لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

قد تقدّم زوايا رؤية أو مفاتيح مختلفة لتأويل النصوص

غلاف موت صغير
غلاف موت صغير
TT

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

غلاف موت صغير
غلاف موت صغير

كان لترجمة الدكتورة، مارلين بوث، رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» دور في تقوية اهتمام صغير لديّ؛ الاهتمام بتغيّر، أو ضياع العناوين الأصلية لبعض الروايات العربية المترجَمة إلى الإنجليزية على نحو خاص.

في بداية الأمر، كان ذلك الاهتمام الصغير ينحصر في محاولة فهم الأسباب التي تجعل المترجِمات والمترجِمين يغيّرون عناوين الروايات، أو التخمين بالأسباب، إذا تعذّر معرفتها، ثم جاءت ترجمة بوث «Celestial Bodies/ أجرام سماوية» لتكون نقطة تحوّل في اهتمامي، أو لحظة تطوّره إلى مستوى أعمق وأكثر إمتاعاً... قراءة ما يجود به محرك البحث مما كُتب ونُشر من مقالات ودراسات تناقش تغيّر العناوين في الترجمة.

البداية مع «سيدات القمر»

الساعة الثامنة والنصف من مساء السابع عشر من سبتمبر (أيلول) 2019، موعد محاضرة الدكتور سعد البازعي، الموسومة بـ«سيدات القمر... الرواية والترجمة»، التي شَرُفْتُ بإدارتها، وكنتُ في خلالها أتمنى لو أنني جالس على مقعد بين الحضور، متحرّراً من القيود التي قيّدت بها نفسي وكبّلت لساني، لأطرح على د. البازعي الأسئلة التي تمور في ذهني، دون الشعور بالخوف من الاستئثار بجزء كبير من الوقت، يفترض أن يكون مخصّصاً لأسئلة ومداخلات الحضور.

غلاف سيدات القمر

ذهبتُ إلى الأمسية في فرع «جمعية الثقافة والفنون السعودية» بالدمام بثلاثة أسئلة، استطعت، ولله الحمد، كَبْتها داخلي، حتى السؤال الذي كنت أعُدّه أهمها، واكتفيت بإدارة الأمسية بأقل قدر ممكن من الكلام.

وعُدت إلى البيت بسلام، وقد ساعدني على قمع ذلك السؤال أن د. البازعي لم يتطرق في محاضرته إلى تغيّر، أو ضَياع العنوان في الترجمة، أو إلى أسباب تغيّره المحتملة، ودلالات تغيّره، وعلاقة ثقافة اللغة الهدف بذلك.

كنتُ أريدُ سؤال د. البازعي رأيه في تغيير (د. بوث) للعنوان، وتجنّبها ترجمتَه حرفياً إلى عنوان مثل (Ladies of the Moon)، أو أي عنوان آخر بصيغة مشابهة. سؤال بسيط لم أوفّق إلى العثور على إجابات عنه حينذاك فيما قرأته من حوارات مع الروائية أو المترجِمة بعد فوز الترجمة الإنجليزية بجائزة «بوكر» الدولية 2019.

الآن، وأنا أستعيد لحظات البحث والنبش، أعزو إخفاقي في العثور على إجابات من الروائية والمترجِمة إلى أن بحثي ربما لم يكن دقيقاً وواسعاً كفايةً، رغم تأكدي من أنني بذلت قصارى جهدي ووقتي.

حرصت على الحصول على إجابات عن سؤالي، خصوصاً من الروائية أو المترجِمة، أو منهما معاً، لعل وعسى يكون فيها ما يلتقي ويتقاطع مع إجابتي عن السؤال نفسه، ويؤكد معقوليتها، وأنها لم تُجانب ولو قدراً ضئيلاً من حقيقة سبب أو أسباب تغيّر عنوان رواية الحارثي، أو ضياعه في الترجمة.

وانتهى بي المطاف، مع مرور الوقت، إلى نسيان ما فهمتها وفسّرتها على أنها أسباب تغيير عنوان الرواية؛ نسيان استمر إلى ما قبل كتابة هذه المقالة بأيام، حين تداعت إلى الذاكرة «سيدات القمر»، ومؤلفتها ومترجِمتها في خلال تصفّحي مجلة «رياض ريفيو أوف بوكس».

«موت صغير»... رواية العناوين المتعددة

تعرّض عنوان رواية محمد حسن علوان «موت صغير» لإضافات وتغييرات طفيفة جداً في ترجماته جعلته يبدو متعدداً، مع حفاظه على حرفيته، وعلاقته بمحتوى النصّ، فمثلاً، يلتقي متصفح «رياض ريفيو أوف بوكس»، بمراجعة لـ«موت صغير» بعنوان «Little Death»، أنجزتها الشاعرة والقاصّة والصحافية المصرية مروى مجدي، ويترجم موقع الجائزة العالمية للرواية العربية عنوان رواية علوان إلى «A Small Death»، ويظهر العنوان نفسه في الترجمة الإنجليزية لمقالة الكاتب والناقد المصري محمود حسني، المنشورة في «Arab Lit»، مجلة الأدب العربي المترجم، ويختفي الحرف «A» من عنوان الرواية «Small Death»، في القراءة النقدية التي أنجزها د. أشرف سعيد قطب متولي ومحمد السباعي زايد (جامعة الجوف)، ونُشرت في مجلة لندن للبحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية بالعنوان «نزع الأسطورة عن ابن عربي في رواية الروائي السعودي محمد حسن علوان (موت صغير)... قراءة ما بعد حداثية».

تتميز تلك الترجمات لعنوان رواية علوان بالاختلافات الرفيعة بينها، لكن المميز الأهم هو أنها ترجمات للعنوان تمّت بمعزل عن النصّ، ترجمات إنجليزية للعنوان أُنجزت لغرض مراجعات وقراءات نقدية لنص عربي، كُتبت بالإنجليزية أو نُقلت إليها، أي لم تكن في الأصل عناوين لترجمات إنجليزية متعددة لنص واحد، ليست ترجمات لمنتَج ثقافي تُرجم لغاية نقله إلى ثقافة أخرى؛ لذا يبدو أن أصحابها لم يكترثوا بالمسائل التي تشغل في العادة اهتمام من ينقل نصاً من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف، فكانوا في حرية من الالتزام بالقواعد والعوامل التي تؤثر على عملية اختيار العناوين المناسبة للنصوص المترجمة، وهذا ما يجعلها مختلفة عن العنوان الذي اختاره الأكاديمي والمؤلف ومترجم الأدب العربي المعاصر، ويليام مينارد هتشنز، لترجمته لـ«موت صغير»: «Ibn Arabi’s Small Death»، الذي من الممكن مناقشته في ضوء الأدبيات، والتنظير المتعلق بترجمة العناوين.

إغراء القارئ

يكشف عنوان هتشنز وعيه أن «موت صغير» منتَج ثقافي، أو على نحو أكثر وضوحاً، سلعة ثقافية، وأن ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية يعني نقلها إلى ثقافة أخرى، إلى متلقّ يختلف عن متلقّيها بلغتها الأصل، وأن ذلك المتلقي المستهدَف ينتمي إلى ثقافة لا يستطيع أن يكون في حالة مناعة مطلقة ضد تأثيرها على استقباله للنص المنقول من ثقافة غريبة، فضلاً عن أن رواج المنتَج الثقافي يتطلّب توفر عنوان جاذب للقارئ المحتمل، لذلك أضاف اسم الشخصية المحورية «ابن عربي»، مراهناً على كونه معروفاً في الغرب؛ لجذب انتباه القارئ الغربي.

وتلعب مسألة جذب وإغراء القارئ الهدف بالنص المترجَم دوراً حاسماً في تغيّر عنوان رواية «فخاخ الرائحة»، ليوسف المحيميد، أو بالأحرى، إبداله بعنوان آخر، فعلى الرغم من أن الجامعة الأميركية في القاهرة - مالكة حقوق النشر في الشرق الأوسط - وافقت على ترجمة توني كالدربانك الحرفية للعنوان «Traps of the Scent»، حسب ما ذكره المحيميد، إلا أنّ الناشر «بنغوين»، مالك حقوق النشر العالمية، اقترحوا العنوان «Wolves of the Crescent Moon / ذئاب الهلال»، وتركوا قرار اختيار العنوان للمترجِم وللروائي المحيميد، واقترح الأخير على المترجِم عرض العناوين على عشرة قراء أجانب، وجاءت الردود العشرة مُفَضِّلَةً بالإجماع العنوان الذي اقترحه الناشر «بنغوين»، وقد استطاع المترجم كالدربانك والمحيميد فرضه على الجامعة الأميركية، ما يدل على أن اختيار العنوان المناسب للترجمة قد يشارك فيه آخرون إلى جانب المترجِم.

العناوين في الترجمة

يقسم ماورزيو فيزي، في مقالته «العناوين في الترجمة»، العناوين إلى: أساسية، وأخرى اختيارية، ويفترض أن يقوم أي عنوان بكل الوظائف الأساسية، وفي مقدمتها وظيفة التسمية، (appellative)، كما يسمّيها ليو هوك؛ أحد مؤسّسي علم العناوين، حسب جيرار جينيت. ويضيف جينيت أن هوك يُعَرِّف العنوان بأنه سلسلة من «الإشارات اللغوية التي يمكن أن تظهر على رأس النص؛ للدلالة عليه، ولبيان محتواه، ولتوجيهه إلى الجمهور المستهدف»، (بنية ووظائف العنوان في الأدب)، موضحاً أن الوظيفة الأولى – التسمية/ الدلالة على النص - إلزامية، بينما الإشارة إلى المحتوى وإغراء الجمهور وظيفتان اختياريتان.

ويُورِد فيزي في مقالته عشرة أسباب أو أغراض وراء تغيير المترجمين عناوين النصوص المترجَمة: تقديم وجهة نظر مختلفة، تسليط الضوء على جانب أو شخصية مختلفة، إبدال العناوين الأصلية بأخرى مترجمة أكثر وضوحاً، إضافة معلومات عن الجنس الأدبي إلى العنوان المصدر، قد تُقدّم العناوين المترجمة زوايا رؤية أو مفاتيح مختلفة لتأويل النصوص المترجمة، الإشارة إلى درس أخلاقي يمكن تعلّمه، إضافة أسماء شخصيات مشهورة إلى العناوين كوسيلة لجذب القراء، قد تحتوي العناوين المترجمة على إشارات تناصّية وبينيّة، تأكيد العناوين المترجمة على الجوانب المُغرية، واختلاف العناوين المترجمة في محتواها الدلالي من لغة هدف إلى أخرى.

ويذكر فيزي أن البعض يرفض استعمال كلمة «ترجمة» عند الإشارة إلى العملية المؤدّية من عنوان مصدر إلى عنوان هدف، ويعتبرون ما يحدث تكييفاً أو نقلاً أو استبدالاً، والاستبدال هو ما يحدث لعنوان رواية المحيميد المذكورة، وأيضاً لعنوان رواية جوخة الحارثي؛ حيث لا يوجد أثر من العنوان الأصل في عنوان الترجمة الإنجليزية.

*ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.