شعراء سادوا... فهل بادوا؟

صنعوا مجد القصيدة يوماً ما وشغلوا الناس

نزار قباني  -  عبد الوهاب البياتي  -  نازك الملائكة  -  صلاح عبد الصبور  -  بدر شاكر السياب
نزار قباني - عبد الوهاب البياتي - نازك الملائكة - صلاح عبد الصبور - بدر شاكر السياب
TT

شعراء سادوا... فهل بادوا؟

نزار قباني  -  عبد الوهاب البياتي  -  نازك الملائكة  -  صلاح عبد الصبور  -  بدر شاكر السياب
نزار قباني - عبد الوهاب البياتي - نازك الملائكة - صلاح عبد الصبور - بدر شاكر السياب

بقدر ما يرجع عدد من الكتاب المغاربة خفوت حضور الشعراء الرواد، إلى درجة النسيان، تقريباً، في المشهد الثقافي العربي، إلى تأثر سياقات تداول الأدب بـ«آليات الترويج والتسويق التي تلهث وراء الآني والجديد»، يشدد بعضهم على أن «النسيان لم يطل رعيل الريادة الشعرية، فقط، بل الأسماء اللاحقة عليها بسنوات قليلة، وكذا أجيال الستينات والسبعينات والثمانينات؛ مع التوقف عند مسألة على درجة كبيرة من «الالتباس»، تتمثل في أنه «في مقابل النسيان أو التّغييب، فهؤلاء الرّواد هم من يحضرون، وعلى نحو مهيمن، على المستوى الأكاديمي»، كما «تحوز متونهم نصيب الأسد في أقسام الدراسات العربية بالجامعات الأوربية والأميركية والآسيوية»؛ مع التشديد على أن الحديث عن «سطوة الرواية» واستئثارها بالعناية والتّداول، «ملمح عالمي»، يجد مبرراته في «انتقال البشرية إلى مجرى حياتي وعلائقي سمته الانتثار والتّشظي والسّهولة مما يستجيب له النثر، عكس لغة الشعر». وما بين حديث الالتباس، المرتبط بأسئلة النسيان وتزايد الحديث عن «سطوة» الرواية، ينتهي الكتاب المغاربة إلى انتقاد «الذاكرة القصيرة للأدب التي تريد أن تفرضها آليات السوق».
كانوا يوماً ما «مالئين الدنيا وشاغلين الناس»، وكانت قصائد بعضهم تردد في المقاهي والأماسي، ويتبادلها العشاق، ويُقبل النقاد على الكتابة عنها بشغف. ثم مع الأيام بدأ ضوء الحياة ينحسر عن ذكراهم، فمنهم من تحول على شكل مقاطع شعرية تنتشر مشوهة أحياناً في مواقع التواصل الاجتماعي، ومشبعة بالأخطاء الإملائية بحسب المستوى الثقافي لناقلها، وبعضهم الآخر ظل درساً في مناهج الطلاب يتذمرون منه في أوقات الامتحانات... هؤلاء هم بكل أسى شعراء الحقب الزمنية المعاصرة منذ أوائل القرن العشرين تقريباً... شعراء كثر لا مجال لأن نعددهم، ولكن نذكر أمثلة عليهم مثل نزار قباني ومحمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وفدوى وإبراهيم طوقان ولميعة عباس عمارة... وغيرهم الكثير من الشعراء الذين لمعت بيارق أشعار ذات مرحلة ثم تلاشت مع الأيام، فما الأسباب التي أدت إلى ذلك، هل هو قطار العصر التقني السريع الذي اختزل الكلمات إلى 140 حرفاً في بعض مواصل التواصل الاجتماعي؟ أم أنه انصراف الأجيال الجديدة عن كل ما هو ثقافي، ولكن لو كانت هذه الأسباب صحيحة، فلماذا يزدهر عصر الرواية؟ وهل أن الرواية هي أحد أسباب خفوت صيت هؤلاء الشعراء بدليل ظهور أسماء روائيين على الساحة لم تغب حتى اليوم؟ بل ربما السؤال الأجرأ: «هل ما طرحناه في هذه المقدمة واقع حقيقي؟ أي هل فعلاً خفتت هذه الأسماء أم لا تزال متقدة؟
* الشعر الجوائزي
الأكاديمي السعودي الدكتور محمد الصفراني يرى أن: «رواد الشعر العربي الحديث أمثال السياب وصلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وخليل حاوي وأمل دنقل والبياتي والفيتوري وغيرهم صنعوا القصيدة الحديثة وأسسوا معايير وتقنيات الشعر العربي الحديث وقدموا إلى ذائقة الشعر الحديث نصوصا تمثل في إبداعيتها وحضورها مستوى يماثل مستوى المعلقات في الشعر الجاهلي التي ظلت إلى يومنا هذا محط أنظار الشعر. وغيابهم عن الساحة بموتهم لا يعني غياب نصوصهم عن التداول النقدي».
ويقدم الصفراني الدليل على كلامه بالقول: «الدراسات النقدية التي تدرس الشعر العربي الحديث إنما استنبطت تقنيات دراسته من نصوصهم، وفي ذائقة ووعي كل ناقد أدبي رصين تقنيات إبداعية شعرية مستقاة من شعر الرواد يقيس إليها التجارب المعاصرة ليحدد مدى قربها أو تدنيها أو تجاوزها تلكم التقنيات، الإشكال الذي تطرحه أسئلتكم لا علاقة بالقراء أو بالرواية بقدر ما يتعلق برواج الشعر الجوائزي نسبة إلى الجوائز الشعرية التي تقام على مستوى الوطن العربي وكرست أسماء جديدة لها حظ متفاوت من الإبداعية وحظ وافر من الحضور الإعلامي أكبر من حظها الإبداعي».
عصر بيع الرواية
أما الأكاديمي البحريني الدكتور خليفة بن عربي فيقول: إن خفوت أسماء هؤلاء الشعراء أو قلة تعاطي الناس معهم، ليس بسبب ما ذكرنا، وباعتقاده ليست هي الأسباب المباشرة في هذه القضية، بل إن هؤلاء الشعراء لم يكونوا شعراء مرحليين، ولا تزال نصوصهم تدرس عند المتخصصين، في المناهج الدراسية، وما زال المحبون للشعر يرددون أصداء نصوصهم، بل على العكس يعتبرون مؤسسين للحركة الإبداعية الشعرية إلى تجمع بين القديم والجديد».
ويضيف: «نحن نفتقد اليوم إلى نصوص بحجم تلك النصوص السابقة، لهذا فإن نصوصهم لم تكن مرحلية، وإذا أردنا الحديث عن الحالة التي تطرحونها فهي لا تتعلق فقط بهؤلاء الشعراء، بل حتى القدامى كالمتنبي مثلا، أيضاً كنا نتحدث عن دور النقد، فالنقد قد يكون له دور في تحجيم نصوص هؤلاء الشعراء، أتكلم عن بعض سياقات النص التي قد أغرقت في المناهج النقدية والتي غربت عن اكتشاف جماليات النصوص، تلك الطرائق النقدية التي جعلت من النقد عملية رياضية جامدة، أو إحصائية باهتة.
ربما كان لبعض تلك السياقات النقدية دور في إغفال جماليات النصوص بشكل عام، لكن إن أردتم الجواب في تقديري، فهي قضية ثقافة، ثقافة مجتمع، فقد أصبحت ثقافة الناس اليوم ثقافة ضحلة تميل إلى السهولة، لذلك ذهبوا إلى الرواية، كما أشرتم أنتم، فأخذوا يقرأون الرواية واستسهلوها لأنهم لا يريدون أن يعملوا عقولهم بالشعر الذي هو بالأصل عبارة عن لغة منزاحة عن اللغة المباشرة، وهذا ليس عصر الرواية، بل هو عصر بيع الرواية، أما أن نقول بأن الرواية تزاحم الشعر فهذا لم يحصل أبداً، فالفنون لا تُحقق ولا تفاضل، بل هي يعدل بعضها بعضاً، ومع ذلك لا يزال الكثيرون يؤخذون بالنص الشعري، وما زال أبناء هذا الجيل يؤخذون بالقصيدة أياً كان شكلها، فالمسألة أعتقد أنها مسألة ثقافة ليس إلا».
وهنا يستشهد الدكتور بن عربي بالحادثة الشهيرة التي جاء فيها رجل إلى الشاعر أبي تمام فسأله: «لماذا تقول ما لا يفهم»، فرد عليه: «ولماذا لا تفهم ما يقال».
* سنة التدافع في الشعر
الشاعر العماني يونس البوسعيدي، له وجهة نظر يقول من خلالها: هذه إشارة مِنْ (الشِعر) في عالم غيبه اللطيف، إلى مخلوقاته الشعرية، أنّ مبدعيه الذين تخلد أسماؤهم قِلة. وقد لا يكون أنّ السبب يعودُ إلى وهن إنتاجهم الشعري، فماذا لو غاب عبقري شعري كالمتنبي عن الذاكرة آنا ما، هل يقال: إن المتنبي وهن، بل هي سنة التدافع في الشِعر كما هي سنة التدافع في الحياة، والمرحلية في الشِعر مثل (الموضة) تأتي وتذهب.
هناك أيضا مسببات منها الأساس الشعري بين المدارس والمناهج الشعرية التي يتخذها الشعراء (الآنيّون)، ووسائل أخذ ونشر الشعر، فمثلا لو جئنا إلى متذوقٍ للشعر أو ناقد أو شاعر حي بيننا من جيل عبد الوهاب البياتي، فإنه بطبيعة الحال للآن يتذوق شِعر تلك المدرسة، وقد لا يتذوق شِعر الشعراء الذين يفرزهم أي برنامج شِعري جماهيري، والشاعر الناشئ الآن لم يعُد يحتاجُ للعودة سوى للفيسبوك، الذي ينشر شِعر مجايليه، فيتلمّظ شِعرهم ويسير على مغناطيسية شِعرهم أو ربما يقلّدهم، وأولئك بدورهم فعلوا ما فعله غيرهم. أما بالنسبة للنقد الأدبي فلولا الدراسات الأكاديمية، فلا أظن أنّ النقد الأدبي الشِعري سيكون له وجود، وليس المسألة هو الذهاب للرواية واستسهال قراءتها والتعاطي معها عن الشِعر، فإنما هي حدائق، الكل يتجول حيث يشاء.
* طغيان المرحلة الجديدة
الشاعر عزان المعولي يعتقد أنه بالنظر إلى التسلسل الزمني لتطور الشعر، فإننا نجد أن «الشعر العربي تطور من الشعر الكلاسيكي القديم إلى مرحلة متقدمة تمثلت في شعر التفعيلة الذي أحدث طفرة متقدمة في السياق الشعري، شعراء تلك المرحلة مثلوا الصدارة في هذا النوع من الشعر والذي هو شعر التفعيلة وكونه طغى إعلاميا وفنيا بتميزه الجديد، فقد سيطرت أسماء على المشهد الشعري في تلك الحقبة. الشعر العربي لاحقا تعدى إلى مرحلة أخرى من التطور الزمني الذي تمثل في قصيدة النثر كشعر للحداثة أو ما بعد الحداثة».
ويضيف المعولي: «طغيان المرحلة الجديدة وسباق التنافس على الشعر النثري أضاف للمشهد الشعري أسماء جديدة سيطرت على واجهة النقد العربي وغيبت شعراء أضاءوا بكلماتهم الحقبة الماضية. ل
ا أتصور أن شعراء التفعيلة تقلص دورهم في مرحلة زمنية محددة بل دورهم ينبغي أن يظل أثره باقيا في ساحات النقد كونهم أسهموا في تطوير النمط الشعري القديم لذلك فلا يمكن اعتبار إنتاجهم مرحليا أو زمنيا فائتا».
وللشاعر المعولي نظرة حول النقد تختلف قليلاً عما طرحه الدكتور خليفة بن عربي في الجزئية نفسها، فيقول: بالحديث عن النقد العربي فالملاحظ في الكتابات النقدية غياب الصرامة في نقد الشعر والتحول إلى نقد إيجابي بالمطلق أو سلبي بالكلية لشخص الشاعر بدلا من المكتوب الشعري، واقعيا فجمهور قراء الشعر اليوم لا يزال يميل إلى شعراء تلك الفترة كالذين تم ذكرهم في السؤال وذلك لأسباب من بينها وضوح المعنى وغياب الغموض، فضلا عن الأغراض الشعرية المتناولة كالتأمل والوصف والقدرة على الغناء، في حين لا يزال شعراء الحداثة معزولين عن المتلقي أو الجمهور إلا ما ندر، بشأن الرواية فالناظر يجد أن الرواية العربية نجحت في سحب بساط الصدارة عن الشعر لاقتراب الروائي من القارئ العربي في مشاركة حياته اليومية لكن هذا لا يبرر إطلاقا غياب النقد الشعري فالشعر لا يزال يفرض نفسه كجزء من الفكر العربي الذي يجب أن تكون له الصدارة.



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي.

ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية.

ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار.

ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية.

وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف.

وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع.

وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق.

وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي.

ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا.

وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