نتاجات كمية قياسية و«تسونامي» شعري نسائي

المغاربة يعيشون زمن الشعر لا الرواية

محمد بنطلحة - مليكة العاصمي - محمد الأشعري - إيمان الخطابي - أحمد لمسيح - وداد بنموسي
محمد بنطلحة - مليكة العاصمي - محمد الأشعري - إيمان الخطابي - أحمد لمسيح - وداد بنموسي
TT

نتاجات كمية قياسية و«تسونامي» شعري نسائي

محمد بنطلحة - مليكة العاصمي - محمد الأشعري - إيمان الخطابي - أحمد لمسيح - وداد بنموسي
محمد بنطلحة - مليكة العاصمي - محمد الأشعري - إيمان الخطابي - أحمد لمسيح - وداد بنموسي

لا يجد المتتبع لراهن الممارسة الشعرية المعاصرة في المغرب، إلا أن يسجل جملة ملاحظات بخصوص التحولات الكثيرة التي طالت المشهد الشعري، في العقود الثلاثة الأخيرة، خصوصاً بعد أن انتقلنا، كما يقول الناقد والشاعر عبد اللطيف الوراري، «من واحديّة الجيل إلى تعدُّد الراهن» الذي تتلاقى ضمنه مختلف الأشكال والتجارب والاختيارات والقناعات: راهن يتميز، على رأي الناقد والكاتب محمد الديهاجي، بـ«التّنوُّع والكثرة»، فيما ينقل لـ«وعي شعري جديد يتميز بالاختلاف والمغايرة»، بحيث لم يعد يعني، حسب الوراري، جيلاً بعينه، وإنما «تخلقه وتتفاعل داخله تجارب ورؤى وحساسيّات مختلفة، متمايزة وغير متجانسة في تصوُّرها للفعل الكتابي وتدبر طرائق إنجازه»، لنكون، كما يلاحظ الشاعر عبد الرحيم الخصار، مع «من عايش القصيدة منذ أن كان يكتبها فقهاء المغرب بقداسة، إلى أن صار يكتبها الشباب بطيش».
ويمكن استخلاص 10 ملاحظات، من متابعات المهتمين والمتتبعين لراهن وتحولات القصيدة المغربية، تختصر، بشكل كبير، للتحول النوعي الذي طال الممارسة الشعرية في المغرب، ناقلة لما يميز المشهد الراهن، سواء على مستوى الأشكال أو المضامين.
وتتلخص أول ملاحظة في «انتشار قاعدة الشعراء»، ضمن راهن تتفاعل داخله كل الأشكال الشعرية، من العمودي إلى التفعيلي وصولاً إلى قصيدة نثر، بحيث يتجمع تحت سقفه شعراء محسوبون على مختلف الأجيال والحساسيات الشعرية، بغض النظر عن أعمارهم وتوجهاتهم، وثانيها في «تزايد وتيرة الإنتاج والنشر ورقياً»، وذلك ضداً على ما يبشر به الزمن الرقمي. ومن بين الدراسات، التي تناولت مسار الشعر العربي الحديث والمعاصر، في هذا الصدد، نكون مع البيبليوغرافيا التي أعدها الباحث محمد يحيى قاسمي، وتناول فيها «سيرورة القصيدة» بالمغرب، انتهى فيها إلى أن مجموع ما نشر، منذ 1932 إلى نهاية 2006، هو 1185 مجموعة شعرية، ما يقرب من نصفها نشر خلال الست سنوات الأولى من الألفية الثالثة، لنستنتج معه أن أكثر السنوات إنتاجاً تبقى سنة 2001، بـ79 مجموعة، يحتل الشعر بها المرتبة الأولى، في الإبداع المغربي، الشيء الذي يمكن أن يدفع، من وجهة نظره، في اتجاه إعادة صياغة سؤال هل نعيش زمن الرواية أم زمن الشعر، فيما يبقى الشيء الأكثر إثارة ومدعاة للتأمل. وفي الدراسة ذاتها، يظهر لنا، على غير المتوقع، أنه ما بين 2000 و2006، أي خلال الست سنوات الأولى من الألفية الثالثة، التي تميزت بانتشار واسع لوسائل الاتصال الحديثة، سواء على مستوى التواصل أو النشر، نشرت 579 مجموعة شعرية، وهو رقم يؤكد أن التعلق بنشر الشعر ورقياً، في زمن العولمة والتكنولوجيات الحديثة ووسائط النشر الجديدة، ما زال خياراً أساسياً بالنسبة للمبدعين، الشيء الذي يبدو مخالفاً لكثير من التوقعات المنذرة باختفاء الكتاب الورقي.
