شعراء سادوا... فهل بادوا؟

صنعوا مجد القصيدة يوماً ما وشغلوا الناس

نزار قباني  -  عبد الوهاب البياتي  -  نازك الملائكة  -  صلاح عبد الصبور  -  بدر شاكر السياب
نزار قباني - عبد الوهاب البياتي - نازك الملائكة - صلاح عبد الصبور - بدر شاكر السياب
TT

شعراء سادوا... فهل بادوا؟

نزار قباني  -  عبد الوهاب البياتي  -  نازك الملائكة  -  صلاح عبد الصبور  -  بدر شاكر السياب
نزار قباني - عبد الوهاب البياتي - نازك الملائكة - صلاح عبد الصبور - بدر شاكر السياب

بقدر ما يرجع عدد من الكتاب المغاربة خفوت حضور الشعراء الرواد، إلى درجة النسيان، تقريباً، في المشهد الثقافي العربي، إلى تأثر سياقات تداول الأدب بـ«آليات الترويج والتسويق التي تلهث وراء الآني والجديد»، يشدد بعضهم على أن «النسيان لم يطل رعيل الريادة الشعرية، فقط، بل الأسماء اللاحقة عليها بسنوات قليلة، وكذا أجيال الستينات والسبعينات والثمانينات؛ مع التوقف عند مسألة على درجة كبيرة من «الالتباس»، تتمثل في أنه «في مقابل النسيان أو التّغييب، فهؤلاء الرّواد هم من يحضرون، وعلى نحو مهيمن، على المستوى الأكاديمي»، كما «تحوز متونهم نصيب الأسد في أقسام الدراسات العربية بالجامعات الأوربية والأميركية والآسيوية»؛ مع التشديد على أن الحديث عن «سطوة الرواية» واستئثارها بالعناية والتّداول، «ملمح عالمي»، يجد مبرراته في «انتقال البشرية إلى مجرى حياتي وعلائقي سمته الانتثار والتّشظي والسّهولة مما يستجيب له النثر، عكس لغة الشعر». وما بين حديث الالتباس، المرتبط بأسئلة النسيان وتزايد الحديث عن «سطوة» الرواية، ينتهي الكتاب المغاربة إلى انتقاد «الذاكرة القصيرة للأدب التي تريد أن تفرضها آليات السوق».
كانوا يوماً ما «مالئين الدنيا وشاغلين الناس»، وكانت قصائد بعضهم تردد في المقاهي والأماسي، ويتبادلها العشاق، ويُقبل النقاد على الكتابة عنها بشغف. ثم مع الأيام بدأ ضوء الحياة ينحسر عن ذكراهم، فمنهم من تحول على شكل مقاطع شعرية تنتشر مشوهة أحياناً في مواقع التواصل الاجتماعي، ومشبعة بالأخطاء الإملائية بحسب المستوى الثقافي لناقلها، وبعضهم الآخر ظل درساً في مناهج الطلاب يتذمرون منه في أوقات الامتحانات... هؤلاء هم بكل أسى شعراء الحقب الزمنية المعاصرة منذ أوائل القرن العشرين تقريباً... شعراء كثر لا مجال لأن نعددهم، ولكن نذكر أمثلة عليهم مثل نزار قباني ومحمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وفدوى وإبراهيم طوقان ولميعة عباس عمارة... وغيرهم الكثير من الشعراء الذين لمعت بيارق أشعار ذات مرحلة ثم تلاشت مع الأيام، فما الأسباب التي أدت إلى ذلك، هل هو قطار العصر التقني السريع الذي اختزل الكلمات إلى 140 حرفاً في بعض مواصل التواصل الاجتماعي؟ أم أنه انصراف الأجيال الجديدة عن كل ما هو ثقافي، ولكن لو كانت هذه الأسباب صحيحة، فلماذا يزدهر عصر الرواية؟ وهل أن الرواية هي أحد أسباب خفوت صيت هؤلاء الشعراء بدليل ظهور أسماء روائيين على الساحة لم تغب حتى اليوم؟ بل ربما السؤال الأجرأ: «هل ما طرحناه في هذه المقدمة واقع حقيقي؟ أي هل فعلاً خفتت هذه الأسماء أم لا تزال متقدة؟
* الشعر الجوائزي
الأكاديمي السعودي الدكتور محمد الصفراني يرى أن: «رواد الشعر العربي الحديث أمثال السياب وصلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وخليل حاوي وأمل دنقل والبياتي والفيتوري وغيرهم صنعوا القصيدة الحديثة وأسسوا معايير وتقنيات الشعر العربي الحديث وقدموا إلى ذائقة الشعر الحديث نصوصا تمثل في إبداعيتها وحضورها مستوى يماثل مستوى المعلقات في الشعر الجاهلي التي ظلت إلى يومنا هذا محط أنظار الشعر. وغيابهم عن الساحة بموتهم لا يعني غياب نصوصهم عن التداول النقدي».
ويقدم الصفراني الدليل على كلامه بالقول: «الدراسات النقدية التي تدرس الشعر العربي الحديث إنما استنبطت تقنيات دراسته من نصوصهم، وفي ذائقة ووعي كل ناقد أدبي رصين تقنيات إبداعية شعرية مستقاة من شعر الرواد يقيس إليها التجارب المعاصرة ليحدد مدى قربها أو تدنيها أو تجاوزها تلكم التقنيات، الإشكال الذي تطرحه أسئلتكم لا علاقة بالقراء أو بالرواية بقدر ما يتعلق برواج الشعر الجوائزي نسبة إلى الجوائز الشعرية التي تقام على مستوى الوطن العربي وكرست أسماء جديدة لها حظ متفاوت من الإبداعية وحظ وافر من الحضور الإعلامي أكبر من حظها الإبداعي».
عصر بيع الرواية
أما الأكاديمي البحريني الدكتور خليفة بن عربي فيقول: إن خفوت أسماء هؤلاء الشعراء أو قلة تعاطي الناس معهم، ليس بسبب ما ذكرنا، وباعتقاده ليست هي الأسباب المباشرة في هذه القضية، بل إن هؤلاء الشعراء لم يكونوا شعراء مرحليين، ولا تزال نصوصهم تدرس عند المتخصصين، في المناهج الدراسية، وما زال المحبون للشعر يرددون أصداء نصوصهم، بل على العكس يعتبرون مؤسسين للحركة الإبداعية الشعرية إلى تجمع بين القديم والجديد».
ويضيف: «نحن نفتقد اليوم إلى نصوص بحجم تلك النصوص السابقة، لهذا فإن نصوصهم لم تكن مرحلية، وإذا أردنا الحديث عن الحالة التي تطرحونها فهي لا تتعلق فقط بهؤلاء الشعراء، بل حتى القدامى كالمتنبي مثلا، أيضاً كنا نتحدث عن دور النقد، فالنقد قد يكون له دور في تحجيم نصوص هؤلاء الشعراء، أتكلم عن بعض سياقات النص التي قد أغرقت في المناهج النقدية والتي غربت عن اكتشاف جماليات النصوص، تلك الطرائق النقدية التي جعلت من النقد عملية رياضية جامدة، أو إحصائية باهتة.
ربما كان لبعض تلك السياقات النقدية دور في إغفال جماليات النصوص بشكل عام، لكن إن أردتم الجواب في تقديري، فهي قضية ثقافة، ثقافة مجتمع، فقد أصبحت ثقافة الناس اليوم ثقافة ضحلة تميل إلى السهولة، لذلك ذهبوا إلى الرواية، كما أشرتم أنتم، فأخذوا يقرأون الرواية واستسهلوها لأنهم لا يريدون أن يعملوا عقولهم بالشعر الذي هو بالأصل عبارة عن لغة منزاحة عن اللغة المباشرة، وهذا ليس عصر الرواية، بل هو عصر بيع الرواية، أما أن نقول بأن الرواية تزاحم الشعر فهذا لم يحصل أبداً، فالفنون لا تُحقق ولا تفاضل، بل هي يعدل بعضها بعضاً، ومع ذلك لا يزال الكثيرون يؤخذون بالنص الشعري، وما زال أبناء هذا الجيل يؤخذون بالقصيدة أياً كان شكلها، فالمسألة أعتقد أنها مسألة ثقافة ليس إلا».
وهنا يستشهد الدكتور بن عربي بالحادثة الشهيرة التي جاء فيها رجل إلى الشاعر أبي تمام فسأله: «لماذا تقول ما لا يفهم»، فرد عليه: «ولماذا لا تفهم ما يقال».
* سنة التدافع في الشعر
