنفسه تلفزيونياً. تلقى الملك فهد وولي عهده (الأمير) عبد الله البيعة من الأمراء والعلماء والقادة العسكريين وكبار رجالات الدولة والمواطنين في قصر الحكم يوم الاثنين، كما استقبل وفوداً من مختلف دول العالم مهنئة بارتقائه عرش البلاد.

وفي تطور دستوري لما يتعلق بمبايعة الملك، تحولت معه القواعد الدستورية العرفية التي استقر عليها العمل إلى مواد مكتوبة، أصدر الملك فهد يوم 27 شعبان 1412 هـ - 1 مارس 1992م أمراً ملكياً معلناً صدور النظام الأساسي للحكم من 9 أبواب و83 مادة، ونصت الفقرة (ب) من المادة الخامسة منه على: «يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء، ويبايع الأصلح منهم للحكم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم». مع ملاحظة التعديل الذي طرأ على هذه الفقرة فيما بعد. ويمكن أن يفهم من عدم النص في النظام الأساسي على أن الحكم «وراثي»، وتخصيص الحكم في ذرية المؤسس أنه ليس تأسيساً لمبدأ «توارث العرش» بمفهومه الدقيق، الذي يلزمه خط أو تسلسل معلوم، ونص وتطبيق النظام الأساسي للحكم لم يأت بذلك، حيث لم يجعل استنفاذ الحكم في أبناء المؤسس لازماً لانتقاله لأبناء الأبناء. والواقع الدستوري المعمول به يؤيد هذا التفسير.

الملك عبد الله بن عبد العزيز

هيئة البيعة

توفي الملك فهد في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض فجر يوم الاثنين 26 جمادى الآخرة 1426هـ - 1 أغسطس 2005م، وهناك تقدم الأمير سلطان بن عبد العزيز وتبعه كبار الأمراء مبايعين أخاهم عبد الله ملكاً، وجاء في بيان الديوان الملكي الذي تلاه وزير الإعلام إياد مدني: «لقد قام أفراد الأسرة بمبايعة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز ملكاً على البلاد وفق المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم، وبعد إتمام البيعة أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية اختيار صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز ولياً للعهد حسب المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم، وقد بايع أفراد الأسرة سموه على ذلك...»، وجاءت هنا كلمة «اختيار» الملك لولي العهد، وذلك وفقاً لنص النظام الأساسي للحكم.

تلقى الملك وولي عهده البيعة يوم الأربعاء في قصر الحكم من الأمراء والعلماء والقادة العسكريين وكبار رجالات الدولة والمواطنين وفق التقاليد العريقة والمراسم المتبعة، ووجّه الملك خطابه إلى الأمة، وأصدر الأوامر وعفا عن السجناء، واستقبل المهنئين بتوليه مقاليد الحكم من رؤساء الدول وممثليهم.

وجاءت هذه البيعة بأوليات، فهي أول بيعة تتم بعد وفاة الأمير محمد بن عبد العزيز الذي كان دوره مؤثراً في البيعات السابقة، كما أنها أول بيعة تتم في قصر الحكم بعد إعادة بنائه على طراز العمارة النجدية الحديثة والذي أصبح يعرف بـ«العمارة السلمانية» نسبة إلى دور الملك سلمان في تبني هذا التوجه العمراني.

وأول بيعة بعد صدور النظام الأساسي للحكم مع النص عليه في بيان الديوان الملكي. كما كانت البيعة الأولى في عصر الإنترنت والقنوات الفضائية والصحف والمواقع الإلكترونية والتغطيات المباشرة التي بثت مباشرة مراسم البيعة، كما بثت خطاب العرش الملكي.

وفي يوم 26 رمضان 1427هـ الموافق 19 أكتوبر 2006م، أصدر الملك عبد الله أمراً ملكياً يتضمن صدور نظام هيئة البيعة من 25 مادة، وتعديل الفقرة (ج) من المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم ليصبح نصها: «تتم الدعوة لمبايعة الملك واختيار ولي العهد وفقاً لنظام هيئة البيعة». ونص الأمر على أن أحكام نظام هيئة البيعة تسري على الحالات المستقبلية ولا تسري على الملك وولي العهد الحاليين. كان صدور ذلك النظام وقبله النظام الأساسي للحكم مراحل مهمة من التطور السياسي والبناء الدستوري للدولة. ويشير أستاذ القانون الإداري والدستوري الدكتور إبراهيم الحديثي إلى أن «نظام هيئة البيعة جاء تأكيداً لاستقرار الحكم وسلاسة انتقال السلطة...»، ويعزو ذلك لارتباط البيعة بأهم منصبين في المملكة العربية السعودية (الملك وولي العهد).

وفي 1 ربيع الثاني 1430هـ - 27 مارس 2009م صدر الأمر الملكي بتعيين وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء. وإثر وفاة ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز، أصدر الملك عبد الله أمراً ملكياً يوم الخميس 30 من ذي القعدة 1432هـ - 27 أكتوبر 2011م، وذلك بعد إشعار رئيس وأعضاء هيئة البيعة باختيار الأمير نايف ولياً للعهد وتعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء إضافة إلى احتفاظه بحقيبة الداخلية. وفي قصر الملك عبد الله بالرياض بايع رئيس وأعضاء هيئة البيعة الأمير نايف، وكانت هذه أول بيعة تتم بعد إنشاء الهيئة، وعصر يوم السبت التالي وفي قصر الحكم بايع الأمراء والعلماء وكبار رجالات الدولة والمواطنون الأمير نايف ولياً للعهد.

وبعد وفاة الأمير نايف أصدر الملك عبد الله أمراً ملكياً يوم الاثنين 29 رجب 1433هـ - 18 يونيو 2012م باختيار (الأمير) سلمان ولياً للعهد وتعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء مع احتفاظه بحقيبة الدفاع.

بايع كبار الأمراء في قصر الملك عبد الله بالطائف (الأمير) سلمان بولاية العهد، ويوم الأربعاء تلقى البيعة في قصر السلام بجدة من الأمراء، وكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، والمواطنين.

الملك سلمان بن عبد العزيز يتلقى البيعة ملكاً على البلاد والأمير مقرن بن عبد العزيز ولياً للعهد في قصر الحكم (واس)

المبايعة وقصر الحكم

وفي قصر الحكم بالرياض بايعه الأمراء والعلماء والوزراء وأعضاء مجلس الشورى والقادة العسكريون والمواطنون. ويوم 21 ربيع الأول 1434هـ - 1 فبراير 2013م صدر أمر ملكي بتعيين المستشار والمبعوث الخاص لخادم الحرمين الشريفين الأمير مقرن بن عبد العزيز نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء، لكن التطور اللافت الآخر الذي تم في عهد الملك عبد الله كان استحداث منصب ولي ولي العهد بموجب الأمر الملكي الصادر يوم الخميس 26 جمادي الأول 1435هـ - 27 مارس 2014م وتعيين الأمير مقرن في المنصب بعد تأييد أغلبية أعضاء هيئة البيعة، مع استمراره نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء.

وظهر يوم الأحد 29 جمادي الأول 1435هـ - 30 مارس 2014م تلقى الأمير مقرن في قصر الحكم بيعة الأمراء والعلماء والوزراء ورئيس وأعضاء مجلس الشورى وكبار المسؤولين من مدنيين وعسكريين والمواطنين.

توفي الملك عبد الله في مستشفى مدينة الملك عبد العزيز الطبية للحرس الوطني في الرياض، وأعلن الديوان الملكي فجر يوم الجمعة 3 ربيع الثاني 1436هـ - 23 يناير 2015م نبأ الوفاة، كما صدر بيان من الديوان الملكي، جاء فيه: «تلقى صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود البيعة ملكاً على البلاد وفق النظام الأساسي للحكم. وبعد إتمام البيعة، وبناءً على البند (ثانياً) من الأمر الملكي رقم أ / 86 وتاريخ 26 / 5 / 1435هـ، الذي نص على أن يبايع صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز آل سعود ولياً للعهد في حال خلو ولاية العهد، دعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية - يحفظه الله - لمبايعة صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز ولياً للعهد، وقد تلقى سموه البيعة على ذلك».

أصدر الملك سلمان عدداً من الأوامر باستمرار جميع أعضاء مجلس الوزراء في مناصبهم وتعيين ولي العهد الأمير مقرن نائباً لرئيس مجلس الوزراء واختيار الأمير محمد بن نايف ولياً لولي العهد وتعيينه نائباً ثانياً، ووجّه الملك خطابه إلى الأمة.

جاءت هذه البيعة في عصر الثورة المعلوماتية ومنصات ووسائل التواصل، وشهدت أول بيعة إلكترونية عبر منصات التواصل، كما كانت أول بيعة ثلاثية مشتركة، لكن التقاليد الثابتة باقية، ففي مساء اليوم نفسه تلقى الملك سلمان وولي عهده وولي ولي العهد البيعة من الأمة في قصر الحكم، هذا القصر الذي شهد مبايعة الملوك السابقين وكان سلمان أحد شهود تلك البيعات.

وفي يوم الأربعاء 11 رجب 1436هـ - 29 إبريل 2015م رفع الأمير مقرن كتاباً إلى خادم الحرمين الشريفين يتضمن رغبته في الإعفاء من ولاية العهد، فصدر الأمر الملكي بالاستجابة لرغبة سموه، واختيار الأمير محمد بن نايف ولياً للعهد وتعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء واستمراره وزيراً للداخلية ورئيساً لمجلس الشؤون السياسية والأمنية، كما صدر في اليوم نفسه أمر ملكي آخر باختيار الأمير محمد بن سلمان - وبتأييد أغلبية أعضاء هيئة البيعة - ولياً لولي العهد وتعيينه نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء واستمراره وزيراً للدفاع ورئيساً لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. وفي مساء ذلك اليوم تقدم الأمير مقرن المبايعين في قصر الحكم بوسط الرياض، كما تلقى ولي العهد وولي ولي العهد البيعة من الأمراء والعلماء وكبار المسؤولين والقادة العسكريين والمواطنين. وقام الملك سلمان بزيارة الأمير مقرن في منزله بالرياض، كما وجّه له برقية الشكر الآتي نصها:

«صاحب السمو الملكي الأخ الأمير مقرن بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

تلقينا طلب سموكم إعفاءكم من منصبكم بما تضمنه من مشاعر الولاء والأخوة الصادقة، وهذا ليس بمستغرب على أخي العزيز، وقد قضيتم ما يزيد على نصف قرن في خدمة وطنكم متنقلاً بين أرجائه وتحملتم المسؤوليات المختلفة فيه بكل أمانة وصدق وإخلاص. سمو الأخ العزيز:

إننا والوطن جميعاً نحفظ لكم بكل اعتزاز ما قدمتموه من خدمات وما بذلتم في سبيله من جهود، وستظلون كما كنتم دائماً قريبين منا ومن وطنكم وإخوانكم، متمنين لسموكم الكريم حياة حافلة بالصحة والسعادة والتوفيق. والله يحفظكم ويرعاكم».

وفي يوم الأربعاء 26 رمضان 1438هـ الموافق 21 يونيو 2017م صدر أمر ملكي بناءً على تأييد أعضاء هيئة البيعة بأغلبية 31 من 34 عضواً، بإعفاء الأمير محمد بن نايف واختيار الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد وتعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء واستمراره وزيراً للدفاع وما كُلّف به من مهام أخرى. وتلقى الأمير محمد بن سلمان البيعة من الأمراء والعلماء وكبار المسؤولين والقادة العسكريين والمواطنين في قصر الصفا بمكة المكرمة، وعلى بعد أمتار من المكان الذي تلقى فيه الملك عبد العزيز البيعة الملكية الأولى.

جاء هذا الاختيار ضمن رؤية الملك سلمان التجديدية الشاملة لمستقبل المملكة العربية السعودية، وستسطر صفحات التاريخ أن سلمان بن عبد العزيز هو من قاد البلاد في هذه المرحلة السياسية بالغة الدقة ونقل الحكم إلى جيل أحفاد عبد العزيز وأعاد هيكلة الدولة وتجديد شبابها، مع المحافظة على النهج الذي قامت عليه البلاد. وكما أشرنا إلى دور الأمراء الكبار من أبناء عبد العزيز في سلاسة انتقال السلطة فيما مضى من العهود، كان الأمير مقرن بن عبد العزيز مع كبار الأمراء أوائل المبايعين للأمير محمد بن سلمان في قصر الصفا.

الأمير محمد بن سلمان خلال تلقيه البيعة لولاية العهد من الأمراء والعلماء والمواطنين في قصر الصفا بمكة المكرمة في 26 رمضان 1438 للهجرة (واس)

أبناء عبد العزيز على العهد

حافظ أبناء و أحفاد عبد العزيز على هذا النموذج الفريد للدولة وقدّموا النسخة المعاصرة للتراث السياسي العربي والإسلامي، وظلّت سلاسة انتقال الحكم في المملكة على مدى المائة عام الماضية، دون حدوث أي «فراغ للسلطة» (فراغ دستوري) أو حتى «إعلان لحالة الطوارئ»؛ بل بتفاعل شعبي قلّ نظيره؛ حالة لافتة ومفاجئة لكثير من المراقبين والمحللين السياسيين.

قد عرفوا كيف يتعاملون مع أعباء ومتطلبات والتزامات ومسؤوليات الملك، كيف لا وهم أصحاب رسالة لا طلاب ملك. تحفهم عناية الله في مواصلة البناء على المنجز العظيم للملك عبد العزيز الذي أعيا كل محاولات التدوين والتأريخ.

ولو تأملنا في إرث الملك المؤسس السياسي والدستوري: توحيد البلاد وقلوب وعقول أبنائها ونيل الاعتراف الدولي بها وبإقليمها، وأخذ البيعة الشرعية لولي العهد وسنّها عرفاً، وإيداع أبنائه – أمناء إرثه – وصاياه المحفوظة بالتعاضد وإعلاء مصالح الشعب التي تجسدت فيهم جميعاً قيد حياته وبعد مماته، والشروع في تنظيم سلطات الدولة الثلاث بإصدار أنظمة خاصة بها، لأدركنا أن ذلك الإرث كان كفيلاً بجعل الملك عبد العزيز يغمض عينيه مطمئناً على دولة سيحافظ عليها من بعده أبناؤه «أغلى ما يملك»، كما قال لبعثة الأمم المتحدة تلك. وكيف به لو اطلع على منجزات أحفاده التي أدركنا.

لا يزال هناك الكثير من الزوايا والجوانب المتعلقة بتاريخ الدولة والبيعة لملوكها والتي تستلزم أن يُنقب في وثائقها ويُبحث في تاريخها ويُلقى الضوء على كثير من أخبارها، كما تستحق أن توثق وتبرز؛ بل وتُدرّس، وهنا يجب التنبيه إلى عبارة تتردد في الإعلام وعلى ألسنة البعض وهي «تجديد البيعة» وهذه عبارة لا تصح؛ فالبيعة من ركائز الحكم في الإسلام وهي عقد تأبيد لا ينتهي حتى يتجدد، كما أن بيعة ولي الأمر لا يجوز نقضها ولها قواعد وأركان وشروط وأحكام وكل ذلك مؤصل ومبسوط في كتب السياسة الشرعية، أما تكرار الحديث عن تجديد البيعة حتى وإن كان تعبيراً عن الولاء وبدافع الحب ففي نظري أنه مصطلح خاطئ، وأمر يجب أن يُعالج. أما الأمر الآخر فهو عدم وجود اعتماد رسمي لذكرى البيعة سواءً بالتاريخ الهجري القمري أو الشمسي وحيث أن الأيام الوطنية حدد الاحتفال بها بالتاريخ الشمسي فآمل أن يصدر اعتماد رسمي بذلك.


مقالات ذات صلة

احتفاء باليوم الوطني السعودي الـ94 في مصر

يوميات الشرق جانب من احتفال سفارة السعودية في القاهرة بالعيد الوطني الـ94  (السفارة السعودية في القاهرة)

احتفاء باليوم الوطني السعودي الـ94 في مصر

وسط حشد كبير من رجال السياسة والإعلام ونجوم الفن المصريين احتفلت سفارة السعودية في القاهرة باليوم الوطني الـ94 للمملكة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
رياضة سعودية مانشيني يتوسط نجوم المنتخب السعودي عقب تجاوز الصين في التصفيات الآسيوية (الشرق الأوسط)

مانشيني: السعودية بلد رائع بتراث غني... أشعر أنني منكم

قدم الإيطالي روبرتو مانشيني مدرب المنتخب السعودي التهنئة للسعوديين بمناسبة حلول ذكرى «اليوم الوطني الـ94» والتي تصادف يوم 23 من شهر سبتمبر كل عام.

«الشرق الأوسط» (الرياض )
يوميات الشرق جانب من إحدى المسيرات الاحتفالية بالمناسبة (واس)

مشاعر سعودية تفيض بالحب للوطن والقيادة بذكرى اليوم الوطني الـ94

عمت مسيرات الفرح الميادين والطرقات في السعودية، الاثنين، احتفاءً بذكرى اليوم الوطني الـ94 للبلاد، وأضاءت الألعاب النارية سماء المدن والمحافظات في أجواء احتفالية

إبراهيم القرشي (جدة)
الخليج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (واس)

الملك سلمان: يومنا الوطني ذكرى متجذرة في وجدان شعبنا

قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، إن «يومنا الوطني المجيد ذكرى عزيزة متجددة في صفحات الوطن الأبيّ، متجذرة في وجدان الشعب السعودي العظيم».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
شمال افريقيا ولي العهد السعودي والرئيس المصري خلال لقاء سابق بينهما (واس)

السيسي يهنئ خادم الحرمين وولي العهد السعودي بـ«اليوم الوطني»

بعث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ببرقيتي تهنئة إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، والأمير محمد بن سلمان بمناسبة ذكرى اليوم الوطني


الأسد في سوريا ولبنان... ربع قرن من الاستباحة والتدمير

كانت حكومات لبنان تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها (أرشيفية - غيتي)
كانت حكومات لبنان تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها (أرشيفية - غيتي)
TT

الأسد في سوريا ولبنان... ربع قرن من الاستباحة والتدمير

كانت حكومات لبنان تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها (أرشيفية - غيتي)
كانت حكومات لبنان تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها (أرشيفية - غيتي)

مع حلول القرن الحادي والعشرين بدا أنّ الانعطاف في الزمن يحمل انعطافاً في التاريخ. فلنتذكّر العام 2000 الذي منّ علينا ببضعة أحداث يصعب اجتماعها في عام واحد. ففي 10 يونيو (حزيران)، توفّي حافظ الأسد، وبكى كثيرون كما يبكي الضحايا آباء قساة قهروهم وطفّلوهم. لكنّ أكثر منهم قالوا في سرّهم: لأوّل مرّة يصنع الأسد عملاً مفيداً.

وحافظ، الذي كان عمليّاً رئيس البلدين، كان قد أغمض عينيه بعد حدثين شهدهما العام ذاته: ففي مارس (آذار)، كان اجتماعه بالرئيس الأميركيّ بيل كلينتون في جنيف لبحث استئناف التفاوض السوريّ - الإسرائيليّ. هناك قرئ السلام على السلام لأنّ الأسد، وفق عبارته، اختار «الشرف» بديلاً. ومع أنّه كان معروفاً بالجلوس سبع ساعات متواصلة على كرسيّه، فقد تذكّر أنّه كان في شبابه يسبح في بحيرة طبريّا، وأنّ السلام سيكون مرفوضاً ما لم يمنحه كلّ شبر منها.

وفي 25 مايو (أيار)، انسحب الإسرائيليّون من جنوب لبنان التزاماً بالوعد الانتخابيّ الذي قطعه إيهود باراك بالانسحاب من طرف واحد. يومها فُجع أنصار الأسد اللبنانيّون والسوريّون بالانسحاب الذي أحرج إصرارهم على مواصلة حمل السلاح، فسمّوه «مؤامرة الانسحاب». هكذا أخرج أحدهم من قبّعته أرنب «مزارع شبعا» المنسيّة، التي احتلّها الإسرائيليّون في 1967 من سوريّا، فأُرفق الاكتشاف بتجديد صرخة الحرب: إمّا الانسحاب من مزارع شبعا أو فليخرب العالم. لكنْ سريعاً ما هدأت الأعصاب وأُعلن أنّ ذاك الانسحاب يرقى إلى «تحرير» أنجزه «حزب الله» بدعم «سوريّا الأسد».

حافظ الأسد والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في جنيف عام 2000 (غيتي)

تدريب بشّار وسياسيّو لبنان

حين توفّي حافظ، روى أحد السوريّين طُرفة عن فلاّح بسيط من درعا توجّه شمالاً نحو دمشق بقصد المشاركة في جنازة الرئيس. لكنّه مع اقترابه من العاصمة، وقعت عيناه على يافطة كُتب عليها: «الأسد خالد لا يموت». هنا، قفل فلاّحنا البسيط عائداً، ظانّاً أنّ الخبر الذي تناهى إليه شائعة فبركها الأعداء الذين يصفهم الإعلام الرسميّ بفبركة الشائعات.

ولم يكن خطأ الفلاّح كاملاً، أو أنّ ذلك ما تبيّن حينما انتقلت السلطة إلى النجل بشّار، فبدا أنّ حافظ خالد حقّاً. فرغم تغييرات حدثت هنا وهناك، ربطها البعض بشباب بشّار ودراسته في لندن واقترانه بفتاة «عصريّة» تعرف العاصمة البريطانيّة كما تعرف كفّها، بقيت النزعة الخرابيّة أقوى ما يتربّع في قصر المهاجرين. هكذا جاز الحديث عن وصيّة حافظ لنجله، ومفادها: فلتَبق الحرائق مشتعلة إلى أن يقضي الله أمراً.

وبشّارُ لم يكن حقل تدريبه إلا لبنان، غرفة نوم النظام السوريّ. ففي 1998، وعلى طريق توريثه الذي بدأ قبل أربعة أعوام مع رحيل أخيه الأكبر باسل، كُلّف بالمسؤوليّة عن الوجود العسكريّ السوريّ في البلد «الشقيق»، حيث بلغ عدد الجنود أربعين ألفاً. وفي سياق تدريبه وثّق النجل علاقته بالسياسيّين اللبنانيّين ممّن كانت أغلبيّتهم الساحقة تطأطئ الرأس أمام أصغر ضابط منتدَب. وهو مثلما استلطف بعضَهم استثقل بعضهم الآخر عملاً بمزاج أرعن طبّقه على آخرين.

وكان أكثر الذين لفحتهم عواطف بشّار، بالإيجابيّ منها والسلبيّ، ثلاثة: حسن نصر الله ورفيق الحريري وإميل لحّود.

فنصر الله، قائد المقاومة، كان مثار إعجابه. فهو، وقد رُسم في 2000 رجل التحرير، مثّل له كلّ ما لا يملكه، هو الذي حصل عبر «توريث جمهوريّ» فريد من نوعه على ما بات يملكه. وإذا كان لوالده الراحل دالّة على نصر الله، وموقع تفاوضيّ قويّ حيال إيران، فاليافع بشّار افتقر إلى الصفتين. ولئن وفّر له «سماحة الأمين العامّ» الشرط الضروريّ لإبقاء النار مشتعلة في كلّ مكان، فقد كان لمقاومته بُعد علاجيّ مخلوط بالسحر على الرئيس غير المجرّب، وذلك بمعنى العلاجيّة التي تراءى للقيصر نقولا وزوجته ألكسندرا أنّ راسبوتين يحملها لابنهما المريض.

«عواطف» الأسد لفحت الحريري ولحود ونصر الله... حباً وبغضاً (أرشيفية - أ.ف.ب)

لكنْ إذا كانت محبّة نصر الله حبّاً لما يستحيل، فمحبّة إميل لحّود كانت حبّاً لما يمكن. فقائد الجيش، الذي أوصلته دمشق إلى رئاسة الجمهوريّة في 1998، كان فيه من العسكريّة ما كان في «الدكتور» بشّار الذي ألبسوه البزّة لأنّ رئاسة سوريّا مكتوبة لعسكريّين. ذاك أنّ لحّود كان قائداً لسلاح البحريّة في الجيش اللبنانيّ، وكان تواضع هذا السلاح، والوقت الضئيل الذي يستدعيه المنصب، يتيح له ساعات طويلة يتشمّس فيها ويدهن جسده بالزيوت في مسبح «الحمّام العسكريّ». ثمّ في 1989 عُيّن لحّود قائداً للجيش، وكان مطلوباً ضابط مارونيّ رفيع الرتبة يقبل الحلول في هذا الموقع بعد تصفية التمرّد الذي قاده القائد السابق ميشال عون. وأغلب الظنّ أنّ سماتٍ شخصيّةً حبّبت بشّار بلحّود أهمّها الضعف المشترك في ربط الكلمات وصياغة العبارات ثمّ تغطية الضعف بقهقهة تُفلت من الفم وتغيب في زحمة اللامعنى في هذا العالم.

بيد أنّ الحريري لم يكن مستساغاً. فالرجل الثريّ الذي يوزّع المال والهدايا بسخاء على ضبّاط سوريّين، مُعوّلاً على مقابل سياسيّ، ليس الثريّ الذي يستهوي بشّار. ذاك أنّ المرغوب من الأثرياء هو مَن يدفع صاغراً، ويكون طموحه الوحيد ألاّ تُصادَر ثروته. أمّا أن يُكتب ويقال إنّ الحريري هو من يبني علاقات سوريّا مع العالم، ومن يقترح على دمشق «النموذج الصينيّ» حيث تبقى السلطة في أيدي أصحابها وتُمنح الحرّيّة للسوق، فهذه كلّها أكلاف باهظة ومهينة ينبغي ألا تُدفع.

وهناك أشياء أخرى أسّست البغضاء للزعيم اللبنانيّ. فقد كان شائعاً أنّ الحريري ينطوي على فائض سنّيّ لا يحتمله الفائض العلويّ في نظام بشّار، وأنّه لا يكتفي بتوحيد الطائفة السنّيّة في لبنان، بل يمدّ نفوذه إلى السنّة السوريّين. ولم يكن أقلّ إثارة للارتياب ما يراه البعض تقاطعاً بين مشروعه السنّيّ ومشروع لبنانيّ لا يزال غامضاً، أو ما ينسبه إليه بعض آخر من رغبة في سلام إقليميّ يكمّل ما بدأه الفلسطينيّون والإسرائيليّون في أوسلو عام 1993. وربّما بدا مستفزّاً لبشّار ما كان يُكثر الحريري من ترداده في وصف نفسه، وهو أنّه «عصاميّ» بنى نفسه بنفسه.

عواصف الخارج وجرائم الداخل

كان لانسحاب الإسرائيليّين من الجنوب أن أسقط حجّة النظام السوريّ في إبقاء جيشه بلبنان، وشجّعت وفاةُ حافظ مَن كان يخاف ويتردّد على الإقدام. أمّا رجل المرحلة فكان البطريرك المارونيّ نصر الله صفير الذي رعى، في سبتمبر (أيلول) 2000، ما عُرف بـ«نداء المطارنة الموارنة» الداعي إلى انسحاب الجيش السوريّ الذي «آن أوانه».

ومضى صفير، بهمّة مصارع شابّ، يوجّه لكماته. ففي ظلّه أُسّس، في أبريل (نيسان) 2001، «لقاء قرنة شهوان» الذي اعتُبر نواةً لما بات معارضة. ولئن جمع اللقاء هذا سياسيّين مسيحيّين، فإنّه مدّ جسوراً، منظورة وخفيّة، مع الحريري ووليد جنبلاط المصابين بـ«الاستياء» من بشّار ومن عامله في لبنان إميل لحّود. وفي صيف العام، وبالشراكة مع جنبلاط، أشرف البطريرك على «مصالحة الجبل» بين المسيحيّين والدروز. والأخيرة اكتسبت أهميّتها من أنّ الجبل المسيحيّ - الدرزيّ عمود الوطنيّة اللبنانيّة الفقريّ. وفي موازاة تحرّك رجال الدين والسياسيّين المسيحيّين، اهتزّ المجتمع المسيحيّ، في 7 أغسطس (آب)، عبر تظاهرات طلاّبيّة أعلنها قواتيّون، قائدهم سجين، وعونيّون، قائدهم منفيّ. وبدون مذكّرات توقيف أو مبرّر قانونيّ، زُجّ في المعتقلات مئات المتظاهرين الشبّان المطالبين بحرّيّة التعبير وخروج القوّات السوريّة.

لكنّ الجوار الإقليميّ كان يضجّ بأحداث أكبر. ففي 2003 غزا الأميركيّون العراق، وبعد عام وجد الكرد السوريّون في القامشلي/قامشلو ما يشجّعهم على الانتفاض فانتفضوا. وفيما راح الأسد يردّ على تلك الزلازل بشحن الإرهابيّين إلى العراق، حيث يزرعون عبوات الموت، مضت واشنطن تلوّح له بالعصا الغليظة فواجهها بعبوة سياسيّة فُجّرت في بيروت. فقد تمسّك بشّار بالتجديد للحّود، مع انتهاء ولايته الدستوريّة في 2004، رافعاً محبّته له إلى هيام، وهذا لأنّ لحّود، وفق المراقبين، «المارونيّ الوحيد الذي يطمئنّ له الأسد في ظلّ ظروف المنطقة الجديدة».

وفي سبتمبر من العام نفسه صدر عن مجلس الأمن القرار 1559 الداعي إلى انسحاب القوّات الأجنبيّة المتبقّية من لبنان، وحلّ جميع الميليشيات ونزع سلاحها. وقد بدا واضحاً بما يجلو اللبس أنّ المستهدَفين بالقرار هما بشّار، الذي عليه أن ينسحب، ونصر الله، الذي عليه أن ينزع سلاحه. هكذا كان لا بدّ أن يردّ المستهدَفان بعمل يطال إمّا جنبلاط الذي دفعه التجديد للحّود إلى الموقع المسيحيّ المعارض، أو الحريري، الممتعض من التجديد، والذي تسبّب له امتعاضه بإهانة مباشرة من الأسد، خصوصاً أنّ الشكوك قد حامت بشأن دور له في صدور القرار الأمميّ.

ربّما بدا مستفزّاً لبشّار ما كان يُكثر الحريري من ترداده في وصف نفسه وهو أنّه «عصاميّ» بنى نفسه بنفسه

هكذا شهد يوم 14 فبراير (شباط) 2005 الجريمة التي أودت بالحريري ومعه الوزير باسل فليحان و21 شخصاً من المرافقين، قبل أن تتناسل الجرائم وتحصد مجموعة معتبرة من السياسيّين والصحافيّين المعروفين بمعارضتهم الأسد ونصر الله.

وكما أنّ سوريّا سوريّتان فلبنان لبنانان. هكذا انشقّ البلد بين كتلة عُرفت بـ«8 آذار» تيمّناً بيوم مظاهرتها الضخمة التي شكرت «سوريّا الأسد»، وأخرى عُرفت بـ«14 آذار» تبعاً ليوم المظاهرة التي فاقتها ضخامة، والتي احتجّت على اغتيال الحريري وطالبت بخروج الجيش السوريّ.

بالفعل خرجت قوّات الأسد من لبنان في 30 أبريل، لكنّ نصر الله آثر أن يهدي قائدها رستم غزالة «بندقيّة المقاومة» لأنّه لم يشأ للجنود السوريّين أن يغادروا ضعفاء مذلولين. بيد أنّ «لعنة الحريري» طاردت غزالة مثلما طاردت سلفه غازي كنعان لتنسج واحدة من القصص الخفيّة في سيرة بشّار. فرستم، المُعيّن في 2002 على رأس الهرم الأمنيّ محلّ غازي، شاركه القتل والتعذيب اللذين تشهد عليهما بلدة عنجر البقاعيّة وفندق البوريفاج البيروتيّ، كما شاركه رعاية شبكات التهريب والمخدّرات التي تتوزّع عائداتها عليهما وعلى نظامهما وحلفائهما في «محور المقاومة». لكنّ رستم كان أشدّ فظاظة وانضباطاً في ولائه من غازي، ولربّما عاد هذا إلى سنّيّة الأوّل التي أحوجته إلى المزايدة في الولاء قياساً بعلويّة الثاني، ابن بلدة القرداحة، الذي بلغ به اطمئنانه حدّ الافتخار بصداقة الحريري بعدما بات الأخير مغضوباً عليه.

في الأحوال كافّة، شاع أنّ الخوف من انكشاف معلومات تتّصل بمقتل الزعيم اللبنانيّ هو ما أودى، في 2015، برستم، المؤتمن على السرّ وعلى بندقيّة المقاومة. أمّا كنعان الذي نُقل من لبنان في 2001 ثمّ سُلّم وزارة الداخليّة السوريّة، فكان ممّا شاع عنه تسريبه معلومات تتعلّق بالجريمة. وفي 2005، قُتل غازي في مكتبه برصاصتين أو ثلاث، فأشاعت السلطة أنّه انتحر. ولأنّ النكتة السوداء تتّجه إلى حيث الجرح، تردّد أنّ كنعان انتحر برصاصتين أو ثلاث، وفي السنوات اللاحقة تأكّد أنّ الانتحار من خصال عائلته، إذ «انتحر» أيضاً اثنان من أشقّائه.

بيد أنّ الشكل الآخر لتكامل سوريا اللبنانيّة ولبنان السوريّ كان ماليّاً. فقد تبيّن لاحقاً وجود علاقة بين جريمة الحريري وفضيحة سبقتها بعامين. ذاك أنّ من سُمّوا رجال «النظام الأمنيّ اللبنانيّ السوريّ المشترك» غرفوا، بالرشوة والاختلاس، ملياري دولار من «بنك المدينة»، ما أدّى إلى انهياره. وكان البنك المذكور، وفق وثائق حصلت عليها لاحقاً لجنة التحقيق الدوليّة في جريمة الحريري، قد شارك بنوكاً أخرى أعمال تهريب وتبييض غامضة.

لبنان كان «غرفة نوم» النظام السوري حيث تدرب بشار الأسد (أرشيفية - أ.ف.ب)

رَسَن لربط الشقيق بالشقيقة

إبّان ما سُمّي «عهد الوصاية»، والذي ورّثه القرن العشرون للحادي والعشرين، أُخضع لبنان لنظريّة بعثيّة عنوانها «عروبة لبنان». والعروبة هذه لا تليق كلمة في وصفها ككلمة المسخرة. فهي مثلاً طالبت اللبنانيّين بالوقوف، في السرّاء والضرّاء، بجانب سوريّا وإيران غير العربيّة ضدّاً على مصر والعراق والخليج والمغرب. بيد أنّ أخطر ما في تلك العروبة أنّها شكّلت، للمرّة الأولى في تاريخ لبنان الحديث، آيديولوجيا رسميّة يُحدّد بموجبها «الصديق» و«العدوّ»، فحلّت بهذا محلّ الحرّيّة التي كانت تقليديّاً مُحرّك الرأي ومصدر الموقف في لبنان.

فحافظ، وعلى الطريقة السوفياتيّة، كان قد أحكم ربط بيروت بدمشق، من خلال اتفاقيّة «معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق» الموقّعة في 1991. وعن الاتّفاقيّة هذه رُبطت سياسة لبنان الخارجيّة بسياسة سوريّا الخارجيّة، ولكنْ أيضاً باتت لدمشق اليد العليا في التعيينات الإداريّة والعامّة، لا سيّما منها الأمنيّة والعسكريّة، وفي تسمية مديري الوزارات والقضاة، ورسم توجّهات المنابر الإعلاميّة ومدى حرّيّتها وخريطة العمالة وتدجين النقابات.

ومع بشّار استمرّت هذه العروبة رسَناً يربط الشقيق الأصغر بشقيقته الأكبر. صحيح أنّ الوريث أحدث انفراجاً جزئيّاً بُعيد تسلمّه السلطة، وهو وإن لم يدم طويلاً أتاح هامشاً من الحركة والتعبير لناشطين في المجتمع المدنيّ السوريّ. ومع لبنان، بدت واضحةً آثار التحوّل الجزئيّ نحو اللبرلة، أو «اقتصاد السوق الاجتماعيّ». فقد أنشأت مصارف لبنانيّة فروعاً في سوريّا، واستثمر لبنانيّون، بعضهم رجال أعمال وبعضهم نصّابون ومتزلّفون، كما استُؤجرت خبرات لبنانيّة لإدارة اقتصاد تحرّرت بعض أوجهه. ومع التقدّم في الخصخصة، وتوسّع الاقتصادات المافيويّة الموازية، تعاظم اعتماد الدولة السوريّة على العمالة الضخمة المصدّرة إلى لبنان بوصفها مصدر إعفاء لدولتها من مسؤوليّتها حيال شعبها.

لكنّ أحداثاً كثيرة كانت تشي بأنّ القوانين الأساسيّة لعلاقة البلدين لا تزال سارية المفعول. فالنجل مدّ يده مثلاً إلى مجال جديد هو الأحزاب المسيحيّة المعروفة بالعداء التقليديّ لآل الأسد. هكذا، وبالاستفادة ممّا كان يوصف بـ«التهميش المسيحيّ»، ثُبِّتَ في 2001 كريم بقرادوني في رئاسة حزب الكتائب، هو الذي انتقل، على مدى السنوات، من البشيريّة إلى البشّاريّة.

وجاءت قمّة بيروت في 2002، والتي صدرت عنها مبادرة السلام العربيّة، برهاناً على استمرار تلك القوانين في العلاقات العربيّة والخارجيّة. فقد أفضى تواطؤ بشّار ولحّود إلى حرمان ياسر عرفات من التحدّث إلى القمّة التي يُفترض بها أن تناقش موضوع فلسطين، وذلك «منعاً لدخول الإسرائيليّين على خطّ المكالمة» كما قيل.

لكنّ العلاقة الوحيدة المحترمة التي أتاحتها تلك السنوات، جسّدها مثقّفون وكتّاب سوريّون شرعوا ينشرون أعمالهم في الصحافة اللبنانيّة، كما يتردّدون على بيروت منشئين مع زملاء لبنانيّين صداقات عاش بعضها طويلاً. بيد أنّ هذه العلاقة النادرة في نظافتها لم تخلُ من غصّة رافقت تعرّف بعض اللبنانيّين إلى خيرة أبناء الشعب السوريّ: فالأخيرون، ومن دون استثناء تقريباً، أتوا من سجون قضى واحدهم فيها، وهو في بواكير طلّته على الحياة، ما بين عشر سنوات وعشرين.

إلى الحرب مع إسرائيل در

كذلك سمح الانفتاح النسبيّ بظهور ما عُرف بـ«إعلان بيروت دمشق» حيث وقّع، في مايو 2006، مئات المثقّفين والناشطين السوريّين، فضلاً عن زملائهم اللبنانيّين، على ذاك «الإعلان» الذي طالب الحكومة السوريّة بتصحيح العلاقة مع لبنان، واحترام استقلاله وسيادته، فضلاً عن إنهاء الاغتيالات السياسيّة فيه. وكان لذاك «الإعلان» أن شكّل نهاية الانفتاح النسبيّ المذكور، فكلّف بعض موقّعيه السوريّين غالياً، اعتقالاً لسنوات ومضايقات وفصلاً من العمل.

لقد تأدّى عن خروج القوّات السوريّة من لبنان، وشعور «حزب الله» وحلفائه بالعزلة، وكذلك صعود الأجندة الوطنيّة التي حملتها حركة 14 آذار، وارتفاع أصوات سوريّة تتضامن مع اللبنانيّين، شعور مُلحّ بضرورة تحويل الاتّجاه وقلب الأسود أبيض. وعلى جاري العادة، ما من شيء يؤدّي هذه الوظيفة كالحرب مع إسرائيل. لكنْ أيضاً على جاري العادة، خطف «حزب الله» مشاعر التأييد والمبايعة في العالم العربيّ، بما فيه سوريّا، بعد خطفه، في يوليو (تمّوز) جنديّين على الحدود اللبنانيّة - الإسرائيليّة.

هكذا، وبسبب ما أسماه نصر الله «انتصاراً إلهيّاً»، راح الحزب الخمينيّ يشغل، في الداخل اللبنانيّ، الدور الذي كان يشغله رستم غزالة قبل انسحاب جيشه. وإذ غدا الحضور الإيرانيّ أقلّ خفاء ممّا كان، غدا الحضور السوريّ مهمّة تُمارَس في الأنفاق والدهاليز أكثر ممّا على سطح الأرض الظاهر.



 

إبّان ما سُمّي «عهد الوصاية» الذي ورّثه القرن العشرون للحادي والعشرين أُخضع لبنان لنظريّة بعثيّة عنوانها «عروبة لبنان»

وكان أن نشأ ازدواج قاتل: من جهة أغلبيّة شعبيّة ونيابيّة تجد تمثيلها في حكومة فؤاد السنيورة، ومن جهة أخرى، «انتصار إلهيّ» يحول سلاحه وتحالفاته دون أيّ حكم مستقرّ. وإلى تعطيل الحكومة، وتعطيل العاصمة نفسها بالخيام التي نُصبت في وسطها، شهد عام 2007 حادثاً كبيراً بدا لوهلة غريباً. ففي مايو قتلت جماعة عُرفت بـ«فتح الإسلام» 27 جنديّاً لبنانيّاً كانوا نياماً في أسرّتهم، واندلعت معارك شرسة استمرّت حتّى آخر الصيف في مخيّم نهر البارد الفلسطينيّ الذي دُمّر بنتيجتها. لكنّ ما تبيّن بعد ذاك أنّ المدعوّ شاكر العبسي، قائد «فتح الإسلام»، كان ممّا فبركته المخابرات السوريّة. فهو كان سجيناً في دمشق، أُطلق سراحه ليتولّى إرسال إرهابيّين إلى العراق، وبعد مواجهات البارد فرّ إلى العاصمة السوريّة، وهناك، وبحسب ما تردّد، قُتل في ظروف لم يُعرف شيء عنها.

وبات الالتزام بالاستحقاقات الدستوريّة أشبه بالمستحيل. فاستمرّ الفراغ الذي سبق انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهوريّة ستّة أشهر، وكان حلفاء «حزب الله» ودمشق قد غزوا بيروت بالسلاح، ما استدعى عقد مؤتمر الدوحة بقطر، ومن ثمّ انتخاب سليمان.

ومن قبيل التنازلات الشكليّة تقرّر، في 2008، وللمرّة الأولى منذ نشأة الدولتين، إنشاء سفارتين في البلدين. إلاّ أنّ ما اعتُبر إقراراً سوريّاً باستقلال لبنان ظلّ يتعرّض لتقويض متعدّد الأشكال. فبذريعة «ثلث معطّل»، أو احتجاجاً على تسهيل أعمال المحكمة الدوليّة بصدد جريمة الحريري، أو نزولاً إلى الشارع من خلال لابسي «قمصان سود»، كانت الحكومات تسقط أو تُصاب بالعرج ويُطعن في تمثيلها، وهذا علماً بأنّ انتخابات 2009، كسابقتها انتخابات 2005، أنتجت أكثريّة من الـ14 آذاريّين.

وعلى هذا النحو استؤنفت حياة سياسيّة معاقة، يحيطها التشهير ويتهدّدها القتل.

ما بعد الثورة وما بعد سقوط الأسد

حين انفجرت الثورة السوريّة في 2011، بدا أنّ روحاً لطيفة هبّت على لبنان المريض، روحاً قد تتحوّل ريحاً عاصفة تأخذ في طريقها العفنَ المتراكم. وبالفعل بادر شبّان وشابّات إلى التعبير العفويّ عن تضامنهم، بمظاهرة سلميّة وإضاءة شموع وكتابة بيانات، وكان واضحاً أنّ التضامن مع سوريّا تحرّكه، هذه المرّة، الحرّيّة ومطلب الكرامة، لا العروبة والمقاومة وباقي العناوين المشابهة التي كانت السبب التقليديّ لحركات التضامن. ولم يتكاسل شبّيحة الأحزاب ومُوالو دمشق و«حزب الله» في تعرّضهم للمتضامنين والاعتداء عليهم ومحاولة إرعابهم، ولم تنجُ من الاتّهام السفارة السوريّة الجديدة في بيروت التي اعتبر البعض أنّ توجيهها أعمالاً كهذه هو أهمّ وظائفها «الدبلوماسيّة».

إلاّ أنّ طرابلس التي كانت الأكثر جهراً في تأييدها الثورة تلقّت العقاب الأسوأ. ففي 2013 حصدت تلك المدينة، التي جعلها الجوار الجغرافيّ أشدّ المناطق اللبنانيّة تعرّضاً لأذى النظام الأسديّ، انفجارين تسبّبا بمجزرة في مسجدي التقوى والسلام قُتل من جرّائها 49 قتيلاً وجُرح أكثر من 800 شخص. وعملاً بالطقوس إيّاها، تبيّن لاحقاً أنّ مجموعة إرهابيّة أخرى تابعة لدمشق كانت وراء السيّارتين المفخّختين.

وتفاقم عامذاك ما عُرف بمساجين سجن رومية الإسلاميّين، وذلك بسبب معركة بلدة عبرا، قريباً من مدينة صيدا، بين أنصار الداعية السلفيّ أحمد الأسير و«سرايا المقاومة اللبنانيّة» التابعة لإيران، وتدخّل القوى الأمنيّة لصالح الأخيرة. وبينما كان شبّان إسلاميّون يُعتقلون بحجّة انضمامهم إلى الثوّار السوريّين، أو إعلان نيّتهم في ذلك، فُتح الملفّ الذي يعود إلى عام 2000 مع ما عُرف بأحداث الضنّيّة، والذي ضخّمه، في 2007، اتّهام آخرين بالتورّط في معارك نهر البارد ضدّ الجيش اللبنانيّ. وعلى العموم، بلغ عدد المساجين 1200 شخص أوقعت بهم، بطرق مختلفة، المنظومة الأمنيّة اللبنانيّة التي تديرها دمشق. والأسوأ أنّ هؤلاء، الذين أُودعوا «غوانتانامو اللبنانيّ»، لم يُحقّق معهم ولم يحاكَموا حتّى اليوم، بحجّة افتقار المؤسّسة القضائيّة إلى شروط تنفيذ مهمّة كهذه.

والحال أنّ النفوذ السوريّ، بنتيجة الثورة ثمّ الحرب الأهليّة، صار أشدّ اضطراراً للهبوط إلى الأنفاق والدهاليز. ففي 2012 انفجرت «قضيّة ميشال سماحة» التي تساءل اللبنانيّون عمّا إذا كانت جريميّتها أكبر من فضائحيّتها أم العكس. ذاك أنّ الوزير السابق، الذي يُعَدّ «من أصدقاء الأسد»، تورّط في نقل متفجّرات من سوريّا إلى لبنان والتخطيط لتنفيذ تفجيرات رُجّح أنّ مهندسها كان علي المملوك، مستشار بشّار الأمنيّ.

