هند مودي... القومية بدل الإصلاح؟

جعل من «عدم الانحياز» ذكرى بعيدة بتعزيزه العلاقات مع واشنطن وتل أبيب

هند مودي... القومية بدل الإصلاح؟
TT

هند مودي... القومية بدل الإصلاح؟

هند مودي... القومية بدل الإصلاح؟

رافقت راما نيغام في يوليو (تموز) 2015 عُمّالاً إلى بيت جدتها في قرية موخراي بولاية أوتار براديش المكتظة، لتشرف على بناء دورة مياه، في إطار برنامج «الهند النظيفة» الذي أطلقه رئيس الوزراء ناريندرا مودي. وتعهد مودي في حملته الانتخابية لعام 2014 بتزويد 60 مليون بيت بدورات مياه صحية، تحافظ على نظافة المدن والقرى وتحارب تلوث المياه وانتشار الأوبئة في مناطق الهند الفقيرة، ما يؤدي إلى 80 في المائة من حالات المرض وإلى موت أطفال تحت سن الخامسة، بحسب منظمة «يونيسيف».
اليوم، بعد سنتين على دخول دورة المياه بيت جدة نيغام، وقبل أيام من الذكرى السبعين للاستقلال، تعتبر الشابة العشرينية أن رجل الهند القوي متقدم في برنامج الإصلاحات الغني الذي وعد به مواطنيه، مبدية رغم ذلك تخوفاً مما اعتبرته احتقاناً للتوترات بين مختلف مكونات المجتمع (خصوصاً الهندوسية والمسلمة منها) وازدياد الجدل حول جرائم القتل بتهمة «امتلاك لحم البقر»، وبطالة الشباب.
نجح مودي في اكتساب شعبية قد تكون الأكبر منذ عقود في الهند، فحزب الشعب الحاكم «بهاراتيا جاناتا» يتمتع بغالبية كبيرة في الغرفة السفلى في البرلمان، ويسيطر على معظم الولايات الكبيرة في البلاد. كما فاز بانتخابات محلية عديدة، ويتوقع أن يفوز في الانتخابات العامة لعام 2019، فيما تجد المعارضة نفسها يائسة وغير قادرة على تحقيق أي انتصار تشريعي مؤثر.
في الوقت الذي يسجل فيه الاقتصاد الهندي تباطؤاً بنمو لم يتجاوز 6.1 في المائة حتى مارس (آذار) الماضي، يرى المراقبون أن الظروف السياسية والاقتصادية ملائمة أكثر من أي وقت مضى لتحقيق حكومة مودي سلسلة الإصلاحات التي انتُخِب على أساسها. وتشمل هذه إلى جانب مشروع «الهند النظيفة» بحلول 2019، إصلاح قانون الإفلاس واعتماد ضريبة موحدة على السلع والخدمات وتعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر. وبينما حقق مودي عدداً من وعوده الاقتصادية، كتوحيد نظام الضرائب على السلع وقانون الإفلاس، لم يُقنِع أداؤه المراقبين الدوليين بعد تراجع الهند إلى المرتبة الثانية كأسرع نمو في العالم لاقتصاد كبير، بعد الصين. ورأت مجلة «إيكونوميست» البريطانية أن هذه الخطوات، رغم كونها مهمة، تبقى بسيطة أمام التحديات الاقتصادية الحقيقية كنظام مالي تسيطر عليه مصارف حكومية مثقلة بالديون، ما أدى إلى تراجع الإقراض لقطاع الأعمال إلى أدنى مستوياته في عشرين عاماً، وصعوبة شراء الأراضي، وقوانين العمل «المتصلبة».
ورأى غورشوران داس، وهو محلّل اقتصادي هندي تحدث إلى صحيفة «الغارديان» البريطانية، أن قرار مودي سحب الأوراق النقدية من قيمة 500 و1000 روبية «تسبب بتراجع حاد في قطاعات الصناعة والبناء، ما جعل مهمة خلق فرص عمل للخريجين الجدد صعبة للغاية».
وبهذا الصدد، كان رئيس الوزراء الهندي السابق مانموهان سينغ قد انتقد، العام الماضي، حكومة خلفه لفشلها في استغلال أسعار السلع المنخفضة لتعزيز النمو الاقتصادي. وقال سينغ لمجلة «إنديا توداي» في مقابلة إن «حكومة مودي يجب أن تستغل تحسّن الأوضاع المالية في الهند، لتعزيز الاستثمار في الاقتصاد وزيادة التوافر الائتماني للشركات». وأضاف سينغ الذي يعتبر مهندس الإصلاحات الاقتصادية التي أدت إلى سنوات من النمو السريع، أن «الحكومة لم تتمكن من الاستفادة من تراجع أسعار النفط وأسعار السلع التي خفّضت فاتورة الواردات الهندية».
ويبدو أن تراجع النمو وفرص العمل لم يؤثر على شعبية مودي داخل حزبه، إذ يتكئ على سياسات يعتبرها البعض قومية، كإصداره قرار حظر بيع الأبقار لحمايتها من الذبح، وهي خطوة جمّدتها المحكمة العليا.

صعود القومية الهندوسية على حساب العلمانية
لم تقتصر الانتقادات لأداء مودي في رئاسة الوزراء الهندية على هفوات أدائه الاقتصادي، بل عبّر كثيرون في الداخل والخارج عن قلقهم من تنامي العنف في كشمير الهندية، وتكرر حوادث عنف من قوميين هندوس ضد مواطنين بحجة أكلهم لحم البقر أو بيعه، ما أدى إلى مقتل عشرات المسلمين. وأدى تعيين رئيس الوزراء لرجل الدين الهندوسي المتشدد يوغي أديتيانات في منصب الوزير الأول لولاية أوتار براديش إلى جدل واسع في البلاد، نظراً إلى تعليقات الأخير الإقصائية والمسيئة للمسلمين، وإعلانه في أحد التجمعات الشعبية عن استعداده لـ«حرب ديانات».
وخلال عهده، أصبح التعصب سمة بارزة في الحياة السياسية، ما اعتبرته إحدى افتتاحيات صحيفة «نيويورك تايمز» تهديداً لأساس الدولة العلمانية والديمقراطية الهندية. ودعت مؤسسات المجتمع المدني الهندي ونجوم بوليوود أمثال شاروخان وأمير خان وغيرهما، إلى الابتعاد عن سياسات التعصب.
وخلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، دعا السيناتور الديمقراطي تيم كاردين رئيس الوزراء الهندي إلى مواجهة التعصب الديني في بلاده، وعمليات القتل الخارجة على القانون وتفشي الفساد.
ويرجع البعض هذا التوجه السياسي الداخلي لمودي، الذي أكسبه سلطة كبيرة داخل حزبه «بهاراتيا جاناتا» وفي البرلمان، إلى تاريخه السياسي. وبرز بائع الشاي السابق في محطة فادناغر للقطارات داعماً لحركة اجتماعية يمينية هندوسية في السبعينات، نقلته عام 1988 إلى «حزب الشعب الهندي» الذي انتُخِب أميناً عاماً له عام 1998 في ولاية غوجارات.
وفي عام 2001، انتخب مودي رئيساً للولاية التي شهدت أحداث شغب بين الهندوس والمسلمين راح ضحيتها أكثر من ألف شخص، معظمهم من المسلمين، وانتقد فيها لعدم القيام بما يكفي لوقف الاشتباكات. ورغم تبرئته من محكمة عليا، فإن مودي لا يزال يتعرض لانتقاد شديد لعدم اعتذاره عما حصل.

ذكرى «عدم الانحياز» والتقارب مع أميركا
أعلن مودي في مقال رأي له نُشِر بصحيفة «وول ستريت جورنال»، قبل يوم من لقائه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في واشنطن، أنه واثق من نمو التقارب بين الهند والولايات المتحدة. وعزا الثقة إلى «قوة قيمنا المشتركة واستقرار أنظمتنا»، مشيداً بزيادة «التقارب» بين المصالح والمثل الهندية - الأميركية.
لم تأتِ هذه العبارات المرحِّبَة بتقارب أميركي - هندي من فراغ، إذ شرع مودي منذ تسلُّمه رئاسة الوزراء في 2014 في إعادة هيكلة دور الهند في آسيا، طامعاً في مواجهة النفوذ الصيني في المنطقة عبر تعزيز علاقاته بواشنطن. ويوضح الزميلان هارش بانت ويوغيش جوشي في معهد «تشاتام هاوس» البريطاني، أنه على عكس الحكومات السابقة، يقود مودي «سياسة إعادة انحياز» تضع دلهي ضمن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. ويتابع الباحثان في دراسة تحليلية للعلاقات الأميركية - الهندية أن توجّه مودي المخالف لسياسات الحكومات السابقة يعود إلى ثلاثة عوامل: الأول يتعلّق باقتناع القائد الهندي بأن طموح بلاده الاقتصادي لن يتحقق بمعزل عن تعاون وثيق مع الولايات المتحدة. أما الثاني، فيعود إلى القوة التي يتمتع بها داخل حزبه الحاكم وفي الغرفة السفلى للبرلمان، فيما يتعلق الأخير بالمتغيرات الأمنية على الحدود الهندية التي رافقت سياسات الصين العدوانية ودعمها الاستراتيجي لباكستان.
منذ نهاية الحرب الباردة، أكدت الحكومات الهندية المتعاقبة التزامها بعلاقات جيدة مع واشنطن، إلا أن توازن القوى السياسية داخل الهند وبقايا سياسات حركة عدم الانحياز لم تشجعها على تحقيق تقارب وثيق مع الحليف الغربي وإبداء قطيعة تامّة مع السياسة الخارجية المعتمدة منذ سنوات.

تودد استراتيجي لإسرائيل
في سياق آخر، شكّلت زيارة مودي إلى إسرائيل الشهر الماضي سابقة، إذ جعلت منه أول رئيس حكومة هندي على الإطلاق يزور تل أبيب. كما أنه لم يسافر إلى رام الله ولم يلتقِ الزعماء الفلسطينيين، كما هي العادة مع الزوار البارزين. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو زيارة مودي بأنها «تاريخية»، وقال إنها «ستعمق التعاون في عدد واسع من المجالات، بينها الأمن والزراعة والمياه والطاقة».
واعتبر كثير من المراقبين هذه الزيارة نقطة تحول في موقف الهند إزاء إسرائيل. فعندما يتعلق الأمر بالعلاقات الهندية - الإسرائيلية، فمن الصعب تماماً تجاهل القضية الفلسطينية، إذ بدأ التضامن الهندي مع الشعب الفلسطيني منذ عهد الراحل نهرو. وأدى قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في عام 1947 إلى نشوب الصراع غير المنتهي في منطقة غرب آسيا. وصوتت الهند ضد قرار تقسيم فلسطين الذي مهد الطريق لإنشاء دولة إسرائيل.
ورفضت دلهي إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل لأكثر من أربعة عقود حتى عام 1992. ورغم التحول في موقف رئيس الوزراء الهندي السابق بي في ناراسيمها راو، فإن الهند ظلت في طليعة الدول الداعمة للقضية الفلسطينية، حتى بعد إقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة على مستوى السفراء مع تل أبيب. وفي الواقع، رفض رئيس الوزراء السابق أتال بيهاري فاجبايي، حين كان زعيماً لحزب «بهاراتيا جاناتا» الهندي الحاكم وقتذاك، الطلب الإسرائيلي بأن تدرج الهند حركة «حماس» على قائمة المنظمات الإرهابية. لكن الأمر برمته تغير في عام 2014 بعد تولي حكومة الحزب نفسه الحكم في الهند تحت قيادة مودي.
وبمرور السنين، خففت الحكومات الهندية المتعاقبة من حدة لهجتها حيال المعاملة الإسرائيلية للفلسطينيين. ولم تعد الهند تقدم مشروعات القرارات المعادية لإسرائيل في الأمم المتحدة، واتخذت محاولات جادة لتلطيف قرارات حركة عدم الانحياز ضد الدولة العبرية.
ورغم اختلافهما حول القضية الفلسطينية، فإن الهند وإسرائيل عملتا، على مدى سنوات، عن كثب في القضايا الدفاعية، وكانت الهند من المشترين المنتظمين للسلاح من إسرائيل. والهند التي تعمل لتحديث جيشها لمواجهة باكستان والصين، هي أكبر سوق للسلاح الإسرائيلي، ويُعتَقَد أنها تشتري من تل أبيب أسلحة تبلغ قيمتها السنوية مليار دولار، حسب وكالة «رويترز».
ولمودي في هذا التوجه دور كبير، إذ ربطته علاقات طويلة مع إسرائيل التي زارها عندما كان رئيساً لوزراء ولاية غوجارات الهندية في 2006. وحين تولى رئاسة وزراء البلاد التقى مع نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العام للأمم المتحدة في دورتها السنوية التي عُقِدت العام الماضي.
ويقول مراقبون إنه من الناحية الآيديولوجية، ينتمي نتنياهو ومودي إلى المدرسة القومية ذاتها، فكلاهما يؤمن بالقومية وبـ«أصالة» عرقيهما وثقافتيهما وديانتيهما، في حين كانت القيادة الهندية السابقة تؤمن بالتنوع. ويتابع أن السبب الثاني لاهتمام مودي الفائق بإسرائيل هو أنه يعتبرها «مفتاحاً لأميركا»، ويود تحقيق توازن في ترسانة بلاده العسكرية التي تتكئ اليوم بشكل كبير على روسيا. في الوقت نفسه، يعتبر مودي أن دول الشرق الأوسط تميل إلى باكستان أكثر من الهند لاعتبارات دينية، وأن الوجود الباكستاني في الجيوش العربية كبير. ويحاول مواجهة هذا التقارب كذلك بالميل إلى إيران، عبر الاستثمار في مشاريع اقتصادية كبيرة، مثل مشروع تشابهار جنوب محافظة بلوشستان.

المعادلة الهندية - الصينية وتهديد التصعيد
لا يكون الحديث عن مكانة الهند في المنطقة كاملاً من دون التطرق إلى المقاربة الهندية - الصينية الاقتصادية والأمنية والسياسية. فالصين هي ثالث أكثر دولة في العالم تتشارك حدودها مع دول مجاورة، بعد روسيا وإيران، وتعاني من مشكلات حدودية متفاوتة الحدة مع معظم «جاراتها». وقارن أحد المحللين المخضرمين الصين بـ«جزيرة» ليست محاطة بالبحر، بل بخصوم. وتسعى بكين إلى الخروج من هذه العزلة بأسلوبين اثنين؛ الأول عبر الاستثمار في مشاريع اقتصادية بدول الجوار، وأبرز مثال على ذلك هو طريق الحرير الجديد الذي يُقيَّم بنحو تريليون دولار، ويهدف إلى تشييد سكك حديدية تمر عبر بلدان عدة ومشاريع اقتصادية في قرغيزستان وكازاخستان وتركمنستان وباكستان وغيرها.
في الوقت ذاته، يتخوف الصينيون من إحياء العلاقة الوثيقة التي جمعت روسيا والهند في الستينات، حيث قامت حروب بين هاتين الدولتين والصين. فانتصر الروس في حربهم على الصينيين وغزوا أراضي شاسعة على طول نهر أوسوري. وفي المقابل، خسرت الهند أمام الصين في عام 1962 أراضي في كشمير وشمال بوتان وغيرهما. ولا تزال فكرة الانتقام لهذه الحروب حاضرة في أذهان القادة الهنود، ويغذي هذا الطموح الدعم الصيني القوي لباكستان، عدو الهند الأول.
يُشار إلى أن بكين بدورها تتخوف من الصعود الهندي لأسباب عدة، أحدها يتعلّق بالنمو الديموغرافي. ففي وقت اعتمدت بكين سياسة الطفل الواحد، لم تتدخّل نيودلهي في تحديد النسل، وهي اليوم في طريقها لتصبح الدولة الأكبر في العالم من حيث عدد السكان الشباب.
أما التخوف الصيني الآخر، فيكمن في النموذج الاقتصادي. تعتمد الصين بالدرجة الأولى على تصدير منتجات رخيصة الثمن إلى الخارج، وتساعدها في ذلك التكاليف المنخفضة لليد العاملة. أما الهند، فتعتمد على نظام اقتصادي يقوم على إشباع السوق المحلية الضخمة أولاً ثم تصدير ما تبقى إلى الخارج.
النقطة الثالثة والأخيرة هي أن ديمقراطية الهند تقلق الجارة الصينية ذات الحزب الواحد، خصوصاً أن وسائل التواصل الحديثة تتيح للصينيين الاحتجاج ضد نظامهم السياسي والمطالبة بتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وحرياتهم.
وفيما يُعتبر رداً صينياً على «التهديد» الهندي، اعتمدت بكين سياسة تكاد تكون استفزازية تجاه نيودلهي عبر «طريق الحرير الجديد» الذي يشكل، في نظر الهنود، مشروعاً لتطويق البلاد عسكرياً، إذ إن الصين ستصبح موجودة غربَ الهند فضلاً عن شمالها وشرقها.
بالإضافة إلى ذلك، شرعت بكين في بناء طريق عسكرية بالقرب من بوتان ستسهل اجتياح هذه المملكة الصغيرة، ما يتيح الوصول إلى الحدود الشرقية الهندية. وفي هذا الصدد، طالب الزعيم الروحي للتبت الدالاي لاما، الأربعاء الماضي، الصين والهند، بالعمل على حل المواجهة الحدودية بينهما من خلال الحوار، بعد أن أظهر الخلاف المتسارع غياب أي إشارة لتخفيف التوتر. وقال حامل نوبل في العاصمة الهندية إن «هذا (الحوار) هو السبيل الوحيد». ونقلت عنه وكالة أنباء «برس تراست» الهندية أن «تراجع طرف وهزيمته هو تفكير قديم. في الأزمنة الحديثة كل بلد يعتمد على الآخر»، لافتاً إلى أن «تدمير جارك هو تدمير لذاتك، على الهند والصين أن تتعايشا جنباً إلى جنب». ويعيش الراهب البوذي البالغ 82 عاماً في المنفى في الهند منذ هروبه، إثر انتفاضة فاشلة في التبت قبل 60 عاماً. ويعتبر وجوده في الهند منذ وقت طويل مصدر توتر في العلاقة الشائكة أساساً بين دلهي وبكين.
وتمركزت القوات الهندية في الأيام الماضية في مواجهة القوات الصينية في هضبة نائية، لكنها مهمة استراتيجياً في الهيمالايا، حيث تلتقي أراضي الهند والصين وبوتان. وتعطي الهضبة الصين مدخلاً إلى ما يسمى «عنق الدجاجة»، وهي قطعة ضيقة من الأرض تصل ولايات الهند الشمالية الشرقية ببقية البلاد. ويستعر الخلاف الحدودي منذ أكثر من شهر بعد رفض دلهي وبكين التراجع في هذه الهضبة البعيدة.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».