الشاعر العماني يونس البوسعيدي، له وجهة نظر يقول من خلالها: هذه إشارة مِنْ (الشِعر) في عالم غيبه اللطيف، إلى مخلوقاته الشعرية، أنّ مبدعيه الذين تخلد أسماؤهم قِلة. وقد لا يكون أنّ السبب يعودُ إلى وهن إنتاجهم الشعري، فماذا لو غاب عبقري شعري كالمتنبي عن الذاكرة آنا ما، هل يقال: إن المتنبي وهن، بل هي سنة التدافع في الشِعر كما هي سنة التدافع في الحياة، والمرحلية في الشِعر مثل (الموضة) تأتي وتذهب.
هناك أيضا مسببات منها الأساس الشعري بين المدارس والمناهج الشعرية التي يتخذها الشعراء (الآنيّون)، ووسائل أخذ ونشر الشعر، فمثلا لو جئنا إلى متذوقٍ للشعر أو ناقد أو شاعر حي بيننا من جيل عبد الوهاب البياتي، فإنه بطبيعة الحال للآن يتذوق شِعر تلك المدرسة، وقد لا يتذوق شِعر الشعراء الذين يفرزهم أي برنامج شِعري جماهيري، والشاعر الناشئ الآن لم يعُد يحتاجُ للعودة سوى للفيسبوك، الذي ينشر شِعر مجايليه، فيتلمّظ شِعرهم ويسير على مغناطيسية شِعرهم أو ربما يقلّدهم، وأولئك بدورهم فعلوا ما فعله غيرهم. أما بالنسبة للنقد الأدبي فلولا الدراسات الأكاديمية، فلا أظن أنّ النقد الأدبي الشِعري سيكون له وجود، وليس المسألة هو الذهاب للرواية واستسهال قراءتها والتعاطي معها عن الشِعر، فإنما هي حدائق، الكل يتجول حيث يشاء.
* طغيان المرحلة الجديدة
الشاعر عزان المعولي يعتقد أنه بالنظر إلى التسلسل الزمني لتطور الشعر، فإننا نجد أن «الشعر العربي تطور من الشعر الكلاسيكي القديم إلى مرحلة متقدمة تمثلت في شعر التفعيلة الذي أحدث طفرة متقدمة في السياق الشعري، شعراء تلك المرحلة مثلوا الصدارة في هذا النوع من الشعر والذي هو شعر التفعيلة وكونه طغى إعلاميا وفنيا بتميزه الجديد، فقد سيطرت أسماء على المشهد الشعري في تلك الحقبة. الشعر العربي لاحقا تعدى إلى مرحلة أخرى من التطور الزمني الذي تمثل في قصيدة النثر كشعر للحداثة أو ما بعد الحداثة».
ويضيف المعولي: «طغيان المرحلة الجديدة وسباق التنافس على الشعر النثري أضاف للمشهد الشعري أسماء جديدة سيطرت على واجهة النقد العربي وغيبت شعراء أضاءوا بكلماتهم الحقبة الماضية. ل
ا أتصور أن شعراء التفعيلة تقلص دورهم في مرحلة زمنية محددة بل دورهم ينبغي أن يظل أثره باقيا في ساحات النقد كونهم أسهموا في تطوير النمط الشعري القديم لذلك فلا يمكن اعتبار إنتاجهم مرحليا أو زمنيا فائتا».
وللشاعر المعولي نظرة حول النقد تختلف قليلاً عما طرحه الدكتور خليفة بن عربي في الجزئية نفسها، فيقول: بالحديث عن النقد العربي فالملاحظ في الكتابات النقدية غياب الصرامة في نقد الشعر والتحول إلى نقد إيجابي بالمطلق أو سلبي بالكلية لشخص الشاعر بدلا من المكتوب الشعري، واقعيا فجمهور قراء الشعر اليوم لا يزال يميل إلى شعراء تلك الفترة كالذين تم ذكرهم في السؤال وذلك لأسباب من بينها وضوح المعنى وغياب الغموض، فضلا عن الأغراض الشعرية المتناولة كالتأمل والوصف والقدرة على الغناء، في حين لا يزال شعراء الحداثة معزولين عن المتلقي أو الجمهور إلا ما ندر، بشأن الرواية فالناظر يجد أن الرواية العربية نجحت في سحب بساط الصدارة عن الشعر لاقتراب الروائي من القارئ العربي في مشاركة حياته اليومية لكن هذا لا يبرر إطلاقا غياب النقد الشعري فالشعر لا يزال يفرض نفسه كجزء من الفكر العربي الذي يجب أن تكون له الصدارة.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!