وباتت دمشق، في تلك الغضون، أشدّ اضطراراً للالتفاف على العقوبات الدوليّة عبر المنافذ الاقتصاديّة التي يتيحها لبنان. وأغلب الظنّ أنّ المرحلة تلك شهدت توطّد الشراكة الماليّة مع «حزب الله» في ما خصّ أعمال التهريب، لا سيّما الكبتاغون. والحال أنّه منذ 2019 خصوصاً، حين صدر «قانون قيصر»، وبالتعاون مع مافيات روسيّة، بات هذا النشاط يردّ مليارات الدولارات على أطراف التحالف الممانع.

لكنْ مقابل سياسة الأنفاق والدهاليز، تُركت العلنيّة الفجّة لـ«حزب الله» الذي بدأ تدخّلَه العسكريّ المباشر في سوريا، عام 2013، متذرّعاً بالدفاع عن مقام السيّدة زينب، ما جعل تطوّع أفراد لبنانيّين إلى جانب الثورة أقرب إلى هوايات صبيانيّة. وتلازم التدخّل، الذي ما لبث أنّ اكتسب طبيعة احتلاليّة وتهجيريّة للسكّان، مع تطوّرات بقدر ما أفضى إلى تطوّرات. فهو، وقد نقل سوط التعذيب إلى يد لبنانيّة، ترافق مع انتفاخ في نظريّة «حلف الأقلّيّات» التي تُرك تنظيرها للعونيّين ممّن التحقوا بالحزب وبدمشق منذ 2006. وكانت الرسالة التي أريدَ إيصالها أنّ المسيحيّين والشيعة والعلويّين، ممثّلين بالعونيّين والحزب ونظام الأسد، يقفون سدّاً واحداً في وجه السنّة ممثّلين بـ... داعش! وبذريعة مقاتلة الأخير وحماية اللبنانيّين منه، كان يُهجَّر سوريّو المناطق الحدوديّة التي يحتلّها الحزب، ما يفاقم مشكلة اللجوء السوريّ التي لن تلبث أن تنفجر.

والراهن أنّ لبنان الرسميّ حاول النأي بنفسه عن الصراع السوريّ منذ انفجار الوضع هناك. هكذا رعى رئيس الجمهوريّة، أواسط 2012، المؤتمر الذي أصدر «إعلان بعبدا» معبّراً عن توافق الجميع، بمن فيهم «حزب الله»، على عدم التدخّل. بيد أنّ طهران، الساعية إلى دعم حليفها السوريّ، سارعت إلى زجّ حزبها فانزجَّ بحماسة قاتلاً ومقتولاً.

أصدقاء الأسد في لبنان... سجلّ جرائم وفضائح (أرشيفية - سانا)

وفي الخطّ التصاعديّ الذي سلكته الكارثة شهدت بيروت يوم 4 أغسطس 2020 يوماً غير مسبوق في تاريخها المأسويّ. فالحدث الذي استرجع معه المؤرّخون الزلزال الذي ضرب المدينة ومدناً ساحليّة أخرى في منتصف القرن الميلاديّ السادس، كان «أكبر انفجار غير نوويّ في التاريخ»، بحسب وصف شاع. وقيل الكثير عن أنّ مقرّبين من نظام الأسد بالصفقات والتهريب، جاؤوا بخزين نيترات الأمونيوم الذي انفجر ودمّر ربع المدينة، وقيل أكثر منه عمّا يتسبّب به الضباب السياسيّ ومناخ «المقاومة» المعطّل للدولة والمحاسبة. وفي الأحوال كافّة، فبعد تهديد مسؤول الحزب الأمنيّ، وفيق صفا، بـ«قبع» القاضي طارق البيطار، طوي الأمر وسط شعور عارم بموت يُستحسن أن يُختم بدفن صامت.

وكان لتلك السنوات التي افتتحتها الثورة أن حملت إلى بيروت أعداداً من السوريّين، فيهم العائلات والأفراد، ممّن صدروا عن مناطق سوريّا وطبقاتها وطوائفها. وبين هؤلاء واللبنانيّين نشأت صلات حميمة، تبادل فيها الطرفان الصداقات والتعارف الذي شمل البيوت والمآكل والعادات وشراكة الهمّ والشكوى، وهذا فضلاً عن انعقاد زيجات بين سوريّين ولبنانيّات ولبنانيّين وسوريّات.

لكنْ على مقربة من هؤلاء جميعاً، كانت تعتمل مشكلة تسبّبت بها وحشيّة النظام، وفي عدادها وحشيّة «حزب الله». فقد تفاقم اللجوء السوريّ وبات عدد اللاجئين الضخم عبئاً ثقيلاً على بلد يعاني أزمة اقتصاديّة طاحنة، ويتشارك أبناؤه أنفسُهم في علاقات من العداء والريبة المتبادلين. وإذ أحسّت البيئة الاجتماعيّة الأفقر والأشدّ اعتماداً على العمل اليدويّ بمنافسة سوريّة، كان من تعابير المنافسة ظهور مشاعر عنصريّة رافقها تقييد لحركة السوريّين وانتهاكات مباشرة نزلت ببعضهم. وفي معرض التوتّر كان صعباً على المتوتّرين، وقد أجّجهم العونيّون وقوى سياسيّة أخرى، إدراك أنّ أحداً لا يستطيع حلّ مشكلة يرفض النظام السوريّ حلّها. ودائماً كان اللبنانيّون الأشدّ رحابة ينبّهون إلى ذلك، ويذكّرون بأنّ قطاع الزراعة يعتمد على ما بين 300 و400 ألف سوريّ، والشيء نفسه يقال في قطاع البناء، وهذا فضلاً عن حضور العمالة السوريّة في مجالات الكهرباء والسباكة وميكانيك السيّارات وسواها.

وإذ سقط الأسد، وولّى هارباً إلى موسكو، كان للّبنانيّين حصّتهم من التركة الهيوليّة التي خلّفها النظام الساقط. فهناك، كما بيّنَ خلع الأبواب والأقفال، مخطوفون ومساجين لبنانيّون في سجونه أنكرَ النظامان وجودهما. بعض هؤلاء حُرّروا، وبعضهم الآخر يستمرّ البحث عنهم. وهناك ما ضربه الإسرائيليّون من مصانع أسلحة وأنفاق على الحدود المشتركة للبلدين، وعلاقات سياسيّة وماليّة تنتظر التحقيق فيها بين رموز في سلطتي البلدين. والأخطر أنّ رجالاً من معاوني الأسد لجأوا إلى لبنان، محاطين برعاية الحكومة وحماية «حزب الله». ويُستحسن بالسلطة اللبنانيّة أن تسلّم هؤلاء إلى ضحاياهم، إن لم يكن حبّاً بسوريّا، وبإحقاق الحقّ، فحرصاً على علاقات سليمة بين البلدين في المستقبل. عندها فقط يمكن القول إنّ ربع القرن الفائت، الذي اكتوى بالاستباحة والتعذيب، انتهى حقّاً.