فاضل السلطاني
لم تكن نبوءة تلك التي أطلقها جيمس بالدوين، الروائي، والشاعر، وكاتب المقالات، والمسرحي الأفرو - أميركي، في محاضرة له بكلية كمبرج البريطانية عام 1965: «لا مستقبل للحلم الأميركي إذا لم يشارك فيه الأميركيون الأفارقة. هذا الحلم، الذي كان على حسابهم، سيتحطم».
في التحقيق الذي ننشره هنا، يتحدث عدد من الكتاب العرب عن تجاربهم الخاصة، وهذه المرة في مواجهة الانتحار، أو بكلمة أدق فكرة الانتحار، التي قد تراود كثيراً من الكتاب في فترة ما لعوامل متباينة. ولحسن الحظ، إن الكتاب المنتحرين في تاريخنا الأدبي قليلون جداً، لأسباب كثيرة، وربما يكون العاملان الديني والاجتماعي في مقدمتها، فالانتحار فعل حرام، قد يجر على عائلة المنتحر تبعات عائلية واجتماعية كثيرة. وربما يكون «المختفون» الذين كتبنا عنهم سابقاً أكثر عدداً، وهو انتحار بشكل مختلف...
فن الاختباء، أو الفرار من الذات، والعالم في الوقت نفسه، هو جزء من التاريخ الأدبي منذ هوميروس. هو ليس زهداً، ولا عزلة. قد ينتمي إلى العائلة الكبيرة نفسها، لكنه ليس شقيقهما. الزهد والعزلة خياران واعيان إلى حد بعيد، يصدران عن عقل وفلسفة ورؤية، لذلك غالباً ما يأتيان متأخرين في عمر الحكمة والنضوج، كعزلة أبي العلاء مثلاً. الاختباء شيء آخر. قد يهجم فجأة، وفي أي لحظة. نفور لا يمكن تفسيره، أو الوقوف على سبب واحد من أسبابه.
كلما سقطت قامة ثقافية عراقية كبيرة في المنفى، تستيقظ الذاكرة، مصحوبة بغُصّة كبرى تخرج من بين الحشايا على وطن لا يجيد سوى طرد أبنائه، حتى إنه يتفنن في ذلك. لم يتوقف النزف العراقي؛ لا في ذلك العهد الذي سماه العراقيون «العهد البائد»، أو عراق نوري السعيد، والذي رمى رفعة الجادرجي؛ فيلسوف العمارة العراقية، الذي رحل قبل يومين، في زنزانة مشابهة للزنزانة التي رماه فيها صدام حسين، بعد ذلك بأعوام طويلة. يكتب رفعة الجادرجي في كتابه «بين ظلمتين»، عن زنزانة صدام حسين: «لا تَعْدُو سعة زنزانة (26) أكثر من متر وسبعين سنتيمتراً عرضاً، ومترين طولاً. نشعر بثقل الهواء بسبب حَشْر المعتقلين في ذلك الحيز الضيق.
لماذا ننسى كتابنا الراحلين سريعاً؟ استفهام مبتسر بعض الشيء، بالرغم من حقيقته الصارخة. والأجدر أن نتساءل: لماذا ننسى أنفسنا؟ من يقولون إن الماضي ما يزال يسكننا، وإننا مشدودون إليه، وإنه يحجب حاضرنا، ويمنعنا أن نرى ذواتنا الحقيقية، هم ينطقون بنصف الحقيقة. إنهم يتحدثون عن نصف ماضٍ لسنا مشدودين إليه فقط، بل مبهورون به، ونحيي عظامه وهي رميم كل يوم... نصف ماضٍ عتي، راسخ في الأرض، متسربل بتعاويذ سحرية، وخرافات، وأباطيل، نظل نغذيها ونتغذى بها، فكبرت حتى احتلت عقولنا ووجداننا، ونسينا أن هناك نصفاً آخر، بهياً، مشرقاً، ما إن يطل علينا به في لحظات نادرة حتى يسارعوا إلى وأده.
في منتصف الثمانينات، كان من المقرر أن تزور مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك، إحدى مناطق لندن. علم أحد أفراد «الجيش الجمهوري الآيرلندي» السري بالأمر. فاقتحم شقة بطلة القصة، التي ظنته أحد عمال السباكة. كانت شقتها تطل مباشرة على الساحة التي سيمر بها الموكب الرسمي. ثبت المسدس في فتحة في النافذة، بانتظار أن تأتي السيدة الحديدية. ثم، نكتشف أن صاحبة الشقة لا تقل كرهاً لثاتشر من الرجل الذي اقتحمها، واتخذها رهينة له. كره ثاتشر يوحدهما الآن، بل إنها مستعدة للقيام بعملية الاغتيال بدلاً عنه. «اذهب وأعدد الشاي، وأنا سأجلس هنا عند النافذة، وأهيئ المسدس».
المسألة الأساسية الأولى في كتاب ريتشارد وولين الضخم «غواية اللامعقول» - ترجمة محمد عناني، المركز القومي للترجمة، مصر - هي أن سحر الفاشية ليس مقتصراً على المجرمين والبلطجية، بل هناك كثير من المثقفين وكبار الكتاب وقعوا تحت سحرها، ومنهم جوفريد بن، ومارتن هايدجر، وكارل سميث، وفريدينان سيلين، ووليام بتلر ييتس. والمسألة الثانية، هي أن التفسيرات الماركسية القائمة على الأصول الاقتصادية للفاشية قد انهارت «وهو ما يقضي بضرورة إعادة النظر بصورة جادة في مسألة الأصول الفكرية للسياسات اليمينية المتطرفة». وهذا صحيح تماماً، ولكنه ليس استنتاجاً جديداً.
تطرق الناقد السعودي محمد العباس في مقال له منشور في هذه الصفحة يوم 28 يناير (كانون الثاني) إلى موضوع مهم غائب كلياً تقريباً في ثقافتنا العربية، وهو ندرة الكتابة عن المختبر الأدبي لكاتب ما، يكشف لنا فيه عن وعيه الأدبي، ومرجعياته، وخبراته الفنية، وتقنياته الأدائية، وفلسفته الجمالية.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة