سيرة حياة إميل زولا في منفاه اللندني

وصل إلى بريطانيا هارباً من بلاده بملابس عتيقة ونقود قليلة

إميل زولا - غلاف الكتاب
إميل زولا - غلاف الكتاب
TT

سيرة حياة إميل زولا في منفاه اللندني

إميل زولا - غلاف الكتاب
إميل زولا - غلاف الكتاب

مساء ليلة الثامن عشر من يوليو (تموز) عام 1898، وفي وقت كانت بريطانيا بلاداً تفتح ذراعيها للمنشقين السياسيين بلا تعقيدات تعجيزية، عزم إميل زولا (1840 - 1902) – الروائي والمسرحي والصحافي وأحد أهم مثقفي فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر - على أن يهرب من باريس، مدينته التي يهوى، ويهجر بيته وعائلته، ويستقلُّ مركباً بحرياً صغيراً عبر القنال الإنجليزي باتجاه ميناء دوفر على الجزيرة البريطانيّة. لم يتسنَ الوقت للأديب الأشهر في فرنسا حينها لحمل أكثر من ثوب يتيم للنوم، ملفوفاً بأوراق جريدة الأمس، فوصل بثيابه التي يرتديها وكلمات إنجليزيّة قليلة ونقود أقل إلى منفاه الاختياري اللندني ليقضي فيها ليالي مظلمة بين الفنادق والشقق المفروشة استمرت ما يقارب عاماً ونصف العام، يروي تفاصيلها كتاب جديد صدر في لندن مؤخراً للكاتب البريطاني مايكل روزن بعنوان «اختفاء زولا».
زولا، هذا اللاجىء الشهير الذي لم يره أحد يبتسم يوماً، يمثّل ربما أفضل نموذج في فرنسا القرن التاسع عشر للمثقف الملتزم بقيم العدالة والإخاء والمساواة، ورفض العنصريّة والانحياز للفقراء في وقت كان الجدل بشأن قضية الضابط اليهودي ألفرد دريفوس قد كشف عن تشرب فرنسا وأعلى مستويات مؤسستها الحاكمة بالأفكار العنصريّة وكراهيّة الآخر. كان إميل زولا بحق أعلى صوت في صحافة باريس الصاخبة بين المدافعين عن الضابط المتهم - ظلماً كما تبين لاحقاً - بتسريب وثائق عسكريّة سريّة للسفارة الألمانية عام 1894، معتبراً دائماً أن التهمة ملفقة والضابط المسكين أُلبِسَ الجريمة لأنه يهودي ليس إلا، وأن الجميع في السلطة الفرنسيّة يتآمر للتغطية على المتهم الحقيقي، إذ ليس من اللائق للنخبة الفرنسيّة الحاكمة بالطبع أن يكون الخائن فرنسياً أصيلاً!
لم يقبل زولا بحكم الإدانة الذي صدر بحق دريفوس، فكتب رسالة مفتوحة للرئيس الفرنسي على صدر الصفحة الأولى لجريدة يوميّة باريسية بدأت بـ«إني أتهم...» أصبحت إحدى أهم الوثائق في تاريخ الأدب والسياسة. أدان زولا ودون مواربة المؤسسة الفرنسيّة الحاكمة - وأعلى القيادات في الجيش الفرنسي بالذات - متهماً إياهم بعرقلة العدالة والعنصرية ضد الآخر والانحياز السافر ضد دريفوس. كانت تلك جرأة ما بعدها جرأة من الروائي الفرنسي الذي كان يعيش على قمة المجد الأدبي وقتها ليس في فرنسا وحدها، بل وفي العالم الناطق بالإنجليزيّة بعد أن ذاع صيت روايته الهائلة «آل روغون - ماكار» التي كانت قد وصلت إلى عشرين مجلداً روى فيها تاريخ فرنسا في عهد الإمبراطوريّة الثانية وتحولاتها السياسيّة والاجتماعيّة من خلال تعاقب حياة أجيال تلك العائلة.
كان تصوّر زولا أنه بنشره للرسالة المفتوحة تلك سيُتهم بالإساءة للسلطة وللقضاء، ويُحاكم فتكون تلك فرصته - بالاستفادة من شهرته الأدبيّة الفائقة - لتقديم دلائل ووثائق تثبت براءة الضابط دريفوس وتكشف عن المتهم الحقيقي أمام الرأي العام. وبالفعل فقد حوكم زولا وأُدين، وغرمته المحكمة ثلاثة آلاف فرنك مع حكمٍ بالسجن لمدة عام. لكن المحكمة رفضت بشكل قاطع فتح ملف قضيّة دريفوس الذي بقي قابعاً في السجن. أراد زولا أن يتجرع سمّ السجن ويخضع للحكم كما سقراط جديد، لكن أسرته ورفاقه أقنعوه بالهرب إلى بريطانيا وممارسة ضغوط على الحكومة الفرنسيّة من خلال مقالات الصحف على جانبي القنال الإنجليزي للإصرار على إعادة المحاكمة، وأيضاً على فتح ملف قضيَة دريفوس من جديد.
لم تكن رحلة زولا تلك إلى لندن بزيارة أولى، إذ كان قبلها قد استقبل كضيف شرف على مؤتمر جمعيّة الصحافيين في بريطانيا، واحتفت به الأوساط الثقافيّة وتسابق الكثيرون للقائه. لكن وصوله المرّة هذه إلى دوفر كان مُرَّ الطعم، إذ لم يكن في استقباله أحد، وانتهى وحيداً مكسور الروح في غرفة فندق حقير بالقرب من محطة فيكتوريا للقطارات يأكله الاشتياق إلى باريسه والخوف اللحظي من تقدم السلطات الفرنسيّة بطلب لاسترداده من لندن.
يروي مؤلف كتاب «اختفاء زولا» مستخدماً شهادات ووثائق وصوراً فوتوغرافيّة تفاصيل غاية في الإمتاع عن أيام زولا اللندنيّة تلك. من لحظة وصوله وقضائه يومه الأول في محاولة شراء ملابس داخليّة، مروراً بتنقلاته بين الشقق والفنادق الإنجليزيّة الرديئة، وشروعه بكتابة رواية جديدة (ومرة أخرى - كما في «آل أرغون – ماكار» - بناء على اطلاعه الوثيق على معطيات الدراسات السوسيولوجيّة بشأن التحولات في المجتمع الفرنسي ومستهدفاً من جديد إثارة الجدل بشأن الفقر وتراجع مستوى الخدمات العامة وتناقص معدلات المواليد)، كذلك جولاته مشياً على الأقدام أو على الدراجة في أحياء لندن الفقيرة والمملة، وصدمته بالمطبخ الإنجليزي، وصفاقة النساء الإنجليزيات.
يقول روزن إن زولا كان يساريّاً حراً في الالتزام بقيم الجمهوريّة كما أرستها الثورة الفرنسيّة، لكن قيمه التقدميّة تلك لم تنسحب فيما يبدو على موقفه من النساء، فهو كان اتخذ عشيقة علنيّة إلى جانب زوجته فأنجب منها ولداً وبنتاً، بينما اختارت زوجته تقبل الأمر الواقع والتعايش معه. وهو في رسائله الكثيرة التي أرسلها من لندن كان يتابع بدقة تعليم ولده جاكوب وتقدمه الدراسي، لكنه كان قانعاً بأن تنتهي ابنته دينيس كربة منزل و«زوجة صغيرة لطيفة».
يذهب روزن إلى الادعاء بأن الرجل بدا في أجوائه اللندنية وكأنه فقد السيطرة على وقائع أيامه - وهو المعروف بدقته وصرامته - وأحس كما لو كان يعيش فعلياً في السجن، ذلك رغم فيض كثير المقالات التي أشادت بجرأته المذهلة واحتفت بمواقفه المبدئية في كل الصحف البريطانيّة الكبرى. ومما زاد من عذاباته طريقة الإنجليز في أكل اللحوم إذ كانوا يطهونها قبل أكلها، وقد يغسلونها أيضاً قبل الطهي ولا يعرفون شيئاً اسمه الملح، ويطبخون الخضراوات من دون زبدة ويقدمون كعكاً بفاكهة ساخنة.
بعد عام تقريباً من حياة المنفى تغيّر الموقف في فرنسا. كان الخائن الحقيقي الذي سلّم الأسرار العسكريّة الفرنسيّة للألمان قد اعترف، فمنح دريفوس عفواً خاصاً - دون تبرئته - وعاد إلى بيته، وبذلك تمكن زولا من العودة إلى فرنسا، وإن كانت بعض الدوائر في السلطة الفرنسيّة لم تغفر له مطلقاً موقفه الصريح ضد كبرائها. وهكذا وبعد وقت قصير من عودته عثر عليه في غرفة نومه هو وزوجته مخنوقين بسبب إغلاق متعمد - فيما يبدو - لمدخنة الغرفة، لكن تحقيقات الدرك الفرنسي لم تدن أحداً لتنتهي تلك الأسطورة الأدبيّة في موت غامض مبكّر حرم فرنسا والعالم من قلمٍ شكّل صرحاً رافضاً لكل عناوين الظلم والعنصرية.
استدركت فرنسا فيما بعد خسارتها لصاحب «إني أتهم..»، ونقلت رفاته لاحقاً إلى مقبرة عظماء فرنسا في البانثيون ليرقد مكرماً إلى جوار فيكتور هوغو وإلكسندر دوما. لكن روح العنصريّة الفرنسيّة التي حاربها زولا لم تدفن أبداً، بل وعادت بانحياز سافر خلال الثلاثينات وأيضاً في الحرب العالميّة من خلال حكومة فيشي المتآمرة مع النازيين وفي أكثر حلقاتها دمويّة خلال حرب الجزائر، وها هي تطل برأسها البشع من جديد في خضم جدل الانتخابات الرئاسيّة التي كادت أن تُصعد مرشحة اليمين الفرنسي المتطرف على مقعد رئيس جمهوريّة الإخاء والعدالة والمساواة، ولا زولا ليقول للفرنسيين جميعاً «إنه يتهم..».
«اختفاء زولا» كتاب بديع دون شك، لكنه يجب أن يُقرأ أبعد بكثير من كونه مجرد سرد لأيام لاجئ سياسي آخر، لا بل هو نبوءة متشائمة ستؤدي بنا إلى قلق مزمن من أن روح العدالة التي يمثلها زولا هي فعلاً التي اختفت.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!