قاسم حداد
هذا هو الليل، ينتصفُ ليكملَك. انتبه، وقتُكَ انتهى، ابتدى وقتُهم. سوفَ يقضمونَ العظام، سيدٌ في الظلامِ اعتدى، عندما في النهار صرتَ ندا لهم. انتبه، موتُنا في التمام. واحدٌ والبقية جر، اثنانِ وما مِن تهمة إلا انفضّ شاهدُها في النفي، ثم يكادُ وصفُ الماءِ أن يغرقَ ويتدلى من عنفِ مجراه اسمٌ غريبٌ سيأتي، معترفا لأنه يؤمن بالقسَم، وسيقول لا 3 مراتٍ ويختفي في جدار. ثم سيتخذونَهُ رمزا بعد أن ذابَ في النكرة، ولم يبقَ من اسمه سوى الهاء، ممطوطة كي يكتملَ المخطوط، ويُبعث في نشيدٍ نشاز. وجدناهُ في الملة وأضعناهُ في الذات، وهو انتصافُ الشمائل بين نعم ولا، بوحُ التميمة وبحّة الكهل في سهل الصعوبة.
ليس على أرضٍ ولا في سماء. يتوجبُ مساءلةَ الفيزياء المتحذلقةَ وهي ترعى تحولاتِنا، كأننا طبيعةٌ ثانية. فليس ذنبي أنَّ للشكل سلطةً على أحوالي. حاولتُ أن أفهمَ معنى أن تكونَ من الرعيّة، تحتَ وطأة رعاةٍ لا يتورعونَ ولا يرحمون. الرحمةُ وريدٌ لا يستوعب معنى الخنجر، فمَنْ يُطلبُ منه أن يهدي الدمَ إلى القلب المطعون، كمَنْ يقتادُ جمرَهُ إلى شتاءٍ باطل. والغريبُ أنَّ ذلك يحدثُ في منتصف الحيرة، حين تكتشفُ أن الكراسي تصيرُ جالسيها. اجلسْ، اجلسْ، يسمّونكَ العطرَ لوردةٍ يقتلونها في واضحةِ الليل.
القصيدةُ المدلاةُ في عنق كاتبها والقلمُ الغائرُ في جرح الكتمان، هما أول الهتك. وبعدها، والداكَ يجهلان انكفاءَ وجهِك، وأوطانكَ تصيرُ حرةً إنْ سجنتكَ في دفتر، والشعراءُ سلالةُ المقصلة. لا تستخفّ بمقصلة القافية، كم شاعرٍ ساحَ دمُه في سبيل ظلٍّ لا ينعكسُ على صدى صوته. وكم ناثرٍ أعلن أنَّ المقصلة وَرْدُهُ وَوِرْدُهُ، لكنَّ ابتهاجَه لم يدمْ سوى دهر، وأصابع نقشه قُطعتْ في ساعة المصافحة، وارتبك الماءُ أمام العطشان.
الحبُ اختفاءٌ في العلن، والداخلونَ إلى استمرارهِ هم الناجون. اندلعْ، اندلعْ، قبل أن ينفجرَ لغمُهم، حبُّنا قبْلَهم. ليس قبلهم تمامًا، ربما معهم، لكن دويَّنا فتّتَ أوصالهم، أحالهم تماثيل ترشُّ العتمةَ بلا طائل على مصابيح سيّاحٍ يشعلون للحب عناقيدَ السفر. ماءُ السلالات الأبيض المشع، نسيمُ جناتٍ وعْدُها أخضر وأبوابها بلا حرّاس، مياعةُ الفطنة في أصلاب آدم؛ الحب أيها الحب، كيف بنفحةٍ دحرتْ أصنامَ الوصايا وَهُمْ صُم؟ حمّلنا قلوبَنا قناديلَ ليلك، والمتاهة دليلنا للفكاك من الصواب.
مِثلَ قطٍ يخرجُ من المطر، ينفضُ أيامَه ويذهبُ إلى العمل. العملُ وحدَه هو ما يجعله يقوى على الزمن. مَنْ يفهمُ ألغازَهُ، وهو يرسمُ عتابَه الرهيفَ على الفصول التي تتوالى دون أنْ تكترثَ بما يقترح من أسماء على أحلام العمل؟ ثم مَنْ يكترثُ بعجوزٍ يتظاهرُ بالفتى وينْقضُ الرماد؟ تفنى المسافةُ بين المنزل وبين ضجيج الناس، ولا يفنى الضجيج. يظلُّ يرتّب أثاث الصباح كلَّ يوم لكي يليقَ بمغادرته الباب وصعوده سلّم المسافة. هناك، في أعلى السلم، يلقي تحيته على الفراغ المطبق، ثم يتخذُ مقعدَهُ على كرسي من هواء، إلى أن يحينَ موعدُ العودة للبيت.
كلما كتبتَ الرسالة، نزّ حبرُها مثلَ جرحٍ على قميص. أن تشرقَ الشمسُ في كلماتك، في ليلٍ كثيف، عقلٌ هذا؟ تكون قد وصلتَ فيما تكتبها، الشمسَ والرسالة. ولكن من يفتحها؟ من يقلبُ الحنينَ إلى مدفأة؟ وجهانِ للكلمة، حتى وهي نسيان. يا إخوتي في الريح، كلنا مطرُ قلبي، والورقة التي حملناها بخفة، كانت تحمل جبلَ السرِّ داخلها. تجفل الغزوة من رسالة الحمامة، يعتلي الفرسانُ الهضبة، ثم يقرأ أمير المؤمنينَ الوصية: - لا بحر، لا حرب. يجفّ حبرُ الورقة، ويغوص الفرسانُ في رملِ المعركة. ومن وراء التيه يكبر ظلُّ المناداة. وتهيم امرأة في الأمصار، بحثًا عن بؤبؤ عينيها.
السفرُ عصارة الليل المبهْرج بالشمس، تسكبه على أهدابك، فترتدّ بصيرا. لنبدأ بجناح المسافة حرفا حرفا، جنة بيضاءُ هو الصمت، نارٌ باكية هو الفراق، أملٌ مستفيضٌ هي الورقة، وحرية حية في زوال الراء. جنى البحّة الخجولة، نسقُ الكلمة التي بلغتْ حد الصوت، أروقة السجود لهيبة الصدى، حريقُ الصوْر، إذ نُفِخَ به على حين نعاس. ثم من قال شيئا عن السلام؟ هل البارود يبرد؟ لا ينطفئُ الفتيل إلا بقتيل، ولا ينتحر الجلاد إلا مسحولا بشعبه، والنهاية المجنونة، ولدت من فكرة الضرب في الحرب. ضرب الشرق في الغرب، وضرب الناس في السرب، ثم إذا انهارت الفراديس قالوا طردنا منها، واتهموا الشيطان، وهو صنيع لسانهم. الإنسان أخ الشيطان،
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة