60 كاتباً عربياً يتحدثون عن أمهاتهم

حين تصبح الأحزان الذكريات المفضلة عند الأبناء

60 كاتباً عربياً يتحدثون عن أمهاتهم
TT

60 كاتباً عربياً يتحدثون عن أمهاتهم

60 كاتباً عربياً يتحدثون عن أمهاتهم

في كتاب ظريف الفكرة، بديع التصميم والإخراج، دوّن نحو 60 كاتباً من جنسيات مختلفة، بعضهم قد تعرفهم وآخرون أقل شهرة، شهاداتهم في أمهاتهم، في إجابة عن سؤال أولي: «ماذا عليك أن تفعل لتجعل أمك فخورة بك؟».
من المشاركين الناقد صلاح فضل، والكاتب محمد منسي قنديل، والدكتورة منى مكرم عبيد، من مصر، والروائي واسيني الأعرج من الجزائر، والروائية علوية صبح من لبنان، والروائية لينا هويّان الحسن من سوريا، والروائي طالب الرفاعي من الكويت، والأديب عبد الملك مرتاض من الجزائر، والشاعرة والإعلامية بروين حبيب من البحرين... وغيرهم، إضافة إلى عدد من عضوات «صالون الملتقى الأدبي» في أبوظبي صاحب فكرة الكتاب المنشور في «دار الآداب» ببيروت. ومن هؤلاء الشيخة شما بنت محمد بن خالد آل نهيان، رئيسة مجلس إدارة «مؤسسات الشيخ محمد بن خالد آل نهيان»، والشاعر الدكتور شهاب غانم، والأديب ناصر الظاهري، والشاعر كريم معتوق، والكاتب سعيد حمدان، مدير جائزة الشيخ زايد للكتاب، والكاتب سلطان العميمي، مدير أكاديمية الشعر، والفنانة التشكيلة خلود الجابري، والكاتبة الصحافية عائشة سلطان... وغيرهم.
ورغم أن الغالبية الساحقة أشادت بالأم ورسمت الملامح الوجدانية للعلاقة مع الوالدة، فإن البعض ذهب إلى أماكن أكثر حساسية وصراحة، مثل الروائية مريم الغفلي، من الإمارات، التي رأت أن أمها كان من الصعب أن تفتخر بها «لأنني اكتشفت أنني لا أفهم محيطي، أو أن محيطي لا يفهمني... أمي قد تكون فخورة بي كأم وزوجة ناجحة، وما عدا ذلك، فلست أملك سوى الأفكار التي لا تفهمها، وهي التي كانت دائمة التذمر من كثرة قراءاتي. ترمي سبب اختلافي عن المحيط إلى الكتب التي كانت تراها شراً أطاح بعقلي».
تبدو الأمهات كلهن صنفاً واحداً وأنت تمر على صفحات الكتاب؛ متفانيات، يملكن حباً لأولادهن، وقدمن تضحيات لا سقف لها. وربما تختصر الكاتبة الإماراتية فاطمة محمد الهديدي الدرمكي هذا المعنى بعبارتها: «أمهاتنا لسن كباقي البشر، يمنحننا من طاقاتهن حتى تخور قواهن، ومن ألقهن حتى تخور أوداجهن»، وهنادي الصلح بعبارة: «أمي ليست كباقي الأمهات».
لكن الأكثر لفتاً للانتباه هو أن صورة الأم العربية التقليدية، كما هي في الكتاب، مشوبة دائماً بالحزن والدمع والألم، وكأنما في استعادة هؤلاء الكتاب أمهاتهم صعوبة في الفصل بين حياتهم الخاصة وتلك التي تشاركوها معهن في طفولتهم، ومن ثم تكرار الحديث عن شخصيات تتحمل أعباء تنوء بها الجبال، حتى يخيل إليك أن الأمومة هي صنو الألم في مجتمعاتنا. ولعل الأبناء يحتفظون في ذاكرتهم بفيض من الصور الكئيبة، ويسقطون لحظات المرح والحبور، وإلا فمن الصعب أن تتخيل كل هذا البؤس الأمومي الفائض.
مع بعض التدقيق، تكتشف أن العلاقات أبعد غوراً، وأكثر تعقيداً، حين يترك بعض الكتاب لأنفسهم العنان، ويتحدثون منعتقين من سطوة الإحساس بالذنب في مجتمع يحمل في موروثه فكرة الأم «الملائكية»، الممتلئة بـ«الحنان»، المفطورة على «العطاء»، المغتسلة بـ«الطهر» وهي مفردات تتكرر عند الكتاب للتعبير عن شخصية المرأة التي يترفعون أو حتى لا يفكرون في البحث عن سقطاتها إلا لماماً. لكن الناقد صلاح فضل يتحدث عن «كثرة الكلام، التي عانت منها (أمه) في بيئتنا القروية المحافظة بعد أن اقترنت بعمي (إثر وفاة والده) لتظل العائلة موحدة. كانت دائمة الشجار معه والنقد له وإغاظته بسيرة أخيه المرحوم». أما والدة علوية صبح فقد كان افتخارها الوحيد الذي عبرت عنه بابنتها هو حين أعلمتها بعزوفها عن الزواج، لتأتي الإجابة: «برافو عليكِ، البنت ما بتعرف شو ناطرها عذاب بعد الزواج». وصلت الحال بعد شيخوختها إلى أن «تغار من صديقاتي، وتكره أي صديق لي خوفاً من أن أغرم به وأتزوج وينتزعني منها، كأن رعايتها لي ولأخواتي دين علي أن أسدده لها في آخر حياتها، وكان ذلك فخرا لي».
أسماء صدّيق المطوَع صاحبة فكرة الكتاب، تتحدث عن «أميَن» اثنتين عاشت في كنفهما، وهي من التجارب الغريبة في الكتاب؛ فوالدتها تزوجت برجل يكبرها سناً وكان قد تزوج قبلها، ويبدو أن تلك المرأة احتضنت الزوجة الجديدة وأولادها وبينهم الكاتبة أسماء التي تقول: «لم نكن نشعر بفارق بين أمي وزوجة أبي التي مثلت النصف الآخر للحب وأحاطت الجميع بعذوبتها ورعايتها؛ بدءاً بأمي لأنها كانت تكبرها بسنوات كثيرة، وتعاملت معها كما لو كانت ابنتها، وكانت عبارة عن روح تمنح بيتها حبها المطلق. ولطالما شعرنا بحرج وخوف في مناسبات عيد الأم، من أن نظهر لإحداهما حباً أكثر من الأخرى، فكلتاهما كانت تتقاسم كل طاقاتنا على الحب».
في الكتاب ثمة حكايات وتجارب، رغم تقليديتها، لها تمايزها. ومما يلفت أيضاً وجود شهادة طويلة للروائي الراحل جمال الغيطاني يخاطب فيها أمه التي سبقت إلى الدنيا الآخرة: «أمي ما بين فرح غامض وحزن شفيق. يا ترى عامله إيه هناك. يا ريتك تكوني مرتاحة... راضية عني؟».
بعض الأمهات كانت عذاباتهن استثنائية بسبب استشهاد الوالد تحت وطأة التعذيب، كوالدة واسيني الأعرج، التي يقول عنها: «وجدت أمي نفسها أمام خمسة أطفال وآخرهم في بطنها، وكان عليها أن تتحمل كل شيء. أن تعيلهم هي التي لم تعمل في حياتها». لافتٌ أيضاً عدد الأمهات اللاتي لا يجدن القراءة والكتابة، ومع ذلك لم يكتشف أولادهن ذلك إلا متأخراً؛ منهن من كانت تساعد أولادها في الدرس، أو تتظاهر بأنها تراجع معهم ما يحفظونه عن ظهر قلب.
كلٌ أجاب كما يحلو له، لتأتي الصفحات في مجملها «خريطة أمومية تكريماً للأم في كل زمن ومكان» كما تقول صاحبة الفكرة ومعدّة الكتاب أسماء المطوّع، رئيسة «صالون الملتقى الأدبي» في أبوظبي.
هذا كتاب يذكّر كثيرا بكتاب فرنسي اسمه «إلى أمي» صدر بالفرنسية في ثمانينات القرن الماضي، وأعيد نشره عام 2010، صادر عن «دار أوراي» في باريس، شارك فيه 50 كاتباً؛ بينهم الطاهر بن جلون ومارغريت دوراس، والشاعرة اللبنانية فينوس خوري غاتا، وجورج أمادو، وألبيرتو مورافيا، وفيليب سوليرز، وكاتب ياسين. واحد من الكتب التي لا تنسى، بسبب جرأة الكتّاب في النظر إلى هذه العلاقة شديدة الحساسية بنظرات نقدية مذهلة، واستعادة شديدة التمعن.
الكاتب العربي لا يزال محافظاً وتقليدياً في قدرته على الحديث عن حميماته العائلية إلا فيما ندر، لا يملك جسارة الكشف والاعتراف حين يتعلق الأمر بأكثر خصوصياته دفئاً، إضافة إلى افتقار «أمي موزة» إلى فهرس بأسماء الكتّاب المشاركين للعودة إلى صفحاتهم بسهولة. لكن الإخراج الجميل للفنانة التشكيلية نجاح طاهر، سواء في تصميم الغلاف، أو اختيار مكان صور الكتاب المصاحبة للنصوص وحجمها وشكلها، وإعطاء نفحة عربية لهذا المؤلف بتزنير الشهادات بزخرف شرقي وتخليص بعض الصفحات من بياضها لتميل صوب تدرجات في الألوان، منح النصوص حياة أخرى.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.