طه حسين... سبق عصره ولا يزال «عابراً للأجيال»

كتاب مصريون يتحدثون عن عميد الأدب العربي في الذكرى الـ«50» لرحيله

كرمة سامي
كرمة سامي
TT

طه حسين... سبق عصره ولا يزال «عابراً للأجيال»

كرمة سامي
كرمة سامي

بعد خمسين عاماً على رحيله، لا يزال عميد الأدب العربي طه حسين (15 نوفمبر «تشرين الثاني» 1889 - 28 أكتوبر «تشرين الأول» 1973) يتمتع بحضور فاعل في الوجدان الثقافي العام، بمواقفه وآرائه وكتاباته ومعاركه الأدبية، ورؤيته النقدية الجسورة لمشروع النهضة العربية... في هذا التحقيق يتحدث كتاب ومثقفون مصريون لـ«الشرق الأوسط» عن درس طه حسين، وكيف نستفيد منه من أجل مستقبل أفضل. وأجمعوا على أن طه حسين سبق عصره، فرغم مرور نصف قرن على رحيله، لا يزال يتمتع بحضور قوي في الثقافة العربية بما طرحه من آراء وأفكار حية، وكان جسوراً في معالجة قضايا التراث، برؤية منفتحة ومنهج نقدي ثاقب.

حسين محمود

جسارة الرؤية في تحديث الثقافة العربية د. حسين محمود ـ أستاذ الأدب الإيطالي

لا يزال طه حسين حاضراً في الجدل الثقافي في عالمنا العربي، متجاوزاً ما واجهه من أزمات وصلت للذروة خلال حياته، وجعلته يخوض كثيراً من المعارك الفكرية وانتصر فيها. جسارة طه حسين لم تتجسد في استعداده لخوض المعارك، ولا يمكن تصويره على أنه كان يهواها؛ لكنه كان صنديداً في إعلانه عن مشروعه النقدي ورؤيته للنهضة العربية وسبل الوصول إليها، ودفاعه العقلاني والمنطقي عن هذه الرؤية. ولولا جسارته في تقديم رؤيته لكنا الآن في وضع حضاري يشبه وضعنا في بداية القرن العشرين أو أشد تخلفاً. ولو استسلم للماضويين الذين حاربوه باسم الأصالة والحفاظ على قدسية الموروث العربي، لظللنا نعيش في ثقافة عاجزة عن مواجهة العصر واحتياجاته، فنظريته النقدية القائمة على الشك لم تتجاهل ثراء وعظمة التراث الإبداعي العربي. كان جسوراً في دعوته لتحديث الثقافة العربية بقدر ما كان صادقاً في هذه الدعوة. لم يكن خائفاً من تحدي السائد المتصلب والمتشدد في النظر إلى التراث العربي، وقام بنفسه بتطبيق الأساليب النقدية الحديثة في عمله الشهير حول «الشعر الجاهلي»، حيث طرح فكرة إعادة النظر فيما ورثناه من آراء يمكن أن تكون زائفة أو تعرضت للتحريف لأسباب مختلفة، وهو ما أثار المحافظين فاتهموه بالردة، لكن النيابة المصرية المنصفة برأته.

كان جسوراً عندما دعا في «مستقبل الثقافة في مصر» إلى التوجه غرباً، لانتمائنا الطبيعي والجغرافي لغرب العالم، حيث يقع البحر المتوسط، وهو ما عدَّه مجالنا الثقافي الحقيقي. والحقيقة أن هذا هو الاتجاه الحضاري الذي يدفع إلى التقدم الذي أخذت به كل الدول التي أرادت أن تتقدم. وكان جسوراً عندما نادى وعمل على تعليم المرأة، واصطف بجانب أعلام النهضة الكبار، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، وكان رأيه أن تعليم المرأة هو السبيل الوحيد لتمكينها، وهذه الأفكار التقدمية هي التي انتصرت في النهاية. باختصار: كانت كل أعمال طه حسين، سواء النقدية أو الإبداعية، حتى محاضراته الجامعية، تنطلق من رؤية شجاعة لمستقبل الثقافة العربية، لا نزال في أشد الحاجة إلى أن نعيها ونأخذ بها.

طه حسين

أول نموذج للمثقف العضوي د. كرمة سامي ـ رئيسة المركز القومي للترجمة بالقاهرة

طه حسين كان جسوراً صاحب همة ونفس مؤمنة «إيمان القلب والعقل والضمير». تميزت مسيرته عبر تاريخه بالشجاعة في التعلم والتعليم والكتابة النقدية والسردية والذاتية، ومواجهة النقائص الثقافية والتفاني في علاجها. كان أول نموذج واضح للمثقف العصري العضوي، يناقش قضايا مجتمعه بنور بصيرته، ويشكله بأفكاره التقدمية، ويختلف ويخالف ويعارض، لكنه يشجع.

اقرأوا بتمعن «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي صدر عام 1936، ستكتشفون كأنه كتب لعام 2036... ادرسوا خطته المتكاملة في هذا السِّفر الضخم لمحو الأمية اللغوية والمعرفية، ورأب الصدع بين التلميذ وتراثه الثقافي، وإزالة آثار العداء بين الثقافة القومية والعربية، ومشروعه المتكامل لبناء «الأمة الراقية» و«تيسير علوم اللغة»، ومطالبته بمناهج «واضحة سهلة قريبة إلى العقول والقلوب». ولو كان بيننا لهاجم الأسلوب الذي تُدرس به سيرته الذاتية «الأيام» لطلاب المدارس؛ لأنه أراد أن تكونَ اللغةُ العربية «أقربَ إلى نفوس التلاميذ».

