قبل بضعة أيام انطلقت في المملكة العربية السعودية رسائل «مركز الحرب الفكرية» عبر وسائل التواصل الاجتماعي، شارحة أهدافه باللغات العالمية.
والمركز تابع لوزارة الدفاع السعودية، ويعدّ أحد أهم الإفرازات الفكرية لولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يقود ثورة فكرية في داخل المملكة، تجلت بشكل واضح للعيان في مقابلته المتلفزة الأخيرة.
المركز الجديد، الذي يرأس الأمير محمد مجلس أمنائه، يدعمنا لطرح السؤال الرئيسي في هذه القراءة هل الإرهاب والتطرف، التشدد والأصولية في حاجة جميعها إلى وسائل عقلية وذهنية لمكافحتها، أم أن الحل الأمني هو الطريق الوحيد لإطفاء النيران المشتعلة؟
المؤكد، أن الإرهاب اليوم لم يعد تلك الخلايا العنقودية التي تنتظم في ترتيب هيراركي (هرمي) واضح المعالم، كما كان الحال في وقت ظهور تنظيم القاعدة، على سبيل المثال، فقد ألهم انتصار «داعش» في العراق قبل عامين جميع المتطرفين المختبئين في أنحاء العالم؛ مما سيزيد بالفعل من انتشار سرطان الإرهاب إلى ما وراء العراق وسوريا، ومحاولة التوغل في بقية المنطقة العربية، والعالم من ورائها.
في هذا السياق، تشتد الحاجة إلى «مركز الحرب الفكرية»، الذي يعمل على تصحيح المسار الخاطئ الذي مضى فيه العالم عبر عقدين تقريباً؛ إذ اعتبر الجميع أن المواجهات الأمنية والملاحقات الاستخباراتية للإرهابيين، كفيلة باجتثاث جذورهم، وهو ما ثبت عدم صحته؛ ذلك أن الحرب على الإرهاب بصفته فكرة مجردة ضمن تجريد الأشياء، تقع فلسفياً في نطاق القضايا الفاسدة، فأنت في حربك على الإرهاب بهذه الوسائل الأمنية والعسكرية فقط أشبه ما يكون بشن حرب على فكرة الغضب والكراهية اللتين تنميهما السياسات الخاطئة، مثل تلك التي حولت أفغانستان والعراق، والآن سوريا وليبيا إلى معامل لتفريخ الإرهابيين.
من هنا، تظهر جلياً الحاجة إلى «مركز الحرب الفكرية»، بصفته فعلاً من أفعال الاجتهاد والتجديد العقلي، فعل يقظة وحضور، وفعل حيوية وفاعلية، وفعل مبادرة ومسؤولية، يتفق مع طبيعة الإسلام العقلانية، التي تتصف بالعمومية والقابلية للتطبيق في كل زمان ومكان، وتبقى أهداف المركز ضرباً من ضروب الاجتهاد الذي يمثل وسيلة تأكيد تلك العمومية، وتفعيل تلك القابلية دائماً وأبداً؛ مما يقضي باستمراره وتجدده، في كل وقت وحين.
يبقى الإرهاب والتطرف نوعين من الباطل، ومع ذلك - ومن أسف شديد - قدّر لهما في العقود الثلاثة الماضية أن يجدا أرضية فكرية في أذهان الكثير جداً من الشباب العربي والمسلم، فهل ما جرى كان بسبب قصور عقلاني، في التواصل الفكري أدى إلى تلك الانحرافات الجسيمة، وذلك التطرف غير الخلاق؟
الشاهد، أن المشروع العالمي الذي يبسط «مركز الحرب الفكرية» لمواجهة التطرف، يقوم على ركائز فلسفية وسياسية وذهنية رائقة وراقية؛ ذلك أنه إن كان الإرهاب سلوكاً عملياً قائماً على أفكار محورية خاطئة ودفعت معتنقها إلى التطرف؟ ثم تحولت إلى عقيدة ثابتة لن تتزحزح من العقل الموبوء بها إلا مع خروج الروح من الجسد إلى بارئها، فإن المكافحة هنا لا يمكن أن تقوم أبداً عبر طلقات الرصاص للقضاء على الإرهابيين، بل عبر كشف الأخطاء والمزاعم والشبهات وأساليب الخداع التي يروج لها التطرف والإرهاب.