وتتعلق ثالث الملاحظات، بصدد التحولات التي طالت المشهد الشعري المغربي المعاصر، في العقود الثلاثة الأخيرة، بـ«تعدد لغات كتابة القصيدة»، حيث تتجاور قصيدة الزجل مع القصيدة المكتوبة بالعربية الفصحى، فضلاً عن توسع هامش الكتابة تحت سقف لغات أخرى، كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والإيطالية، وغيرها من اللغات التي تفرض نفسها على المتمكن منها، إما لظروف الإقامة في المهاجر، أو الاختيارات اللغوية للكتابة من داخل البلد، مع الإشارة إلى أن عدداً من الشعراء المغاربة في بلدان المهجر، يكتبون وينشرون، ليس، فقط، بلغة بلد الإقامة، بل بالعربية، أيضاً.
وتتمثل رابع ملاحظة في أن شعراء الحساسية الجديدة، كما يقول الوراري، «لا يكتبون بسويّةٍ واحدة، ولا يجمع بينهم فهْمٌ محدّدٌ للعمل الشعري»، فيما تتلخص خامس الملاحظات في تميز راهن الممارسة الشعرية بـ«تواصل النقاش» حول مكانة قصيدة النثر، ضمن المشهد الشعري المغربي المعاصر، حتى باتت، برأي كثيرين، «لسان حال» الشعراء الجدد، كما صارت تنظم لها ملتقيات ومهرجانات يشارك فيها شعراء من المغرب وخارجه.
وتتعلق سادس الملاحظات بتبلور «تسونامي» شعري نسائي، حسب تعبير الناقد بنعيسى بوحمالة، وذلك انطلاقاً من تسعينات القرن الماضي، التي ستمثل «نقطة تحول كمي في عدد الإصدارات»، على رأي الناقد رشيد يحياوي، الذي نجده يشدد على أن «الموجة البشرية الشعرية نسائياً»، لم تكن موجة، ولا تقليعة، وإنما «إقلاع شعري بصوت المؤنث يرجع لسياقه الثقافي والاجتماعي»، مبرراً ذلك بـ«توسع انفتاح المرأة على المجال الثقافي والفني، وازدياد وعيها بذاتها وحضورها، وطموحها لأن تحرر لغتها من تقاليد الكبت اللغوي والفني والقمع الاجتماعي».
فيما تتمثل سابع ملاحظة في تميز راهن الممارسة الشعرية بتداعيات زمن العولمة على عملية الإبداع، بوجه عام، في سياق راهن يتميز بتزايد الحديث عن انحسار الشعر وتناسل الأسئلة بصدد جدواه، في زمن العولمة، المحكوم بثقافة الاستهلاك، بشكل ينتهي، كما يكتب محمد بنيس، مثلاً، في مؤلفه «الحق في الشعر»، إلى نفي الشعر والقصيدة.
فيما، نكون، ثامناً، مع ما اعتبر استثماراً، من شعراء الحساسية الجديدة، للتكنولوجيات الحديثة في كتابة القصيدة، حيث حضرت، في أشعار عدد منهم، معجم ومفردات الشبكة العنكبوتية وما ينقل لعوالمها الافتراضية.
وتتمثل تاسع ملاحظة في حرص أغلب شعراء الحساسيات الجديدة على «عدم التخفف من الهم الجماعي والهواجس التاريخية والسياسية»، مع احتفائهم بالذات، موظفين، في سبيل ذلك، معجماً «يذهب إلى الحياة مباشرة»، كما يقول الشاعر عبد الإله الصالحي، فيما تبرز السخرية، إلى جانب اليأس والسأم والضجر والهشاشة، كمكونات أساسية على صعيد الكتابة، بشكل يجعل منها «أداة مقاومة»، إلى درجة يصير معها السم «فكرة بليدة» والشنق بالحبل «خياراً لا بأس به» والغرق «قدراً عادياً» والحبوب المنومة «موضة قديمة»، بشكل يختصر، كما يقول الشاعر طه عدنان، تجربة جيل «يتقدم نحو القصيدة برصانة مخمور وإلى المعنى بحكمة مجنون وإلى الحياة بثقة ميت لكي يعلن نهايته».
وإلى كل هذه الملاحظات، يتوقف كثيرون عند ملاحظة عاشرة، لمضمونها صفة الظاهرة، تتمثل في تحول عدد من الشعراء المغاربة إلى الكتابة تحت سقف الرواية، إما بشكل دائم أو مؤقت، في وقت يدعو فيه كثيرون إلى الكف عن الكلام حول الأجناس الأدبية أو الفنية، مشددين على أن المهم ليس الكلام عليها، بل إنتاجها بشكل رائع؛ مما يعني أن العبرة تبقى بقيمة ما يكتب، وأن صفة شاعر أو روائي ليست قدراً يحصر المبدع ضمن خانة أبدية، تتطلب منه الحصول على ترخيص مسبق للكتابة تحت لواء جنس أدبي آخر غير الجنس الذي اشتهر بالكتابة تحت سقفه.



النهاية البائسة لـ«التنوير»: إمبراطوريّات ونهب وأزمات متجددة

ديفيد هيوم
ديفيد هيوم
TT

النهاية البائسة لـ«التنوير»: إمبراطوريّات ونهب وأزمات متجددة

ديفيد هيوم
ديفيد هيوم

صدرت عشرات الكتب والدراسات التي تبحث في مرحلة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر الميلاديّ، وحاول كل منها القبض على المنظومة الفكريّة التي أنتجته، لكنّ الغالبية الساحقة من تلك الأعمال انتهت إلى أن كرّست، بشكل أو آخر، تلك الأسطورة الشعبيّة العنيدة حول عصر مثالي للعقلانيّة مثّل لحظة مفصليّة استثنائيّة في تاريخ البشريّة ومنارة للتسامح والديمقراطية والعلمانية، وعصراً ذهبياً تُدوولت فيه قيم تقدميّة الطابع من فئة الحريّة، والحقوق الطبيعية، والحكم الدستوريّ، فيما توافق العديد من المؤرخين على اعتبار «التنوير» بمثابة المناخ الفكري الذي يفسّر صعود الحداثة بمنجزاتها وإخفاقاتها معاً، وروادها بمثابة آباء مؤسسين لعالمنا المعاصر.

مونتسكيو

لكن ليس بالنسبة إلى ريتشارد واتمور، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة سانت أندروز، الذي يقدّم في كتابه الأحدث: «نهاية التنوير: الإمبراطورية، التجارة، الأزمة» إعادة تقييم جذرية لهذه المرحلة، تضعها في مقام الفشل العميق بوصفها مشروعاً فكرياً كانت غايته وضع حد للحروب الدينيّة في القرن السابع عشر، وانتهى إلى استبدال حروب من أنواع أخرى بها لا تقل عنها ضراوة، مستنداً في تقييمه ذاك إلى شهادات عديد من المفكرين الذين نربطهم اليوم بـ«التنوير» ومنهم من رأى أن الثورة الفرنسية وما تلاها خاتمة كابوسيّة لانهيار نظام اجتماعي مستنير دام قرناً من الزّمان، وعود لا حميد إلى مزاج التعصّب والعنف والتطرفات الذي ساد في أوروبا القرن السابع عشر.

يستند الكتاب إلى سلسلة كارلايل للمحاضرات في تاريخ الفكر السياسي التي كان قد ألقاها المؤلف في جامعة أكسفورد البريطانية في عام 2019، ويستدعي في مجادلته نصوص ومواقف ثمانية من مفكري «التنوير» في نظرتهم وتقييمهم لأحوال أزمانهم، ومن ثمّ تقديم قراءة مغايرة للمرحلة متحررة من التصورات المسبقة لمعاصرينا والتي من شأن شديد التصاقها بأوضاع العالم الحالية أن تشوّه كل قراءة متوازنة للتاريخ.

وعلى عكس التفاهم السائد بأن التنوير بدأ أساساً حراكاً فكرياً فرنسياً مكرّساً لتحقيق الديمقراطية والليبرالية وسيادة العقل، فإنه عند واتمور منهج تفكير نتج عن الصراعات الدينية الدموية في القرنين السابع عشر والثامن عشر محاولةً لبناء علاقات مجتمعيّة قائمة على الاعتدال السياسي، والتسامح مع الآخر المختلف، وفتح فضاءات للتجارة الحرة والسلام بين الدول. ويذكر واتمور أسماء مثل الأسكوتلندي ديفيد هيوم «1711 - 1776» والفرنسي شارل لوي دي سيكوندا الشهير بمونتسكيو «1689 - 1755» بوصفهم رواد هذا المنهج الذين كانوا سابقين إلى التبشير بالاعتدال في الدّاخل، وضبط النفس في الخارج.

رأيُ هيوم ومونتسكيو ومَن جاراهم من المفكرين كان ميالاً لتأييد «حكومات القوانين» من جميع الأنواع، بما في ذلك الجمهوريات التقليدية والملكيات الدستورية، وعارضوا بالضرورة «حكومة الفرد»، سواء اتخذت شكل الديمقراطية المضطربة أو الاستبداد غير المقيد، وأملوا في تأسيس نظام عالمي ينظم العلاقات بين الدول حول مبادئ أساسية للقانون، والتجارة، والأخلاق، والسياسة، وبما يكفي لاستيعاب جميع الدول المستقلة على قدم المساواة.

يروى واتمور في «نهاية التنوير» حكايةَ انحدار هذه الرؤية الساذجة عن الاجتماع البشري خلال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، ويلاحق التصورات المتفاوتة التي صاغها مفكرو التنوير لمحاولة تدارك هذا الانحدار أو إعادة توجيهه.

يقسم واتمور تلك التصورات في إطار مدرستين فكريتين إحداهما سعت إلى إنقاذ التنوير من خلال التنظير لحكم معتدل مستغلق أمام السياسة الشعبوية والتعصب والمشاريع الطوباوية للإصلاح السياسي والاجتماعي، فيما وضعت الثانية ثقتها في إمكانات التحوّل الثوري لإنقاذ التنوير. وحسب واتمور دائماً، فإن المدرسة الأولى ضمَّت إلى هيوم كلاً من ويليام بيتي، وإيرل شلبورن الثاني، وإدوارد جيبون، ولاحقاً إدموند بيرك، فيما ضمَّت الثانية كاثرين ماكولاي، وجاك بيير بريسو، وماري ولستونكرافت، وتوماس باين.

وعلى الرّغم من اختلاف المنطلقات النظرية لهاتين المجموعتين في سعيهما لإنقاذ التنوير من نفسه، فإن النصوص التي تركها الفريقان تشير إلى اتفاقهما على أن النصف الأخير من القرن الثامن عشر شهد انسحاق القيم التي دعوا إليها تحت عجلات الجشع والتنافس على فرص التجارة والثروة. وإذا كان المتطرفون الدينيون قد تناحروا قبل مرحلة «التنوير» فشنوا الحروب وارتكبوا المذابح باسم الربّ والإيمان، فإن الشعوب «المتنورة» أقامت إمبراطوريات وأبادت ملايين البشر واسترقتهم سعياً وراء المال والتجارة.

ولعل بريطانيا العظمى على وجه التحديد كانت النموذج الأكمل عند أغلب مفكري التنوير لهذا التناقض العجائبي بين ادعاء تبني القيم التقدميّة للدولة في الشؤون الداخليّة فيما تنقلب تنيناً متوحشاً ينفث سموماً في الخارج، إذ إن ملكيتها الدستورية المتوازنة تقرأ في تمظهرها الإمبراطوري استبداداً شعبوياً، مسرفاً في عنصريته البغيضة وعدائه للأجانب، ولا يتورع عن ارتكاب المذابح لتأمين مصالحه التجاريّة وتمكين النّهب.

وقد تسبب هذا الانفصام بين الداخل والخارج -الذي لم يقتصر على بريطانيا بالطبع- في انزواء أفكار الاعتدال والسلام على مستوى العلاقات بين الكيانات السياسية الأوروبيّة لمصلحة منطق المنافسة الدّموية على التجارة والموارد الدوليّة، فاستهلكت القارة تدريجياً (بدايةً من الحرب الأنغلو - هولنديّة الأولى «1652 - 1654») في صراعات كان دافعها إدمان التجارة وصلف الإمبراطوريات، الأمر الذي حدا بهيوم وعدد من أنصاره إلى التحذير من أن دول «القارة المتنورة»، بما فيها طرفها البريطاني، تتجه نحو الخراب.

على أن مفكري النهضة اختلفوا مع ذلك على كيفية وقف هذا الانحدار المتسارع نحو الخراب و«إنقاذ» التنوير. البعض اقترح اعتماد منهج إصلاح معتدلاً يبدأ من تعديل قواعد التجارة الدّولية لتقليل فرص اندلاع الحروب على الموارد ونزع أسباب كراهية الأجانب وبالتالي تجنب السقوط مجدداً في قبضة «البربرية والدين». ومن الجليّ أن هذا المنهج لم يكن فيه مكان للإرادة الشعبيّة، إذ إن تجارب بريطانيا –مع وصول ديماغوجيين وشعبويين إلى السلطة- وفرنسا –بعد تجاوزات الثورة الفرنسيّة ونزوعها إلى الدمويّة والإرهاب- أشارت –وفق مفكري التنوير- إلى أن «غمر الرّعاع» قد انتهت بدولها نحو تبني سلوكيات إمبريالية، وخوض حروب متكررة في سياق السعي لبناء إمبراطوريات. وللتعامل مع ذلك فكّر هيوم وآخرون في دعم انقلابات عسكريّة أو أرستقراطيّة لمنع الديمقراطيّة الغوغائيّة من تدمير الحريّات، فيما ذهب بيرك إلى قناعة تامة في سنوات عمره الأخيرة بأن صراعاً وحشياً بين بريطانيا وفرنسا حتى الاستسلام التام يمكنه أن ينقذ التنوير من فرط الديمقراطيّة الشعبويّة، ولا شيء غير ذلك. ولسخرية القدر، فقد تحوّل أعداء التطرفات ودعاة الاعتدال أنفسهم إلى متعصبين حد التطرّف في دفاعهم عن التنوير.

في المقابل فإن ماكولاي وبريسوت وباين مثلاً، اعتقدوا أن الشعب المسلّح وحده يمكنه استعادة الفضيلة وإحياء الحريات التي سحقها صعود المجتمع التجاري، وراهنوا على الثورات الأميركية والفرنسية معتقدين أن فجر التنوير المشع سيتبع الليل المظلم للإمبريالية في أواخر القرن الثامن عشر. لكنّهم عاشوا ليشهدوا تحول الجمهورية الفرنسية إلى ذلك المشروع الإمبراطوري شديد الدموية الذي أُسست الجمهورية أصلاً لمواجهته، وكيف تفاقمت أسوأ اتجاهات بريطانيا بينما كانت تبني إمبراطوريّة لا تغيب عن أملاكها الشمس.

ويخلص القارئ في نهاية هذه الرحلة المذهلة في تاريخ الأفكار -التي يرى كثيرون أنها شكَّلت عالمنا المعاصر- أن «التنوير» لم ينتهِ فحسب، بل فشل فشلاً ذريعاً. ولهذا بالطبع انعكاسات شديدة الأهميّة اليوم، إذ يبدو الغرب بعد فشل التنوير كأنه لم يستوعب درس ذلك الفشل، بل أضاع فرصة أخرى لتأسيس نظام عالمي متسامح جديد بعد فظائع الحرب العالمية الثانية، فسقط سريعاً في حرب باردة بين قوى نووية، واستعاد شهيته إلى التوسع الإمبريالي، واستفاد من تقدمه المادي والتكنولوجي لدعم الطغاة، وتنفيذ انقلابات دموية، وغزوات وحصارات قاتلة تبدو الحروب الدينية في العصور الوسطى مقارنةً بها كأنها ألعاب أطفال. نصيحة واتمور في خاتمة الكتاب هي في ضرورة العمل على تنوير جديد كمشروع اعتدال سياسي نقيض للشعبوية، وضدّ الجاذبية المفرطة للعقل المجرد في السياسة، ويعمل على كفّ هيمنة «الأنظمة» السياسية على الإنسان فرداً ومجموعاً. أما كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة المستحيلة، فهذا ما سكت عنه واتمور، ربما لإدراكه أن خبرة الغرب التاريخيّة في هذا المجال لا تبدو كأنّها قادرة بعد، ورغم تعدد المحاولات، على إنتاج التنوير الذي تحتاج إليه البشريّة. فهل حان الوقت للبحث عن «التنوير» من جزء آخر من الكوكب؟

نهاية التنوير: الإمبراطورية، التجارة، الأزمة

The End of Enlightenment: Empire, Commerce, Crisis

المؤلف: ريتشارد واتمور

2023