اجتهد طه حسين في دراسته في جامعة «السوربون» فكان يدرس كلاسيكيات الغرب صباحاً، ثم يجلس ظهراً مع زوجته في إحدى الغابات الصغيرة المحيطة بباريس، تقرأ عليه الروايات المسلسلة ذات الشعبية الطاغية، ومنها استلهم مساره السردي الفريد الذي ميزه عمن سبقه وعاصره أو جاء بعده. وخرج بقوالب سردية أدهشتنا حين خالفت إطارها الزمني في «دعاء الكروان»، و«خطبة الشيخ». ولهذا يكتشف الباحثون عند قراءة أعماله الأدبية نتائج مدهشة وموقفاً إنسانياً مستنيراً يسبق عصره. يضع به «آمنة» بطلة «دعاء الكروان» التي كتبها ببصيرته عام 1924 قبل «ليلى» بطلة لطيفة الزيات في «الباب المفتوح» 1960، و«مريمة» بطلة رضوى عاشور في «ثلاثية غرناطة» 1994. كتب طه حسين مقالاً نشر في كتاب «اليونيسكو» احتفالًا بمئوية غوته الثانية عام 1949، ووصفه بـ«التوازن» وحياته بأنها «منسجمة كأنها مقطوعة موسيقية جميلة». وأحسب أن هذا الوصف ينطبق على مسيرة طه حسين وأعماله التي تمتد آثارها تناغماً واتساقاً وصدقاً، حتى بعد رحيله بالجسد بخمسين عاماً.

أماني فؤاد

منظور عقلاني في قراءة التاريخ د. أماني فؤاد ـ ناقدة وأكاديمية

حين أعمَل طه حسين عقله فيما قرأه من الموروثات الخاصة بالسيرة؛ وجد أن أغلب ‏الخطابات والمرويات لا يمكن إثباتها تاريخياً، كما أنها تتضمن مبالغات بلا حصر، وبها ‏قدْر عالٍ من تمجيد المواقف، والنزوع بالأحداث نحو «الأسطرة»، ولذا ارتأى بدلاً من ‏تقويضها بالمنهج العقلاني والتاريخي، أن يتفاعل معها فنياً وأدبياً، ويعيد إنتاجها كما يفعل الغرب مع موروثاتهم ‏الأدبية، هذا هو ما يستشعره القارئ لمقدمة كتاب «على هامش السيرة». أراد طه حسين بهذا الصنيع أن يدفع بالعقل العربي ليناقش ويسائل كل الموروثات، حتى ‏التي أكسبها الأقدمون بعض صفات القداسة، وهي ليست كذلك. ربما أراد أن يقول إن كل ما وضَعه العقل العربي الإسلامي يمكننا أن نسائله، فهو لا يتضمن ‏قداسة لأنه من تأليف ومخيلة البشر، موروث يلهمنا لإنتاج خطابات أدبية أخرى تجادله ‏وتتناص معه، لا بوصفه حقائق تخضع للعقل. وهذا الصنيع هو بعض ما يجعل الجميع ‏يقول عن طه حسين إنه الرائد والمعلِّم الأول للتنوير، وعلى خطاه سار كبار الباحثين ‏العرب يسائلون التراث.‏

تعامل طه حسين مع هذه الموروثات بمنطق الفن، مادة تستفز حالة من الجدل مع مضمونها، ‏ومن ثم الإلهام، والبناء عليها فنيّاً، الخيال الذي يستهدف المتعة، لكن لم يتعامل معها ‏كحقائق تاريخية، أو أنها تخضع للبحث العلمي،‏ فهذا نهج غير عقلاني. إن المقدمة التي كتبها طه حسين لكتابه «على هامش ‏السيرة»، تنص صراحة على أن ما ورد بالكتاب ليس سوى إبداع على موروثات السيرة الأسطورية في أغلبها، وأنه أراد ‏كتابة أدبية تخيُّلية، لا تنضوي تحت التاريخ ولا العقلانية. ‏يتحدَّث الكاتب عن أدب، وليس عن أخبار تاريخية ‏وسِيَرِيَّة، وكلنا يعلم أن الجزء المتخيَّل في الأدب هو الذي يهيمن على الخطاب الفني.

ثم يتحدَّث طه حسين عن إلياذة هوميروس، وأنها لم تزل تُلهِم الكتَّاب حتى عصره، ‏ويعقِّب بَعدها قائلاً: «إن قوماً سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدَثون يُكبِرون العقل، وأحبُّ أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس مَلَكاتٍ أخرى».

سهير المصادفة

تأثير أدبي عابر للأجيال سهير المصادفة ـ كاتبة روائية

كثير من البنات كنّ يتسربن من حصّة اللغة العربية، بينما أنتظرها بشغف، لكي أجيب عن أسئلة المدرس بعد أن يقرأ فقرة من «الأيام» لعميد الأدب العربي طه حسين المقررة علينا: «يذكر أن قصب هذا السياج كان أطول من قامته، فكان من العسير عليه أن يتخطاه إلى ما وراءه». تكاد قدماي تتحركان لتحملا الصبي وتعبرا به السياج، لكن هل كان الصبي سيسمح لأي مَن كان أن يساعده؟ هو الذي كان يكره الشفقة، وأن يعامله الآخرون معاملة خاصة، فاجتاز وحده كل الأسيجة التي اعترضت طريقه، حتى خرج من الظلمات إلى النور.

لقد أثرت «الأيام» على جيلي وأجيال أخرى من الكتاب، كان نور عقله المشع يتسلل إلى عقولنا الصغيرة آنذاك فيتناثر شهباً. أسمّي شارعاً باسمه في أولى رواياتي: «لهو الأبالسة»، وأختار في إحدى محاضراتي مفتتح «الأيام» كأروع وأنجح الفقرات الاستهلالية لكتاب يجعل القارئ يخمن عنوانه دون أن يراه: «لا يذكر لهذا اليوم اسماً، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه، وإنما يقرب ذلك تقريباً». والآن ورغم مرور السنوات، ما زال «طه حسين» الأكثر تأثيراً وإثارة للمعارك الكبرى، فلقد كان يخلخل منظومة الثبات والركود بألمعية وإيمان، لا من أجل الهدم، وإنما لكي ينطلق بتراثه إلى آفاق أرحب، فيحقق لأمته التفوق والتنوير؛ في التعليم الذي أصر أن يكون كالماء والهواء، وفي الثقافة، وفي تنقية الإرث العربي من الخرافات، وفي حقّ المرأة في الحياة. مَن يصدق أنه رغم مرور تلك السنوات، ما زلت أبكي حين أسمع صوته الرخيم مع نهاية فيلم «دعاء الكروان»، المأخوذ عن روايته الأشهر التي تحمل الاسم نفسه، وهو يقول: «أترينه كان يرجّع صوته هذا الترجيع حين صُرعتْ (هنادي) في ذلك الفضاء العريض!».

إيهاب الملاح

إعادة اكتشاف التراث العربي إيهاب الملاح ـ مؤلف كتاب

«تجديد ذكرى عميد الأدب العربي»كان طه حسين أول من ألقى بحجر ثقيل للغاية في المياه الراكدة للفكر العربي الحديث، بعيداً عن قضية الشعر الجاهلي، أو بعض الأسطر التي اقتطعت من سياقها وتم التمسك بها من جانب تيارات التشدد والجمود والفكر المحافظ، وإشهارها في وجه عميد الأدبي العربي بهدف إدانته. لقد كشف برؤاه الفكرية الشجاعة عن وجود تيارات لا تقبل النقد أو إعمال العقل في تراثنا ومروياتنا، وترفض بشكل حاد وعنيف أي اختلاف في الرأي.

تعرض طه حسين لأكبر محاولة في تاريخنا الثقافي الحديث لإسكات مثقف كبير وابتزازه وإرهابه، من خلال تأليب الرأي العام عليه، والادعاء بأن نقده للتراث هو بمثابة تطاول على المقدسات، وهي اتهامات عارية عن الصحة وكاذبة شكلاً ومضموناً، فما قدمه صاحب «الأيام» للثقافة العربية من مؤلفات تراثية حققها وعلّق عليها وشرحها لم يقدمه أي باحث أو مثقف آخر ينتمي للتيار المحافظ. وعلى سبيل المثال، كان طه حسين أول من قدم شرحاً وافياً عصرياً، واكتشافات مدهشة، لجماليات شعر ما قبل الإسلام، ثم الشعر في العصر العباسي، عبر الدخول إلى غاباته الكثيفة وتذليل معانيه وتقريبها إلى القارئ العام، كما في كتبه مثل: «حديث الأربعاء»، و«صوت أبي العلاء»، و«مع المتنبي»، و«من حديث الشعر والنثر».

لقد ساهم طه حسين في اكتشاف مناطق مجهولة أدبية وفكرية من تراثنا وتقديمها إلينا، إما تحقيقاً ودراسة وإما تنويهاً وكتابة، وإما بإيفاد البعثات للكشف عن تلك المخطوطات.

 

مقتطف من كتاب «الأيام» لطه حسين

> «وقد أخذ الفتى يتهيَّأ لإتقان الفرنسية من جهة، وتعلُّم اللاتينية من جهةٍ أخرى، فالتمس لنفسه معلماً خاصّاً يُعينه من ذلك على ما كان يريد. وقد جعل رفاقه يبحثون له عن المعلم الذي يلائمه حتى قيل لهم: إن صاحبكم مكفوف، وليس له بدٌّ من أن يتعلم كتابة المكفوفين وقراءتهم، ليستطيع أن يعتمد على نفسه في تحصيل ما يريد أن يحصِّل من العلم. ثم قيل لهم: إن في تلك المدرسة من مدارس المكفوفين أستاذاً ضريراً قد يعين صاحبكم على حاجته، فسعَوْا إلى هذا الأستاذ، وقدَّموا إليه صاحبهم. وأعلن الأستاذ إليهم أنه زعيم بأن يعلِّم رفيقهم الكتابة والقراءة الفرنسية واللاتينية جميعاً، ولم يطلب على هذا إلا أجراً ضئيلاً في نفسه، ولكنه كان ثقيلاً على هذيْن الأخوين اللذين كانا يعيشان بمرتب شخص واحد. وقد قَبِل الفتى مع ذلك أن يشق على نفسه وعلى أخيه، وأن يؤدي إلى الأستاذ أجره الذي طلبه، وكتب إلى الجامعة يستعينها فلم تبخل عليه بالعون، وقامت عنه بأداء هذا الأجر. وأقبل الفتى على الكتابة البارزة يتعلمها، فلم يلبث أن أحسنها، ولكنه عندما حاول أن ينتفع بها في درسه لم يجد إلى الانتفاع بها سبيلاً؛ فلم تكن الكتب التي كان يحتاج إلى قراءتها قد طبعت على هذه الطريقة الخاصة، وكان ربما أتيح له الكتاب المطبوع على هذه الطريقة، فلا يكاد يأخذ في قراءته حتى يضيق بهذه القراءة أشد الضيق، وينفر منها أعظم النفور، فهو قد تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصبعه».



بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
TT

بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن

لا يبدو 2025 في روزنامة المملكة المتحدة الثقافية مجرد محطة اعتيادية لطي صفحة عام وفتح أخرى. ففيه، تتواطأ التواريخ لتجمع في سلة واحدة حصاد قرون متباعدة: حكمة القرن السابع عشر التأسيسية، ورومانسية القرن الثامن عشر الاجتماعية، وانفجار الحداثة في الربع الأول من القرن العشرين، وصولاً إلى أسئلة الذكاء الاصطناعي في راهننا المعاصر.

الجزيرة البريطانية كانت أقرب ما يكون إلى مختبر مفتوح، يعيد قراءة هوية الغرب الثقافية عبر رموزها الأكثر رسوخاً. هنا، نحاول رسم خريطة بانورامية لهذا المشهد، حيث يتجاور «فرانسيس بيكون» مع «جين أوستن»، وتتصالح ضبابية لندن «فيرجينيا وولف» مع صخب برادفورد عاصمة الثقافة الجديدة في الشمال.

ربع ألفية جين أوستن... أيقونة متجددة

الحدث الذي يُلقي بظلاله الرقيقة والساخرة على المشهد الأدبي مع نهاية العام، هو الاحتفال بمرور ربع ألفية على ميلاد الروائية الإنجليزية الأشهر، جين أوستن (1775-1817) التي تحولت عبر العقود إلى «ظاهرة ثقافية» عابرة للأزمنة، أو ما يصطلح عليه مؤرخو الفكر بـ«هوس أوستن».

مقاطعة هامبشاير، حيث يقع منزلها في قرية «تشوتون»، صارت قبلة للحجيج الأدبي، وتجاوزت الاحتفالات حيز الجغرافيا لتستعيد «اللحظة الأوستينية» في التاريخ. فقد دفعت دور النشر البريطانية العريقة مثل «بنغوين» و«فينتج» بطبعات خاصة من الروايات الستة الخالدة، ونشرت عدة دراسات نقدية جديدة تفكك سر بقاء هذه النصوص طازجة في زمان «التيك توك». وأصدرت دار «فيرسو» سيرة غرافيكية مميزة رسمتها كيت إيفانز.

مدينة «باث» التاريخية، التي خلدتها أوستن في «دير نورثانجر» و«إقناع»، تحولت شوارعها الحجرية إلى متحف حي، وغداً المهرجان السنوي للاحتفاء بها أكبر من مجرد كرنفال للأزياء التاريخية من فترة ما قبل العصر الفيكتوري، ليكون منصة لإعادة الاعتبار للروائية بوصفها «النسوية الصامتة» و«الناقدة الاقتصادية» التي وظفت أدوات الأدب لرصد حركة المال والزواج في مجتمع متغير. إنه وقت لاستعادة الحبكة المحكمة والسخرية المهذبة التي تضمر تحتها نقداً حاداً للطبقية.

4 قرون على «مقالات» فرانسيس بيكون

إذا كانت أوستن تمثل تيار الشعور ودقة الملاحظة الاجتماعية، فإن 2025 يحمل ذكرى تمتاز بالرصانة والصرامة الفكرية. إنه العام الذي وافق مرور أربعة قرون كاملة على نشر الطبعة الثالثة والمكتملة من «المقالات-1625» للفيلسوف ورجل الدولة فرانسيس بيكون.

نشر بيكون تلك الطبعة قبل عام واحد من وفاته، مودعاً فيها خلاصة تجربته في السياسة والحياة. المؤسسات الأكاديمية، من كامبريدج إلى أروقة المكتبة البريطانية في «سانت بانكراس»، نظمت ندوات أعادت قراءة مقالاته الشهيرة مثل «في الحقيقة»، «في الموت»، و«في الفتن والقلاقل».

تكمن أهمية هذه المئوية الرابعة في استعادة اللغة البيكونية؛ تلك اللغة المكثفة، المتماسكة، التي أسست للنثر الإنجليزي الحديث. ويتمّ تسليط الضوء على أعماله بصفته أباً للمنهج التجريبي العلمي، ومهندساً للسياسة الواقعية، ومفكراً استشرف مبكراً علاقة «المعرفة» بـ«القوة». الاحتفاء ببيكون اليوم احتفاء بالعقل المجرد في مواجهة فوضى العواطف السياسية وحروب الشعبويات.

جانب من معرض لندن

مئوية الحداثة: «السيدة دالواي» تشتري الزهور

بالانتقال من القرن السابع عشر إلى العشرين، يواجهنا تاريخ مفصلي: 1925، الذي يُعرف في النقد الأدبي بعام «المعجزة الحداثية»، وفيه، نشرت فيرجينيا وولف روايتها التي غيرت مسار السرد الروائي: «السيدة دالواي».

«قالت السيدة دالواي إنها ستشتري الزهور بنفسها». هذه الجملة الافتتاحية الشهيرة ترددت أصداؤها في أرجاء لندن طوال 2025، ونظمت المؤسسات الثقافية، بالتعاون مع «الصندوق الوطني»، مسارات أدبية تقتفي أثر «كلاريسا دالواي» في شوارع وستمنستر وبوند ستريت.

تخطى الاحتفال بوولف فضاء السياحة الأدبية ليكون تكريساً لمرور قرن كامل على تقنية «تيار الوعي». وشهدت الجامعات والملاحق الثقافية مراجعات نقدية لإرث «مجموعة بلومزبري» - حلقة غير رسمية من الأصدقاء والأقارب (كتاب، فنانين، فلاسفة) عاشوا وعملوا وتجادلوا بالقرب من منطقة «بلومزبري» بوسط لندن جوار المتحف البريطاني خلال النصف الأول من القرن العشرين - وتأثيرها في تحطيم القالب التقليدي للرواية الفيكتورية الكلاسيكية. كما فتح هذا اليوبيل الباب واسعاً لمناقشة قضايا الصحة النفسية، والعزلة داخل المدينة الكبيرة، وهي ثيمات سبقت وولف إلى تشريحها وتظل شديدة الراهنية للإنسان المعاصر.

وفي سياق متصل بـ«المعجزة الحداثية»، يجدر ذكر مئوية قصيدة «الرجال الجوف» لـ ت. إس. إليوت، ورواية «غاتسبي العظيم»، لفرنسيس سكوت فيتزغيرالد - التي تعد عند كثير من النقاد الرواية الأميركية الأهم -، ما جعل من العام الحالي فترة لاستعادة «القلق الجميل» الذي ميز فترة ما بين الحربين في مجمل العالم الأنجلوسكسوني.

برادفورد 2025: الشمال يكتب سرديته

بعيداً عن مركزية لندن العاصمة، اتجهت البوصلة الثقافية شمالاً نحو «يوركشاير»، وتحديداً إلى مدينة برادفورد، التي توجت بلقب «مدينة الثقافة في المملكة المتحدة 2025». هذا اللقب، الذي تتنافس عليه المدن البريطانية بشراسة، وضع برادفورد تحت المجهر طوال اثني عشر شهراً.

برادفورد، تلك المدينة الصناعية العريقة، تمثل، بريطانياً، بوتقة انصهار اجتماعي وتاريخي. وبكونها أول مدينة لليونسكو في مجال السينما، وبقربها من «هاوورث» (موطن الأخوات الروائيات برونتي)، تمتلك إرثاً ثقافياً ثقيلاً.

وتضمنت الأنشطة المرافقة للتتويج أكثر من ألف فعالية فنية، تراوحت بين المعارض البصرية المعاصرة في «كارترايت هول»، وعروض المسرح التجريبي في المصانع القديمة المعاد تأهيلها وغيرها، كرهان على قدرة الثقافة على قيادة التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم برادفورد أنموذجاً للمدينة البريطانية الحديثة المتعددة الأعراق والهويات، التي تصنع الفن من قلب التنوع.

معرض لندن للكتاب: سؤال الورق والرقائق الإلكترونية

في ربيع 2025، وكعادتها منذ 1971، كانت قاعة «أوليمبيا» بغرب لندن مسرحاً للحدث الأهم في صناعة النشر العالمية: معرض لندن للكتاب. واكتسبت دورة 2025 أهمية خاصة في ظل التحولات التكنولوجية العاصفة.

تجاوز الحديث في الأروقة صفقات حقوق الترجمة والبيع، ليشتبك مع هواجس الناشرين ومنتجي المحتوى تجاه تغّول الذكاء الاصطناعي، ونظمت ندوات ساخنة حول مستقبل الكتابة الإبداعية: إمكانية كتابة الآلة للرواية، وسبل حماية القوانين لحقوق المؤلفين من «تغذية» النماذج اللغوية بأعمالهم.

الجوائز الأدبية والفنون التشكيلية

في الخلفية، تظل الجوائز الأدبية البريطانية الكبرى هي الضابط لإيقاع نبض الحياة الثقافية في المملكة. وذهبت جائزة بوكر الأدبية المرموقة لديفيد زالاي عن «لحم» (Flesh) التي وصفت بأنها عمل محفوف بالمخاطر حول الضعف البشري، بينما توجت الهولندية يائيل فان دير بودن بجائزة أدب المرأة للرواية عن عملها الأول المذهل «مستودع آمن» (The Safekeeper) الذي استعاد أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحصد ستيفن ويت لقب كتاب العام من جريدة «فاينانشال تايمز» عن «الآلة المفكرة» (The Thinking Machine) الذي أرخ لرحلة صعود شركة «إنفيديا» والذكاء الاصطناعي، ونال الآيرلندي دونال رايان جائزة أورويل للرواية السياسية عن «فليسكن قلبك في سلام» (Heart, Be at Peace)، وأخيراً، توجت المؤرخة هانا دوركين بجائزة ولفسون للتاريخ عن كتابها التوثيقي «الناجون» (Survivors) الذي تتبع بدقة قصص آخر أسرى سفن تجارة الرقيق عبر الأطلسي.

وفي الفنون التشكيلية فتح «تيت مودرن» والمتحف البريطاني أبوابهما لمعارض استعادية ضخمة، تسعى للخروج من عباءة المركزية الأوروبية، وتسليط الضوء على فنون الجنوب العالمي، لتصفية الحسابات مع الماضي الاستعماري عبر الفن والجمال. لقد قدمت بريطانيا نفسها في 2025، عبر هذه الفعاليات، حارسةً للذاكرة الأدبية، ومختبراً للمستقبل الثقافي الغربي في آن واحد. إنه عام ثري، ذكرنا، وسط ضجيج التكنولوجيا، بأن الكلمة المكتوبة تظل هي الأداة الأقوى لصياغة وعي البشر، وأن دواء الحروب الثقافية في البحث عن الهم الإنساني المشترك.


عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني
TT

عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني

لم يكف البشر عبر تاريخهم الطويل عن الاحتفال بمحطات زمنية دورية، يستولدونها من حاجتهم الملحة إلى التحلق حول رموز ومعتقدات جامعة، تتوزع بين الديني والوطني والاجتماعي. وهم إذ يسمون هذه المحطات أعياداً، يقيمون لها احتفالات وطقوساً متباينة المظاهر والدلالات، ويحولونها إلى مساحات للفرح أو الحزن، للصخب أو التأمل. اللافت أن التطور المتعاظم الذي أصابته المجتمعات على الصعد العلمية والتقنية لم يفض إلى تقليص الظاهرة أو إلغائها، بل تضاعف منسوبها مرات عدة، بعد أن اتخذت طابعاً تكريمياً لبعض الفئات والشرائح المهملة. وهو ما وجد شواهده المثلى، في ابتكار أعياد وأيام للاحتفال بالمعلم والعامل والأم والطفل والأب، وصولاً إلى قيام المنظمات الدولية بإعلان معظم أيام السنة، مناسبات للاهتمام بالفئات المهمشة، أو بالتحديات المستجدة التي تواجه سكان الأرض.

ومع أن التقاليد والعادات المرافقة للأعياد ظلت تتأرجح على الدوام بين الفرح الاحتفالي والحزن الحدادي والخشوع الإيماني الصامت، تبعاً لطبيعة العيد ودلالاته، فإن «البراءة» التي تميزت بها الأعياد في العصور السابقة، سرعان ما أخلت مكانها للمظاهر المتكلفة والصخب السطحي. ففي ظل التغيرات الدراماتيكية التي أصابت الحياة المعاصرة في ظل النظام الرأسمالي، تم تحويل الأعياد إلى مناسبات «باخوسية» للتسوق الباذخ والترف المفرط والتهالك على الملذات.

ووسط تكاثر الأعياد وازدحامها، يبدو عيد رأس السنة المحطة الزمنية الأكثر اتصالاً بواقع البشر وهواجسهم ووجدانهم الجمعي. وقد يكون هذا العيد أحد أكثر الأعياد قِدماً، رغم أن تعيينه الزمني قد اختلف من عصر إلى آخر. فقد احتفل به البابليون قبل أربعين قرناً، في شهر مارس (آذار)، تزامناً مع الاعتدال الربيعي وتجدد الزراعة وطقوس الخصب. واحتاج الأمر إلى قرون عديدة لاحقة، قبل أن يقرر الحاكم الروماني يوليوس قيصر نقل الاحتفال به إلى مطلع يناير (كانون الثاني) من كل عام، تكريماً ليانوس، إله البدايات عند الرومان. ثم أخذت رقعة العيد الاحتفالية في الاتساع بشكل تدريجي، ليطول في وقت لاحق سائر شعوب الأرض وقومياتها وأعراقها.

وإذا كان مفهوماً أن يتخذ عيدا الحب والميلاد طابعهما الاحتفالي المفعم بالفرح والنشوة، باعتبار أن الأول مرتبط بالمشاعر الإنسانية وغريزة البقاء، والثاني بميلاد السيد المسيح، وما يعنيه من بهاء الرمز وقوة الدلالة، فإن من المفارقات المثيرة للدهشة أن يتم الاحتفاء برأس السنة بكل هذ القدر من الضجيج والانتشاء والصخب الكرنفالي الكوني، في حين أن انقضاء سنة من أعمارنا المحدودة يستوجب «التشييع الحدادي » للعام الذي خسرناه، أكثر من الابتهاج بعام قادم لسنا متأكدين من ربحنا له. والأرجح أن إحداث البشر لهذا الضجيج الصاخب ما هو إلا محاولة يائسة لتمويه هواجسهم الفعلية، وتبديد قلقهم الوجودي، وتشتيت خوفهم من فكرة الموت.

لكن اتجاه الكثرة الكاثرة من الناس لمواجهة هذه المناسبة الملتبسة بالارتماء في حمأة المتع الحسية الجمعية، لا يصرفنا عن ملاحظة الجانب الآخر من الصورة، حيث يؤثر البعض الانفراد بأنفسهم بهدف المكاشفة الذاتية، وإجراء جردة حساب مفصلة مع النفس، وتؤثر العائلات أن تتحلق حول نفسها لكي يواجه أفرادها بالتضامن والتكافل مخاوفهم المشتركة من غدر الزمن، فيما يغرق المتوحدون والانطوائيون في وهدة الإحباط والأسى، وصولاً إلى الانتحار في حالات الكآبة القصوى.

وحيث لا يبدو مستغرباً أن يجد كتاب العالم وفنانوه في هذا الاستحقاق الزمني فرصتهم الملائمة لمراجعة علاقتهم بأنفسهم، أو لطرح الأسئلة المتعلقة بشؤون الحياة واستحقاقاتها الداهمة، كقضايا الحب والحرب والصراع على البقاء والتبدل السريع للمصائر، فإننا نعثر في نتاج هؤلاء الكثير من الشواهد والأمثلة الدالة على ذلك. فالشاعر الأميركي روبرت لويل، المولود في أوائل القرن المنصرم، الذي عايش حربين عالميتين، لا يرى في بدايات الأعوام سوى مناسبات متكررة لتجديد عهد البشر مع صقيع الضغائن ولهب الحروب الدامية، فيكتب في قصيدته «يوم رأس السنة»:

مرة بعد مرة يولد العام في الجليد والموت

ولا يجدينا التواري خلف نوافذ العاصفة

قرب الموقد

بينما الجليد المدّي الرقيق يتآكل

فما دمنا أحياء نحن نعيش لنشمّ دخان الضحايا

أما الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ارتبطت بعلاقة زوجية صعبة مع الشاعر البريطاني تيد هيوز، فقد رأت في نهايات الأعوام المناسبات النموذجية لتجديد العقد مع مشقات العيش وآلامه. وهي إذ تشبّه ثقل السنين بالمكابس، كما بحوافر الخيول وزئير النمور، تبدو وكأنها ترهص بانتحارها اللاحق الذي لم يتأخر كثيراً حدوثه، فتعلن في قصيدتها «السنون»:

الأبدية التي تملُّني لم أُردها يوماً

ما أحبه هو المكبس في حركته

روحي تموت قبله

وحوافر الخيول شبيهة بالخضِّ القاسي الذي لا يرحم

أهو نمِرٌ هذا العام، هذا الزئير على الباب؟

وإذ يمهد الشاعر الروسي فاليري بريوسف لقصيدته «على أبواب العام 1905 الجديد»، بالقول: «في المهد الحديدي والرعب يولد العام الجديد»، يتضح أن الرعب المشار إليه هو ذلك الناجم عن غرق الأرض في الكراهية والعنف الدموي. كما يبدو واضحاً أن القصيدة مكتوبة بتأثير من الحرب الضروس التي قامت بين روسيا واليابان عشية ذلك العام بالذات. وفي ذلك يقول الشاعر: «مضى عام بتمامه كمنام دموي، أو كابوس خانق أصم، وعلى الغيم بريق كأنه حمم بركان. اشرأب العام الجديد مارداً عنيفاً، يمسك في كفه الصارمة ميزان خفايا الأقدار».

روبرت لويل

بالانتقال إلى الشعر العربي، لا يرى نزار قباني أن في نهايات الأعوام ما يوجب الغرق في التشاؤم والرؤى القاتمة، أو طرح الأسئلة المؤرقة المتعلقة بأحوال النفس والعالم. فهو لم يكن يجد الوقت لمثل تلك المكابدات، بخاصة في ذروة شبابه، حين كان عشقه للنساء يعفيه من أي مهمة مينافيزيقية بعيدة الغور. وإذا كان له أن يجري، كغيره من المشتغلين بالشعر والفن، جردة حساب سريعة مع العام الذي انصرم، فهي جردة تتعلق بمستحقات الحب وأكلافه. لذلك فهو في مجموعته «هكذا أكتب تاريخ النساء» يخاطب المرأة التي يعشقها بالقول: «اثنا عشر شهراً وأنا أشتغل كدودة الحرير، مرة بخيط ورديّ، ومرة بخيط برتقالي. حيناً بأسلاك الذهب، وحيناً بأسلاك الفضة، لأفاجئك بأغنية، تضعينها على كتفيك كشال الكشمير، ليلة رأس السنة».

أما الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فلا ترى في انقضاء العام، ما يوجب الحداد عليه أو استرجاع محطاته وأطيافه، بل هي تشيح بوجهها عنه لتلتفت إلى ما يمكن أن يحمله العام الذي يليه من هدايا الحب ووعود الخصب والتجدد، فتقول في قصيدتها «صلاة إلى العام الجديد»:

ما الذي تحمله من أجلنا، ماذا لديكْ؟

أعطِنا حباً فبالحب كنوز الخير فينا تتفجرْ

أعطِنا حباً فنبني العالم المنهار فينا من جديدْ

ونعيدْ

فرحة الخصب لدنيانا الجديبة

وإذا كانت طوقان تستخدم في قصيدتها ذات النبرة التموزية ضمير المتكلم الجمعي، فإن الأمر مرتبط بأمرين اثنين، يتصل أولهما بانتمائها إلى فلسطين، التي يواجه أهلها أشكالاً عاتية من العسف والاضطهاد ومصادرة الأرض، ما يدفعها إلى ربط أمنياتها بقضايا الوطن وشجونه، أما الثاني فيتمثل في كون الشاعرة التي عانت كثيراً من وطأة التقاليد المحافظة، وصولاً إلى فشلها المتكرر في الحب، قد اتخذت من أمنيات شعبها الرازح تحت وطأة الاضطهاد والتشرد، ذريعتها الملائمة لإعلان تعطشها الشخصي إلى الحب والحرية والتجدد.

وقد تكون قصيدة الشاعر السوداني محمد عبد الباري «ليلة رأس السنة»، هي أفضل ما أختتم به هذه المقالة، ليس فقط لأنها تكشف عن الجانب الأصيل والمشرق من تجارب الشعراء العرب الشبان، بل لأن صاحبها يجانب الاستسلام لأفخاخ العزلة الكابوسية من جهة، ولصخب الجموع الهذياني من جهة أخرى، ليجعل من المناسبة فرصةً ثمينةً لاستنطاق الصمت، واللقاء الخلاق مع الذات، فيكتب قائلاً:

سقطتْ أوراق التقويمِ فعلّقْ تقويم العام الآتي

المسرح دائرةٌ

والوقت هو الفاصل بين البدء وبين البدءِ

فأوقفْ ساعتك العمياء وفكّر في الأمر قليلاً..

واتركني أكملُ هذي الليلة وحدي

لأفتش عن ذاتي


الثقافة اللبنانية تتوهج بين الانتعاش والفوضى من دون أن تعبأ بالحرب

معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»
معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»
TT

الثقافة اللبنانية تتوهج بين الانتعاش والفوضى من دون أن تعبأ بالحرب

معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»
معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»

إذا كان من عنوان لهذه السنة فهو «النضال» من أجل استبدال البشاعة بالجمال. فقد أغلق عام 2024 على حرب إسرائيلية ضروس، انحسرت، لكنها لم تنتهِ بعد. كان على اللبنانيين أن يعودوا إلى المسرح وغاليريات الفن، ومهرجانات السينما، والعروض الفنية، والأنشطة الأدبية، كأنما الوطن لا يقصف، والأرض لا تسلب.

الحرب وإن انحسرت فقد بقيت مستمرة، والتهديد بتمددها من جديد يومي، ولا يزال. لكن من يرى بيروت، قد لا يصدق أن هؤلاء الذين لا يكفّون عن الاحتفاء بالمسرح والأدب والمعارض والأفلام والكتب هم على شفير هاوية. فعدا الانهيار الاقتصادي، والاضطرابات السياسية، جاءت الحرب كأنما كي لا تترك مجالاً لهدنة.

قد لا تكون مبالغة القول إن كثافة الأنشطة الثقافية في بلد صغير مثل لبنان، وفي الظرف الصعب الذي يعيشه، ومن دون أي تمويل من الدولة، تكاد تكون ظاهرة يصعب تفسيرها، حتى فهمهما.

كم الأنشطة والدعوات كثيرٌ حدّ الإرباك، وهذا يأتي في أحيان كثيرة على حساب النوعية. خشبات المسارح محجوزة مقدماً، ومواعيد الجمهور تتضارب. لشدة الطلب، ثمة مسرحيات تغيب ثم تعود، مثل «مجدرة حمرا» إخراج يحيى جابر، وتمثيل البديعة أنجو ريحان. وهي من المسرحيات التي راقت كثيراً للجمهور، كذلك أعيد تقديم «مونوبوز» للكاتبة والمخرجة والممثلة بيتي توتل. وفي نهاية العام، أعاد الأخوان صبّاغ مسرحية غنائية كانا قدّماها قبل سنوات طويلة، هي «أنا وغيفارا». وكذلك أخرج الفنان عبد الحليم كركلا من أرشيفه عمله الرائع «ألف ليلة وليلة» وأعاد تقديمه في بيروت، قبل أن يغادر إلى موسكو ليقدم العمل على «مسرح البولشوي»، بنجاح كبير.

وفي نهاية العام، قدّمت المخرجة لينا خوري مسرحيتها الجميلة «أبو الزوس» التي تعكس تعقيدات التركيبة اللبنانية، وهي تجمع بين الفكاهة والعمق، وتغوص في النفس البشرية على طريقتها.

ثمة كثافة يختلط فيها العثّ بالسمين، إن في الفن التشكيلي أو في الأعمال السينمائية، حتى في إصدارات الكتب. قد تكون الظاهرة أكبر من لبنان، بسبب انتشار وسائل التواصل، وهشاشة المعايير. لكن السؤال الذي لن تجد إجابة عليه، هو من يمول كل هذا الكمّ من الأعمال، حتى الهابطة منها؟ وما الذي أدخلنا في هذا الازدحام الثقافي؟ وهل هي ظاهرة صحية، لأنها تجلب الفرح والاجتماع حول التجاريب الإبداعية، أم ثرثرة لا طائل تحت غالبية ما يصدر عنها؟

الإجابات ليست يسيرة، لكن المؤكد أن ثمة الكثير مما يسعد ويبهج. من ذلك، عشرات الحفلات التي أحياها الكونسرفتوار الوطني للموسيقى هذا العام، في مختلف المناطق اللبنانية، بفضل رئيسته النشطة المؤلفة الموسيقية والمغنية هبة القواس، لتصبح الموسيقى الكلاسيكية، بفضل جهد أساتذة المعهد وطلابه، في متناول كل مواطن.

«ألف ليلة وليلة» من لبنان إلى موسكو

المعارض كانت كثيفة بدورها، نذكر منها معرض «ديفا: من أم كلثوم إلى داليدا» في «متحف سرسق»، في بيروت، نظَّمه «معهد العالم العربي» في باريس، حيث انطلق من هناك إلى أمستردام وعمّان، قبل أن يصل العاصمة اللبنانية.

في المعرض فساتين، صور، تسجيلات، أفلام، وثائقيات، قطع أثاث، شنط، دفاتر، أشياء أخرى كثيرة، تخص نجماتنا الأثيرات، مثل هند رستم، فيروز، وردة، أم كلثوم، صباح، وغيرهن كثيرات.

ومن المعارض التشكيلية المهمة، الذي أقامه «غاليري صالح بركات» للتشكيلي العراقي ضياء العزاوي، بعنوان «شهود الزور»، لنكتشف من جديد جداريات العزاوي، التي ترسم خرائط التراجيديات العربية، حيث يتحول الزائر إلى متفرج على المجزرة الكبرى. فالمقتلة عند هذا العراقي الحزين ممتدة من بغداد إلى الموصل فحلب، وبيروت وغزة.

وفي «متحف سرسق»، أقام الفنانان الموهوبان جوانا حاجي توما وخليل جريج، معرض «ذكرى النور» في استعادة لأجمل أعمالهما في السنوات العشر الأخيرة، بعد أن جابت مدناً عدّة، وعادت إلى بيروت لتجد مستقرها، وتحكي لأهل البلاد قصصهم وتاريخهم ومعاناتهم، وما دُفن تحت ترابهم.

من المواعيد التي أثارت إعجاباً كبيراً معارض «وي ديزين بيروت» أو «نحن نصمم بيروت» في نسخته الثانية، حيث أعيد رسم ملامح مواقع في العاصمة بأنامل مبدعين تفننوا في تقديم رؤى، أضافت إلى روح الأمكنة معاني أخرى، في بحث عن الهوية، والانتماء، والذاكرة. توزعت المشاريع الفنية في عدد من المواقع، من بينها عمارة «برج المر» و«فيلا عودة» و«الحمامات الرومانية» و«بناية الاتحاد» ومصنع «أبرويان».

وفي الصيف، وبسبب استمرار التهديدات، ترددت لجان المهرجانات طويلاً، قبل أن تعلن برامجها، لكنها في النهاية قررت ألا تغيب، وفضّلت أن تعتمد بشكل كبير على الفنانين اللبنانيين، دون توسيع الطموح والتورط مع فرق كبيرة. ومن أبرز ما قدّم في مهرجانات بيت الدين: ميوزيكال «كلو مسموح» الذي لعبت الدور الرئيسي فيه الفنانة كارول سماحة، وأخرجه وشارك في تمثيله روي الخوري، كما كان الافتتاح بـ«ديوانية حبّ» المستوحاة من مجالس الطرب القديمة. جمع الحدث ثلاثاً من أبرز المطربات العربيات: جاهدة وهبة (لبنان) التي أدارت بمهارة الجلسة الغنائية، وريهام عبد الحكيم (مصر)، ولبانة القنطار (سوريا)، مع نخبة من العازفين بقيادة المايسترو أحمد طه.

وتوالت المهرجانات السينمائية على مدار العام، واختير فيلم «أرزة» لتمثيل لبنان في الأوسكار، من إخراج ميرا شايب، بطولة دياموند أبو عبود، تدور أحداثه حول أم تكافح في بيروت وتواجه تحديات لاسترداد دراجتها النارية. وفاز فيلم «ثريا حبي» بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، للمخرج نيكولا خوري، يستكشف حياة الفنانة الراقصة ثريا بغدادي، وعلاقتها بزوجها الراحل المخرج السينمائي مارون بغدادي. كما صدر فيلم «مشقلب» عن 4 حكايات لبنانية في مرآة الكوميديا السوداء، أخرجها كل من لوسيان بورجيلي، وبان فقيه، ووسام شرف، وأريج محمود. وكذلك فيلم «صوت آب» لمارسيل غصن، يستحضر ألم مدينة تقطّعت أوصالها، وفيلم «نجوم الأمل والألم» لسيريل عريس، الذي شارك في «مهرجان البندقية»، وفيلم «إلى عالم مجهول» للمخرج مهدي فليفل.

هبة طوجي في حفلها ضمن مهرجانات بعلبك الدولية

وخلال هذه السنة، تم إحياء الذكرى الـ135 لميلاد ميخائيل النعيمة، التي تعذر الاحتفاء بها العام الماضي، وأقيم مؤتمر تميز بدراسات وشهادات في ناسك الشخروب. كما اجتمع محبّو الروائي إلياس خوري وعائلته في المكتبة الوطنية لإحياء الذكرى الأولى لرحيله، بمشاركة وزير الثقافة غسان سلامة، الذي قلده وساماً بهذه المناسبة. كما تم تكريم الممثل القدير الراحل أنطوان كرباج في «مسرح المدينة». ومن ضمن التكريمات للراحلين، العودة إلى إرث منصور الرحباني بمناسبة مئويته، حيث أحيت نشاطات عدة، لعل أبرزها الحفل الموسيقي الخلاب، الذي قدمته هبة طوجي بمعية الموسيقي أسامة الرحباني على أدراج قلعة بعلبك ضمن «مهرجانات بعلبك الدولية» خلال الصيف.

وقد رحل عنا هذا العام الشاعر والمترجم والصحافي إسكندر حبش بعد معركة مع السرطان، وكذلك الإعلامي العاشق للغة العربية، الذي عرفه بعنايته الاستثنائية بلغة الضاد، بسّام برّاك. كما رحلت مها بيرقدار الخال زوجة الشاعر الراحل يوسف الخال، وبقيت لوحاتها وجرأتها. أما الفقيد الذي اهتزّ لوداعه لبنان فكان زياد الرحباني، بما له من مكانة في نفوس الناس.

كانت المفاجأة في «اليوم الوطني للتراث» الذي سمح طوال 3 أيام من 14 مايو (أيار) إلى 16 منه، بإعفاء الزوار من رسم دخول المتاحف والمواقع الأثرية التابعة لوزارة الثقافة، وخصصت لهم وسائل نقل، فكان المقبلون بالآلاف، ما وضع الوزارة أمام مأزق غير متوقع، ومفاجأة سعيدة غير محسوبة.

واحتفلت مؤسسة «المورد الثقافي» بعيدها العشرين في سينما «متروبوليس» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، التي هي أشبه بـ«وزارة ثقافة عربية». هكذا وصفتها إحدى المشاركات في الملتقى الذي جمع شبكة واسعة من المبدعين في المنطقة العربية، وهم في غالبيتهم من الذين تعاونوا مع «المورد»، ومنهم من أصبحوا نجوماً بفضل تمويلاتها، ومشاريعها المختلفة.

وبعض ما جاء في المداخلات عن التمويلات الأجنبية للثقافة في لبنان والمنطقة، ربما يجيب على جانب من أسئلتنا، حول سرّ انتعاش الأنشطة الثقافية، رغم الأزمة الاقتصادية.