الموسيقى في الرياض... انفتاح على فنون العالم

مدن ومناطق أخرى تنتظر دورها لتسمع وتشاهد ما سمعه وشاهده أهل العاصمة

الأوركسترا اليابانية في الرياض
الأوركسترا اليابانية في الرياض
TT

الموسيقى في الرياض... انفتاح على فنون العالم

الأوركسترا اليابانية في الرياض
الأوركسترا اليابانية في الرياض

أحداث في الرياض لم يكن المرء يتخيلها قبل أشهر فقط وليس قبل سنوات. حفلات غنائية عربية لمطربين سعوديين، وحفلات موسيقية وغنائية أيضاً لفرق أجنبية، ثم مؤخراً لأوركسترا يابانية في الرياض، تلاها قبل أيام حفل لعازف البيانو الهنغاري بوغاني. الحفلات العربية غنى بها مطربون لم يغنوا في الرياض منذ ما يقارب الربع قرن أو يزيد، أي منذ حلت على البلاد ظاهرة التشدد التي حرمت كل مظهر للترفيه. محمد عبده وراشد الماجد ورابح صقر وغيرهم مطربون عرفتهم دبي والكويت والقاهرة وغيرها أكثر مما عرفتهم المدن السعودية. والطريف أن معظم الجمهور الذي كان يحضر لأولئك جمهور سعودي. كأن السعودية على موعد مع وجه من وجوهها الفنية لكن خارج حدودها. يذهب المطربون ويذهب الجمهور في مواعيد للترفيه تضرب خارج أسوار الوطن. ومع الجمهور كانت تذهب الملايين في شكل مصاريف سياحية أسهمت في نهضة المدن والبلاد التي يعمرها السعوديون أفراداً وعائلات، في رحلة البحث عما يبهج وإن خالف تعاليم الدعاة وتحذيرات الوعاظ.
وأخيراً برز تطور آخر بمجيء الفرق الموسيقية والمطربين من غير العرب، فظهر إقبال آخر ربما اجتذبته طرافة الحدث وغرابة التطور أكثر مما شدته معرفة الموسيقى الأوركسترالية أو مقطوعات الكونشرتو التي امتلأت بها قاعات الاحتفالات. حدث ذلك في جدة وفي الرياض، ولا تزال مدن ومناطق أخرى تنتظر دورها لتسمع وتشاهد ما سمعه وشاهده أهل المدن.
في حفل بوغاني في الرياض كان الجمهور أقرب إلى النخبوي، وهو ما يتوقع من موسيقى بيانو تملؤها معزوفات شوبيرت وموزارت وشوبان. ومع أنه من غير المؤكد أن الحاضرين كانوا جميعاً أو حتى غالباً ممن يألفون ما صافح آذانهم من مؤلفات، وطريقة في العزف؛ حيث إن لحظات الإنصات التي كانت تنافس الموسيقى في الحضور وعلو الصوت حملت دلالات بعيدة على الرغبة في التآلف مع الآخر، ومع المختلف وإن صعب تذوقه أحياناً.
اللافت في تلك الأمسيات المختلفة في الحياة الفنية والثقافية بالرياض أنها كانت مصحوبة بانفتاح اجتماعي قد يراه البعض في بلاد عربية أخرى طبيعياً أو بديهياً، لكنه ليس مألوفاً بالتأكيد وخاصة من أولئك ذوي الرؤية المتزمتة للدين وللحياة الاجتماعية. وفي المقابل أتى الناس رجالاً ونساءً يجلسون في القاعات والمسارح لا يصدر عن أحد ما يسترعي الانتباه من الممارسات الشائنة، بل بالعكس كان التحضر هو الطاغي في أسلوب التعامل سواء مع الآخرين أو مع الأداء. ولعل من الطبيعي أن يسود ذلك بين الفئة التي حضرت الحفلات الموسيقية الغربية، وقد شاهدت إحداها وهي حفلة بوغاني التي لم تختلف عن أي حفلة في بودابست أو لندن إلا في الزي الوطني. جلس الجميع معاً وتحدثوا واختلطوا ولم يحدث منكر، بل كان المنكر ألا يكون المرء مهذباً أو منصتاً لعذوبة العزف وجمال المكان.
قلت قبل قليل إن بعض من حضروا حفل البيانو في الرياض ربما لم يأتوا لأنهم يتذوقون البيانو أو الموسيقى التي عزفت لهم، وأضيف أن أولئك البعض ربما أراد أن يثبت أنه متحضر أو أنه لا يقل تحضراً عن الأوروبيين. ولربما أراد البعض أن يؤكد بحضوره سعادته بالتطور الحادث، ورفضه لما فرض عليه من قيود زمناً طويلاً. لربما أن أولئك لم يأتوا من أجل الموسيقى وإنما لتسجيل موقف اجتماعي وحضاري في المقام الأول، سواء بالاستماع أو الاختلاط. وقد يرى البعض أن تلك سمة اجتماعية لا توجد إلا في مجتمعات «مغلقة» أو شديدة المحافظة. وكنت من ذلك البعض إلى أن قرأت شيئاً لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو حول أنماط التفاعل الثقافي والفني في أوساط المجتمع الفرنسي. يقول بورديو ما ملخصه إن الناس تتفاوت في بلد مثل فرنسا في تلقيها للفنون والآداب. فثمة فرق بين تلقي فئة المتعلمين تعليماً عالياً، أي النخبة، وتلقي من هم أقل من ذلك حتى نصل إلى مستوى العمال والفلاحين. كل فئة من تلك لها اختياراتها وتسعى في الوقت نفسه لتأكيد مكانتها الاجتماعية من خلال ما تشاهد وما تسمع وما تقرأ.
الفروق الاجتماعية أو الطبقات تعلن وتترسخ من خلال أنماط التفاعل مع الفنون والآداب. ويتوصل بورديو إلى نتائجه تلك بعد بحث ميداني استغرق زمناً طويلاً؛ بحث أفرز إحصائيات طويلة ومعقدة، وتطلب قراءة متأنية ليس هذا موضع الدخول في تفاصيلها. لكن القارئ سيكتشف أن ما يحدث في فرنسا ليس ببعيد عما يحدث في أماكن أخرى. فمن يرفض حضور حفل غنائي شعبي ربما يود في داخله لو حضره، ولكنه يفضل بدلاً من ذلك أن يحضر حفل أوركسترا أو أوبرا ليؤكد انتماءً أو هوية ويعلن طبقة وموقفاً. وهذا أمر لا غبار عليه، لولا أنه يختلط أحياناً ببعض الادعاء وغير قليل من التنكر للميول الحقيقية والموقع الفعلي للإنسان، بالإضافة إلى السعي لتحقيق مصالح اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها.
إعلان المواقف تجاه المجتمع أو الفنون ليس ما يهم عالم اجتماع إلا بقدر ما يؤدي إلى زيادة المعرفة. هو غير معني بالتقويم وإصدار الأحكام - مع أنه لا مفر منها - بقدر ما يهمه الكشف عن الآليات التي تحرك الحياة الاجتماعية والثقافية في اشتباكاتهما وفي الشبكة المعقدة من الدلالات التي يمكن اكتشافها من خلال مناهج التحليل ومفاهيمه. وهذا اللون من البحث مهم لمجتمعات وثقافات تريد معرفة نفسها أكثر مما هي معنية بتقويم ما يحدث. غير أن التقويم يظل ضرورياً في تقديري لمجتمعات لا تزال في طور النمو. المعرفة والتقويم ضروريان ولا يغني أحدهما عن الآخر. ومن هنا كان ضرورياً أن ينظر إلى ما يحدث في السعودية الآن من ضخ كم لا بأس به وغير مسبوق من الترفيه الذي كان ممنوعاً، وكيفية تفاعل الناس معه بوصفه تطوراً لافتاً وجميلاً بشكل عام، لكن من دون التخلي عن قراءة دلالاته الاجتماعية والثقافية. فليس الناس بدعاً إن هم، مثلاً، تظاهروا بالإعجاب بأوركسترا؛ لأن ذلك تصرف متوقع في مجتمع يعيد ترتيب صفوفه أمام متغير يضع ذلك المجتمع على محك الاختبار. النخبة التي تحضر الأوركسترا أو تحضر عزفاً على البيانو لا تأتي فقط لإعجابها بالموسيقى، وإنما لتعلن موقفاً من تغير اجتماعي تراه مطلوباً بل وضرورياً، تماماً مثل من يعبر عن استيائه من ذلك النشاط وهم كثر، كانوا وما زالوا.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.