فاضل السلطاني
الإنجليز أمة شعر. هكذا كان الأمر منذ شكسبير حتى عصرنا الحالي. وقلما تجد روائياً، مهما بلغت إنجازاته، ينافس شعبية شعرائها، من روائيهم الأكبر تشارلز ديكنز إلى أيان ماكوين، أشهر روائييهم المعاصرين. والحقيقة، أنك لا تستطيع أن تضع ديكنز وأحفاده في قائمة واحدة مع الروسيين تولستوي ودوستويفسكي، مثلاً، والفرنسيين ستندال وبلزاك، وأن تضع ماكوين، إذا تحدثنا عن المعاصرين، جنباً إلى جنب مع الأميركيين فيليب روث ودون دليلو، بينما تستطيع وبكل اطمئنان أن تضع الشعراء الإنجليز - والبريطانيين عموماً - في أعلى أي قائمة شعرية، منذ قرن شكسبير حتى قرننا الحالي.
لا ينتهي النقاش حول من هو المثقف، ولا نحتاج هنا أن نضيف صفة «الحقيقي»، فكلمة «مثقف» تتضمن في ذاتها معناها، أو هذا هو المفروض. ولكن في الواقع تهلهلت الكلمة، وتفضفض ثوبها حتى بات يلبسه كل من نطق حرفاً.
غالباً ما يكون الأمر هكذا. شعراء، يموتون في الحياة وشعراء يولدون بعد الموت، ثم لا يموتون أبداً. في القرن التاسع عشر، قتلوا ذلك الشاعر العذب جون كيتس. كان ينتظر منهم كلمة اعتراف واحدة بشعره، لكنه لم يحصل عليها قط. تعبت رئتاه اللتان كانتا لا تتنفسان إلا شعراً. حلّ السل، ذلك المرض الانفعالي الذي قتل كثيراً من المرهفين، محل الشعر، وقتله بعد قتل النقاد وهو في السادسة والعشرين من عمره. لم يرثه أحد سوى صديقه بيرسي شيللي في قصيدته الخالدة «أدونيس». ومنذ ذلك التاريخ البعيد، 1821، حتى الآن، بعد قرابة القرنين، وهو يزداد قوة، حتى أصبح من أكثر الشعراء الإنجليز دراسة ونقداً. ولم يكن شيللي نفسه أحسن حالاً.
الكثير من النقاد يعتبرون ثلاثية الألماني روبرت موزيل «الرجل الذي لا خصال له» ملحمة القرن العشرين، رغم أنها كتبت في بداية ذلك القرن. والحقيقة أنه يمكن اعتبارها أيضاً ملحمة هذا القرن الذي نعيش، والذي لم نختم ربعه الأول بعد. لم يتغير شيء كثير منذ عصر موزيل.
لا يكف د. صلاح نيازي، وهو الآن في الثمانينات، عن العمل. وخلال السنوات العشر الأخيرة، راكم إنتاجاً غزيراً يجمع بين النقد والترجمة والدراسات والشعر. آخر إصدارته «فواخت باب الطاق» (دار المدى) شيء مختلف. عبر سنوات، ظل يلتقط من هذه المطبوعة أو تلك قطعة ما، ومن هذا الكتاب أو ذاك قصة منسية، ومن الزوايا المنسية شهادات عن ذلك البلد الذي لا يكف عن الألم. ألم يمتد طويلاً في الزمن، ودم لا يريد أن يتخثر، وكأنه عجن مع طينه منذ الخلق، ودمع لا يكفكف، ونار لا تخمد. قصص تعيد إنتاج نفسها منذ الأزل، يسكنها الحزن العراقي الذي يورثه جيل لجيل، والوجع التاريخي الذي يتناسل في الشوارع. لم تنته القصص بعد.
في مثل هذه الأيام من عام 1980، بدأت الحرب العراقية - الإيرانية، وهي من أكثر الحروب عبثية وغرابة في التاريخ الحديث، فلم تكن حتى حرباً بالمعنى المعروف، وإنما صراع بين ثورين وقودهما البشر. كان صدام والخميني، كما كتب الزميل أمير طاهري مرة في هذه الجريدة، «يتمتعان بقدر من الغرور في حجم جبل إيفرست ويعتقدان - في السر على الأقل - أنهما جهبذان في كافة مجالات النشاط البشري، وكان كلاهما يجدان ثناءً من الحاشية الخنوعة المحيطة بهما ووسائل الإعلام، كما جرى عدّ كل منهما شخصية معظمة تضطلع بمهمة المسيح المُخَلِص. كان صدام يعد ذاته بمثابة صلاح الدين الجديد.
«كم من الناس ما زالوا يقرأون القصائد، ومن هم هؤلاء؟»، تساؤل طرحه الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، الفائز بجائزة نوبل للآداب 1990 وأحد أبرز الشعراء في القرن العشرين، في كتابه «الصوت الآخر - مقالات في الشعر الحديث»، حسب الترجمة الإنجليزية، وترجمه إلى العربية الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان بعنوان «الشعر ونهاية القرن».
في مثل هذه الأيام، قبل عشر سنوات، قتلوا كامل شياع. كمنوا له في وضح النهار، في شارع بغدادي مزدحم. ترجلوا من سيارتهم بهدوء. أدوا المهمة كما يجب، وانسحبوا بهدوء. ما زالوا أحراراً بعد عشر سنوات. لم يكن كامل شياع مسؤولاً حكومياً أو حزبياً كبيراً، ليشكل خطراً على أحد. لكنه كان حالماً كبيراً، مثل كثير من المثقفين العراقيين، الذين دفعوا ثمناً خيالياً، قمعاً، وسجناً، ومنفى لمجرد أنهم يحلمون، ربما في الوقت الخطأ. وأتاحت الوظيفة لكامل كمستشار ثقافي أن يكون في قلب الصراع الدامي ضد قوى الظلام التي احتلت المشهد السياسي والفضاء الثقافي بعد 2003. وكالعادة، يحضر المسدس دائماً هنا.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة