د. سعد البازعي
تناولت، في مقالة سابقة، أثر مراكز البحث (المعروفة بالثنك تانك) في صناعة المعرفة السياسية بشكل خاص، والدور الذي تمارسه في الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة. وألمحت، في نهاية المقالة، إلى وضع البلاد العربية. ما أود إضافته حول منطقتنا محزن بطبيعة الحال، فمعظم الدول العربية تقع بكل أسف في آخر القائمة، فيما يتعلق بضخامة أو تأثير المراكز البحثية، بالمقارنة مع الدول الغربية وإسرائيل. هناك عدد لا بأس به من هذه المراكز، وهو عدد يتنامى، لكن العدد ليس المهم هنا، كما أشرت.
كثيراً ما يوصف عصرنا بأنه عصر المعلومات، وهو بالتأكيد كذلك. الإنترنت والاتصالات بأنواعها، من إعلامية إلى هاتفية إلى شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها، كل ذلك خلق أوضاعاً غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وأتاح للجميع قدراً هائلاً من المعلومات التي يمكن الوصول إليها وتخزينها وتبويبها وإعادة إرسالها، إلى غير ذلك من سبل إدارتها والإفادة منها. لكن التعرف على هذه الحقيقة الواضحة، والإعلان عنها باستمرار، كثيراً ما يؤدي إلى نسيان ثلاثة أمور أساسية: الأول، أن نصيب الشعوب أو الدول والأفراد من المعلومات المتاحة ليس متساوياً.
في السعودية ودول الخليج، هناك شعر شعبي وشعر نبطي. وفي بلاد عربية أخرى، هناك شعر عامي وشعر حميني وزجل، إلى جانب أسماء وتصنيفات أخرى. ومدار هذه الأسماء والتصنيفات هو أحد اثنين: اللغة التي كتبت بها القصيدة، أو الخلفية الاجتماعية التي تنتمي إليها. وهناك خلاف ومعارك حول أي تلك التصنيفات أو الأسماء هو الصحيح. أما الضائع المنسي في ذلك الخضم، فهو في الغالب الشعر نفسه: تضيع أدبية الكلام، جمالياته، سماته الفنية، في خضم الانشغال بصحة أو عدم صحة هذا الاسم أو ذاك. طبعاً هناك من لا يعنيه ذلك كله، وهم السواد الأعظم، إما لأنه يؤمن بصحة اسم أو تصنيف معين، أو لأن المسألة برمتها لا تعني له شيئاً.
حضرت أخيراً في الرياض معرضاً للفنانة التشكيلية السعودية نجلاء محمد السليم، قدمته للجمهور تحت عنوان «روح المدينة»، وتضمن لوحات ترتسم فيها معالم لمدن تقترح على المشاهد قراءتها من خلال ذلك العنوان، أو من خلال ما يتراءى له/ لها من زوايا مختلفة، لا سيما أن من اللوحات ما حمل توجهات يصعب اختزالها تحت عنوان محدد. اللوحات التي حملت روح المدينة جاءت ممثلة لموضوعها من خلال خطوط لبنايات متراصة ومضغوطة بين خطوط أفقية من أعلى ومن أسفل تكاد تحاصر البنايات، لتشكل بذلك ما يبدو وكأنه تحدي الطبيعة للحياة المدنية.
في معارض الكتب العربية عدد من الأسماء الخاطئة والهموم العالقة: هي أولاً ليست معارض؛ بل أسواق كتب. فكما هي معظم عناصر الحياة العربية بوجوهها المختلفة: السياسية والثقافية... إلخ، ولدت معارض الكتاب لأن لها نموذجا مسبقا في الغرب، أوروبا تحديداً. لكن مفهوم معرض الكتاب تغير بمجرد دخوله الأفق الثقافي العربي؛ واقع النشر والتأليف، وواقع توفر الكتاب، وما يحيط ذلك كله من سياسات وتوجهات فكرية ومذهبية وظروف اقتصادية وغيرها. معرض الكتاب في الإنجليزية هو Book Exhibit ومعارضنا، ربما باستثناء معرض أو معرضين، ليست لعرض الكتب، كما يشير اسمها، وإنما لتسويقها وشرائها، أو العرض بغرض التسويق.
أعلن قبل أيام عن مشروع ترفيهي ضخم في مدينة الرياض يضم ألواناً من المناشط ووسائل الترفيه التي طال انتظارها في مدينة ضخمة ظلت، كما هي المملكة بشكل عام ولسنوات طويلة، محدودة في منافذ الترويح عن النفس. يقع المشروع جنوب غربي المدينة في مكان يعرف بـ«القدِّيَّة» وعلى مساحة تبلغ 334 كم2. المشروع ضخم ولا يتوقع انتهاؤه قبل خمسة أعوام. وكان مما استرعى الانتباه، انتباهي على الأقل كمراقب للمشهد، بل وأبهجني بشكل خاص في هذا المشروع العملاق، أنه تضمن كلمة «ثقافة» ضمن عناصره، فقد ذكر أنه سيكون «أكبر مدينة ثقافية وترفيهية ورياضية في المملكة». الثقافة أتت بارزةً، ما يوحي بأن لها أهمية خاصة.
أحداث في الرياض لم يكن المرء يتخيلها قبل أشهر فقط وليس قبل سنوات. حفلات غنائية عربية لمطربين سعوديين، وحفلات موسيقية وغنائية أيضاً لفرق أجنبية، ثم مؤخراً لأوركسترا يابانية في الرياض، تلاها قبل أيام حفل لعازف البيانو الهنغاري بوغاني. الحفلات العربية غنى بها مطربون لم يغنوا في الرياض منذ ما يقارب الربع قرن أو يزيد، أي منذ حلت على البلاد ظاهرة التشدد التي حرمت كل مظهر للترفيه. محمد عبده وراشد الماجد ورابح صقر وغيرهم مطربون عرفتهم دبي والكويت والقاهرة وغيرها أكثر مما عرفتهم المدن السعودية. والطريف أن معظم الجمهور الذي كان يحضر لأولئك جمهور سعودي.
منذ تعرفت على أعمال الشاعر الآيرلندي وليام ييتس أيام الدراسة الجامعية وأنا لا أتوقف عن العودة إليه بين الحين والآخر، حتى أصبحت المقالات والأوراق البحثية التي كتبت حوله تلفت النظر لكثرتها بالنسبة لما كتبته عن غيره. والحق أن الكتابة عن ذلك الشاعر الكبير لا تحتاج إلى تبرير؛ فأهميته الإبداعية ليست محل شك، لكن اهتمام ييتس، الذي عرفته في مرحلة لاحقة، بالثقافة العربية ثم ما تبين لي من مواقفه السياسية والثقافية في مواجهة الاحتلال الإنجليزي لآيرلندا، الذي ران على تلك البلاد طوال ما يقارب الـ120 عاماً تخللتها ثورات وأعمال مقاومة انعكست في الأدب والفن، وكان لييتس نصيب فيها.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة