مارك سايكس... الرجل الذي صنع الشرق الأوسط الحديث؟

حفيده يكتب سيرته في محاولة لتجميل وجه الإمبراطورية البريطانية

مارك سايكس
مارك سايكس
TT
20

مارك سايكس... الرجل الذي صنع الشرق الأوسط الحديث؟

مارك سايكس
مارك سايكس

عندما أنهى كريستوفر سيمون سايكس مسودة كتابه عن سيرة حياة جدّه مارك سايكس التي اختار لها عنوان «الرجل الذي صنع الشرق الأوسط»، اقترح عليه الناشر تغييره إلى «الرجل الّذي دمّر الشرق الأوسط». لعل التعليق عميق الذكاء هذا للناشر «الخبيث» هو أبلغ تعبيرٍ عن حكم التاريخ على مارك سايكس (1879 - 1919)، ممثل الحكومة البريطانية في الاتفاق السري الذي أبرمته عام 1916 مع فرنسا - مثلها حينها جورج بيكو - وبمعرفة روسيا القيصرية بشأن تقسيم الشرق الأوسط.
كان ذلك الاتفاق الذي عُرف لاحقاً باسمه التاريخي (سايكس - بيكو) بمثابة استباقٍ لما بدا وكأنه سقوطٌ محتّمٌ لحكم الإمبراطورية العثمانية المتهالكة إثر الحرب العالمية الأولى، أقله في أقاليمها الشرقية حيث كان العرب قد ثاروا على حكم الأتراك المستمر منذ قرون - بتوجيه الإنجليز ورعايتهم - مقابل وعودٍ للقادة بينهم بمنحهم الاستقلال والسلطة.
وقد كان يمكن لهذا الاتفاق سيء السمعة أن يبقى حبيس أدراج الأرشيف الاستعماري لولا أن البلاشفة أسقطوا حكم آل رومانوف في روسيا عام 1917 ونشروا على صفحات صحفها وثائق سرية من أوراق القياصرة، إحداها كانت نسخة روسيا من الاتفاق. لكن ذلك لم يكن ليردع القوى الاستعمارية عن الاستمرار في تنفيذ مفاعيله على الأرض، بل وأصدر آرثر بلفور - وزير الخارجية البريطاني وقتها - وعد حكومته المشؤوم بأن تبذل الحكومة البريطانية جلّ جهودها في السعي لإقامة وطنٍ قومي لليهود على أرض فلسطين التاريخية.
وهكذا تنكر الإنجليز لوعودهم العربية، وقسّموا الأقاليم الشرقية من الدولة العثمانية البائدة إلى مناطق نفوذ فرنسية وبريطانية وفق خطوطٍ اعتباطية مكّنت تلك القوى من فرض سيطرتها على مناطق كانت شعبيّاً تسمو إلى الاستقلال والوحدة ومن ثم فرض هياكل حكم وأنظمة وظيفية مفتتة فيها لا يمتلك أي منها القدرة على العيش كأمة مستقلة دون رعاية الأم الاستعمارية الحنون، وكذلك توزيع الاثنيات بين دول متعارضة. لكن الأسوأ على الإطلاق كان ما انتهت إليه فلسطين، إذ ذُبح أهلها وشُردوا واستبدلوا بشعب ملّفق من كتل يهود أوروبا والمشرق، وتحولوا بحكم الواقع إلى ما يشبه سرطاناً لا يسمح للمنطقة بالتعافي.
شكك كثيرون داخل الإدارة الإمبراطورية البريطانية وقتها باتفاق سايكس - بيكو. وحاول لورنس العرب جاهداً أن يُثني الخارجية عن قرارها بالتنكر للعرب، كما لم يخف الفيلدمارشال إدموند اللنبي، قائد الجيش البريطاني في الشرق، قلقه من مضامين الاتفاق، معتبراً أنه «يجب أن يمزّق بشكل أو بآخر». مع ذلك فإن مارك سايكس كان شخصية موثوقة لدى القيادات في لندن بالنظر إلى كونه من رجالات اللورد كيتشنر المقربين، وأنه بحكم صلاته الأرستقراطية ونبل مُحتدِه وارتباطاته بحزب المحافظين نجح في التأثير على متخذ القرار البريطاني وتنفيذ التقسيم بين فرنسا وبريطانيا وفق خط مستقيم يمتد من عكا إلى كركوك مع احتفاظ بريطانيا بالمناطق الواعدة بالنفط في العراق والكويت.
من المعروف وفق مؤرخي المرحلة - البريطانيين بالذات - أن مارك سايكس كان أقرب لمغامر أرستقراطي قصير النظر وعاجز عن فهم تعقيدات السياسة والحياة في الشرق الأوسط منه موظفاً استعمارياً محترفاً، وهو جادل دائماً - وفق إحساسه الداخلي الذاتي بالطبع - بأن كل شعوب الشرق تتطلع عاليّاً نحو سيدها الإنجليزي ذي العينين الزرقاوين، وأن العرب واليهود سيتقبلون العيش سويّة إذا تيقنوا أن تلك هي رغبة لندن الطاغية. وحتى كمفاوض فإنه تنازل للفرنسيين بأكثر مما كانوا يتوقعون، كما كان قد كشف عن مواقفه التفاوضية مبكراً من كثرة ثرثرته أمام السفير الفرنسي بالقاهرة قبل جلوسه للتفاوض مع غريمه الفرنسي جورج بيكو.
على أن انعدام الكفاءة هذا لم يكن لينهي مهنة سايكس السياسية، إذ إن سياسيين بريطانيين كثيرين تعافوا من سقطات كبيرة وعادوا لاحقاً لمناصب مهمة وكأن شيئاً لم يكن لا سيما أبناء النخبة الأرستقراطية منهم - ونستون تشرشل مثلا - . لكن مهنة سايكس انتهت مبكراً بالفعل (وكان في الـ39 من العمر) عندما أصيب بالحمى الإسبانية ومات داخل فندق باريسي بحيث لم يشهد بنفسه مؤتمرات السلام في باريس وسان ريمو التي استكملت فوضى الشرق الأوسط وكان أسس لها اتفاق سايكس - بيكو قبل سنوات قليلة.
في الكتاب تفاصيل كثيرة عن الأجواء العائلية الفاسدة التي ربما كان مارك سايكس ضحية لها على نحو أو آخر. فوالده كان شديد البخل والقسوة، وهو تزوج من صبية مراهقة أنجبت له مارك ابنه الوحيد في زواج غير سعيد انتهى بفضائح اجتماعية ومالية في المحاكم. لم يقدّم مارك في المدارس والجامعات التي تنقل فيها ما يثير الاهتمام ربما غير حواديته الاستشراقية المشوقة عن الحياة في إسطنبول وسجائر تركية وملابس عربية كان يجلبها معه خلال أسفاره الطويلة مع والده في الإمبراطورية العثمانية. بعد تخرجه أصدر كتاباً عن رحلاته تلك لم يحظ بإقبال القراء، ثم التحق بالجيش البريطاني في جنوب أفريقيا فعاش أياماً صعبة هناك إبان حرب البوير رغم أنه لم يقاتل بنفسه. ولما عاد نشر باسم مستعار كتاباً عن الاستراتيجية العسكرية وصفته إحدى الصحف بأنه «أفضل ما كتب إلى اليوم من الهراء». نفوذه العائلي أدخله السلك الدبلوماسي البريطاني ملحقا بمكتب الشؤون الآيرلندية، ولاحقاً في الممثلية البريطانية لدى السلطان العثماني. هذه الخبرات أعطت عنه الوهم بأنه مطلع على شؤون الأقاليم العثمانية حتى إن البعض صدقوا أنه يتحدث العربية والتركية بطلاقة رغم أنه لا يعرف منهما سوى كلمات معدودة، الأمر الذي ساعده لاحقاً عندما ترشح للبرلمان ثلاث مرات عن حزب المحافظين قبل أن ينتخب أخيراً ويكثر من إلقاء الخطابات عن الشؤون الآيرلندية والعثمانية حتى أصبح جزءاً من الدائرة الضيقة التي تفكر لمرحلة ما بعد موت الدولة العثمانية. وللحقيقة فإن دور سايكس في تشكيل الشرق الأوسط الحديث مبالغ به بالطبع، فهو كان أشبه بمتحدث باسم المطامع الإمبراطورية، يُرسل هنا وهناك لإبلاغ توجهات لندن للدول الأخرى، لكنه بالفعل حمل وزر اتفاق 1916 للأبد، حتى إن «داعش» كان احتفل قبل عامين عند إزالته علامات الحدود بين العراق وسوريا (بتمزيق اتفاق سايكس - بيكو المشؤوم)، قبل أن تُعيدها القوات العراقية مؤخراً.
كتاب الحفيد عن الجدّ محاولة لتجميل سيرة الرجل (وما يمثّله) من خلال إعادة الاعتبار له على صعيدين متوازيين: الأوّل غايته إظهار الجد سايكس كرجل يتمتع بالمعرفة والخبرة وقوة الشخصية، سعياً بالطبع من كاتب السيرة إلى تبرير صعود الرجل غير المستحق في هياكل السلطة الإمبراطورية، وثانيهما إظهار وجه إنساني محبب ولطيف له من خلال استعراض مراسلاته الطريفة مع زوجته حينما كان يتابع مهماته الدبلوماسية والتجسسية في الشرق. إلا أن النتيجة لم تكن تماماً كما توخاها المؤلف. فالحقائق القليلة التي أضافها لا تبدو مقنعة كفاية لتغيير التصور التاريخي عن مارك سايكس لناحية الكفاءة، بل هي تكاد تؤكد بنحو أو بآخر ما توافق عليه الذين التقوه من أمثال اللنبي ولورنس العرب وحتى أساتذته في الجامعة من أنه «كان يتمتع بقدرة غير عادية على عدم التعلّم»، و«أنه رجل يحمل معه كتلة ثقيلة من الانحيازات المسبقة، والهلوسات وأنصاف المعارف». كما كانت شهادات أفراد عائلته المقربين عن لطفه واهتمامه بأطفاله ودماثته، غير كافية لتقديم صورة متوازنة عنه لا سيما أن أصدقاءه كانوا وصفوه في مصادر تاريخية مختلفة بأنه كان لعوباً، لا يتقبل آراء الآخرين، ويستخف بكل من يقابلهم. ولعل وصفه اللاذع لرفيقته في العمل التجسسي جيترود بيل حين التقاها هو أسوأ ما سمعته تلك السيّدة طوال حياتها على الإطلاق وهي التي كانت وكأنها ملكة - وإن غير متوجة - في الشرق.
لكن على الرّغم من نواحي القصور في الكتاب - التي يمكن تفسيرها فقط من خلال انعدام الحرفية التأريخية للحفيد الذي عُرف عنه قبلاً التخصص في تصوير البيوت القديمة في الريف الإنجليزي - فإن قراءته كنص متكامل تبقى تجربة ممتعة تلقي بأضواء تفصيلية على جوانب من حياة رجل غير استثنائي تجمعت الأقدار على تسليمه مهمة استثنائية في توقيت استثنائي، فصار رمزاً لكل التراث الكولونيالي الذي ما زال وبعد مائة عام بئرا مسمومة يشرب منها سكان الشرق الأوسط جميعهم.



المسكونون بشغف الأسئلة

ديفيد دويتش
ديفيد دويتش
TT
20

المسكونون بشغف الأسئلة

ديفيد دويتش
ديفيد دويتش

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية تتيحُ للكاتب أن يبوح بتفاصيل أو جزئيات ما كان متاحاً له البوحُ بها في غير سيرته الذاتية، وهذه التفاصيل أبعدُ من محض حياته العاطفية أو علاقاته مع الجنس الآخر أو مغامراته أو طيشه أو عنفوانه أو حتى جنونه.

أحْدَثُ كتابٍ في السيرة الذاتية قرأتُهُ كتبه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل الذي يُنسبُ إليه ابتداعُ مفاهيم الليبرالية والحرية والنظم السياسية الحديثة، كما عضّد مفهوم المنفعة الذي ابتدعه جيريمي بنثام. هذه كلها ثورات هائلة في التفكير البشري، لكنّ المثير في السيرة الذاتية هو الإسهاب في عرض تفاصيل مسيرته التعليمية، وتلك خصيصة يتشارك بها معه كلّ من كتبوا سِيَرَهم الذاتية وهم أعلامٌ فلسفية أو علمية أو تقنية. ثمّة الكثيرُ من الخواص المشتركة بين هؤلاء، منها مثلاً: أنهم ذاتيو التعليم Self-Educated، والكثير منهم لم ينالوا تعليماً مدرسياً تقليدياً على الشاكلة التي نعرف، كما أنّهم نشأوا في بيئات أسرية تعلي شأن الانضباط والصرامة والجدية المفرطة والحساسية تجاه الزمن إلى الحدّ الذي جعل هؤلاء في أعمارهم المتقدّمة يرون أنّهم لم يعيشوا أطوار طفولتهم الأولى بطريقة طبيعية. هل ندموا على تلك الطفولة؟ ربما. يجب ألا ننسى أنّ كلّ شيء بثمن، وليس مِنْ منحة مجانية في هذه الحياة. هل كانوا سيصبحون سعداء لو عاشوا في كنف عائلات أقلّ انضباطاً؟ ربما. نحن في النهاية نميل لتقدير الحياة التي لم نَعِشْها أكثر من تلك التي عشناها، وتلك حكاية أخرى غير حكايتنا هذه.

غلاف «نسيج الواقع»
غلاف «نسيج الواقع»

تخبرُنا السير الذاتية لتلك الأسماء الذائعة أنّها تشاركت هوساً غير طبيعي في التفكّر بالأسئلة الوجودية الأولى، وأنّها سعت إلى بلوغ إجابات لها عن طريق التفكّر الذاتي وليس كجعبة معرفية جاهزة مثلما تفعل المدارس والجامعات. أولى تلك الأسئلة هي أسئلة البدايات: كيف بدأ الكون؟ وكيف بدأ الوعي؟ وكيف بدأت الحياة؟ هذه الأسئلة تستمرّ مع الحياة، ويعمل المرء المتفكّر حثيثاً لتعديلها تبعاً للمستحدثات المعرفية التي تحصل في حياته، لكنّه لن يقبل أبداً بالمعرفة الجاهزة. إنّه كمن يسعى للتنقيب في الأعماق سعياً لبلوغ نمط تفكير واضعي النظريات أو مبتدعي الفرضيات أو راسمي المقاربات التطوّرية. يبدو المرء من هؤلاء وكأنّه يتشارك تجربة من يقرأ له ولا يكتفي بالإمساك بالإجابات الناجزة.

في الفلسفة مثلاً يشرع المرء من هؤلاء منذ بواكير طفولته الأولى يتساءل: كيف لي أن أتيقّن من أنّ ما أراه أمامي وأحسّه بأعضاء حسّي هو ذاته ما يراه ويحسّه سواي من الذين يختبرون ذات الظروف التي أخضع لها؟ هذا التفكّر بشأن معضلة اليقين الوجودي هو بوّابة الولوج إلى التفكّر الفلسفي الحقيقي، ومن البديهي أنّ من يقرأ المصنّفات الفلسفية ابتداءً من أفلاطون وأرسطو وسائر الفلاسفة وهو مهجوس بهذا النمط من الأسئلة هو كائن يختلف جوهرياً عمّن يبتغي المعرفة المجرّدة. إنّه فرق جوهري بلا شك أن تكتفي بمعرفة التواريخ والشخوص والأمكنة والأزمنة. رجلٌ على شاكلة جون ستيوارت مل لن يقبل بهذا الدور غير الفعّال. يريد أن يكون جزءاً فاعلاً في صناعة تاريخه المعرفي.

خذ معضلة الوعي. هي الأخرى معضلة شديدة التعقيد لا تنفع معها مقاربةُ القراءة غير المهجوسة بدافعية الأسئلة الأولى. تبدأ معضلة الوعي بالاختمار في العقل الشغوف عندما يتساءل: من أين ينشأ الوعي؟ من الدماغ. وما هو الدماغ؟ أليس كتلة عضوية تتكوّن من الكاربون والفسفور و...؟ ما الذي يدعو تشكيلاً عضوياً متشكّلاً من ذرّات مشخّصة إلى امتلاك خاصية الوعي؟ عندما سيقرأ من يفكّرُ بمثل هذه الأسئلة لاحقاً في كتابات فلاسفة العقل والباحثين في العلوم العصبية ستكون قراءته مدفوعة ومحفّزة بشغف أسئلة الطفولة الأولى والأطوار الزمنية اللاحقة لها وليست محض واجب أكاديمي أو قراءة عابرة أو استزادة للخزين المعرفي.

ليست الأسئلة الأولى قرينة - بالضرورة - بالطفولة، بل هي في الغالب خصيصة عقلية ونفسية تتقدّم وتتطوّر مع ارتقاء صاحبها معرفياً وخبرةً في المعيش اليومي، كما أنّها لا تقتصر على أسئلة البدايات كما يحصل مع الطفولة. مسألة الدولار الأميركي مثلاً تصلح مثالاً ممتازاً. هل تساءلت يوماً: لماذا صار الدولار الأميركي عملة عالمية عقب اتفاقية (بريتون وودز) بعد الحرب العالمية الثانية؟ أو كيف نشأت فكرة النقود والعناصر المرتبطة بها من بنوك وقروض وتأمين ممّا يُشكّلُ التاريخ المالي للعالم؟ أؤكّدُ أنّ مَنْ يشرعُ في دراسة الاقتصاد بادئاً بأسئلة من هذا النوع سيتحصّلُ على معرفة بآليات عمل الاقتصاد العالمي أفضل بكثير ممّن يكتفي بقراءة الكلاسيكيات الاقتصادية العالمية. من يكتفي بهذه الكلاسيكيات ستجابهه معضلاتٌ سيعجز عن تفسيرها أو تسويغها بالرجوع إلى خزين قراءاته.

الأمثلة في العلم الحديث كثيرة، غير أنّني سأختارُ مثالاً متفرّداً هو ديفيد دويتش David Deutsch. يعرفُ عن هذا الفيزيائي الأكسفوردي أنّه من أوائل من تفكّروا في موضوع الحوسبة الكمومية Quantum Computing ووضع خوارزميات صالحة لها. يبدو الأمر عادياً؛ إذ إنّ كثيراً من العلماء والمهندسين يعملون اليوم في حقل الحوسبة الكمومية لكونها قرينة الذكاء الاصطناعي لجهة ثوريتها المفاهيمية ومفاعيلها التطبيقية. الأمر سيختلف تماماً لو قرأنا كتابيْن نشرهما دويتش: الأوّل عنوانه «نسيج الواقع» والثاني عنوانه «بداية اللانهاية»، والكتابان مترجمان إلى العربية. يرى دويتش أبعد من مشهد المفاهيم والتطبيقات المجرّدة. هو يطمحُ لبلوغ نظرية كلّ شيء في المعرفة، وكتب كثيراً كيف أنّ طموحه الخارق هذا ظلّ مدفوعاً بشغف الأسئلة الأولى التي تشكّلت في طفولته وشبابه. في كتابه الأوّل «نسيج الواقع» - الذي ارتأى المترجم العربي عبارة «نسيج الحقيقة» عنواناً له - يطمح دويتش إلى تأسيس نظرية في المعرفة تقوم على أربعة أعمدة: تفسير العوالم المتعدّدة المستمدّة من نظرية الكم، نظرية كارل بوبر في المعرفة، النظرية الاحتسابية الخاصة بِآلان تورنغ، نظرية التطوّر الدارويني الحديثة. في كتابه الثاني «بداية اللانهاية»، يتناولُ دويتش موضوع التنوير Enlightenment ابتداءً من القرن الثامن عشر، ويعلنُ عن رؤية مبشّرة بقرب بداية تفاعل تسلسلي لا نهائي محتمل من المعرفة الخلاقة. الكتاب بأكمله ذو نكهة فلسفية رائعة ويسعى لمقاربة سؤال جوهري: كيف ولماذا تطوّر الإبداع في البشر؟ أهمّ ما نتعلّمه من دويتش ونظرائه هو: الجرأة الفكرية في مقاربة الموضوعات وعدم الركون إلى المواضعات الجاهزة أو الشعور بالتثاقل من وعورة المسعى الفكري غير المطروق من قبلُ، أمّا الدرس الثاني فهو أنّ القيمة الفلسفية للموضوعات المطروقة تبدو نتاجاً لسنوات طويلة من التفكّر الذي بدأ منذ سنوات الطفولة الأولى ولم يكن محض تطوّر تقني أو رغبة في الارتقاء الأكاديمي.

معظمُ البشر لا يريدون إقلاق عقولهم بشيطان الأسئلة الجوهرية أو المسكوت عنها سواء كان هذا في بواكير حياتهم أو في أطوارها اللاحقة. هم يريدون معرفةً على قدر ما يخدمهم ويوفّرُ لهم عملاً يعتاشون منه ويقضون بقية حياتهم في سكينة الهدوء ومنطقة الراحة Comfort Zone. ليس على هؤلاء مثلبة؛ فَهُمْ يعيشون بالكيفية التي يرتاحون لها. في مقابلهم هناك من لا يستطيع العيش سوى بإدامة التفكّر الحثيث في أسئلة تلحّ عليه بشأن موضوعات جوهرية وجودية أزلية أو مستجدّة. إنّها مسألة تكوين ذهني وأنماط نفسية تختلف كثيراً بين البشر.

أفكّرُ أحياناً لو أنّ بشراً من طراز جون ستيوارت مل وُجِدوا في عصرنا هذا حيث التفجّر المعلوماتي والبيانات الكبيرة ووسائل المعرفة متاحةٌ مجاناً لمن يشاء، ما الذي كانوا سيفعلونه؟ هل كان شغفهم سيتعاظم بطريقة لا نهائية أم كان سيخفت لأنّ ما يصبح سهل المنال يفقدُ خاصية الجذب السحرية الكامنة في كلّ أمر نادر وغير متاح بالمجان. لستُ أعرف على وجه الدقّة جواباً لهذا السؤال؛ لكنّ أمراً واحداً أجدُني متيقّنة غاية التيقُّن منه: الأسئلة الذاتية المستديمة تقود إلى معرفة جوهرية حقيقية متى ما تابعها سائلُها ولم يكتفِ بالوقوع في فخّ المعرفة (أو الإجابات) الجاهزة.