يعنّ لنا أن نتساءل: ما الخطأ الفكري الذي جرى في العالمين العربي والإسلامي في السنوات الماضية، وأتاح لهذا النبت الشيطاني أن يجد طريقاً إلى الحياة ليحيلها عبر دروبه السوداء إلى الموت؟
المقطوع به أن مفهومي التطرف والإرهاب نشآ في العقول ظاهرة فردية منعزلة وبعيدة كل البعد عن أي إطار تنظيمي أو سياسي في المجتمعات البدائية قبل أن يصبح أسلوب عمل جماعي منظم تتحرك قواعده وجنوده على الأرض، وتتحول إلى ظاهرة عابرة للحدود مع انتشار ثقافة العولمة؛ فتغزو أفكار التطرف العقول، متجاوزة كل الموانع والحواجز بفعل وسائل الإعلام الحديثة. على أن الإشكالية الأساسية هي أن صوت تلك الوسائل كان - ومن أسف مرة أخرى - هو الأكثر صخباً وضجيجاً ولابما سمعاً ومقدرة على اكتساب المزيد من النفوس والعقول، وربما يعزى ذلك إلى قصور في أدوات الدعوة الصحيحة والإرشاد الواعي.
في هذا الإطار، فإن مركز الحرب الفكرية، يحسن جداً أن يأخذ على عاتقه، وكما جاء في إعلان الانطلاق، أيضاً مسألة المنهج الشرعي الصحيح في قضايا التطرف والإرهاب، وتقديم مبادرات فكرية لكثير من الجهات داخل السعودية وخارجها، إضافة إلى مبادرات فكرية للتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب وآيديولوجيا التطرف.
والشاهد، أن مبادرة «مركز الحرب الفكرية» تكتسي أهمية خاصة من حيث كونها مبادرة عالمية، تتجاوز حدود العالمين العربي والإسلامي إلى آفاق الكون الوسيع، ولا سيما أن ظاهرة الإرهاب الناجمة عن التعصب والتطرف، باتت ظاهرة عالمية، تعاني منها قارات الأرض الست، ولم تخلُ بقعة أو رقعة على الأرض، إلا وأصابتها بفيروساتها القاتلة.
يدرك القائمون على المركز أن التطرف والتعصب يولدان العنف بالضرورة، حيث إن المتعصبين لديهم قناعة راسخة بعدالة قضيتهم يتصرفون من منطلق إحساسهم بالتفوق ويقينهم الذاتي، بأنهم مختلفون عن الآخرين، ويكنّون الاحتقار لمجتمعهم الصغير والكبير.
يصف الكاتب والمفكر الأفريقي الشهير «ووسي سوينكا» المشهد العالمي اليوم بأنه بات عالماً من المتعصبين، وهو عالم واحد ويتداخل مع جميع الأديان والآيديولوجيات والطموحات؛ فالروافد التي تغذي مستنقع التعصب قد تأتي من مصادر مختلفة، وقد يفصل بينها التاريخ والظروف المناخية، والجنس، أو أشكال الظلم والحرمان المتعددة، لكنها تلتقي في المصب نفسه، أي موقع اليقين المطلق الذي لا يناقش، ويدفعها دافع يسمح لكل شخص بأن يعلن نقاء ذاته ونصوع بياضها في مجتمع فاسد ملوث.
ولهذا؛ فإنه في غياب القدرة على الشك بالنفس يولد من اليقين المطلق إحساس بالتفوق، وهو ما تتسم به مواقف المتطرفين، وما يسمح لهم باقتراف أفعال عنيفة ضد المجتمع الذي يحتقرونه وكلهم صلف وغرور؛ لمجرد أن المجتمع لا يؤمن بمجموعة الآراء نفسها التي يعتنقونها هم.
من هنا، يمكننا وصف مشروع «مركز الحرب الفكرية» بأنه مشروع وطني داخلي، ومشروع عالمي خارجي يحارب الإرهاب عبر الأفكار المضادة، عاملاً على إنهاء جذوره الفكرية وحوامله الآيديولوجية والدوغمائية دفعة واحدة، ومحصناً الواقعين الاجتماعيين العربي والإسلامي في الداخل بنوع خاص من مخاطر العنف والإرهاب، وهي معركة مستقرة ومستمرة، تتطلب جهداً على جهد، وإرادة فوق إرادة لشراسة المعركة الفكرية التي يواجهها العالم اليوم.
والثابت من القراءة الأولية لرسائل المركز وأهدافه، أن هناك بعداً طيباً للغاية يتصل بسعي المركز للارتقاء بمستوى الوعي الصحيح للإسلام في الداخل الإسلامي وخارجه... ماذا يعنى ذلك؟
تاريخياً، هناك أخطاء ارتكبتها جماعات بعينها أثرت على الفهم الوسطي ومنهجية الوسطية والاعتدال في الإسلام على الصعيد الداخلي، جرى ذلك عندما اختلط الدين مع الفكر الديني أو الرأي في الدين.
ثم جرى بعد ذلك تسييس الدين، أو تدين السياسة، وهنا نتذكر ما يقول ابن المقفع «الدين تسليم بالإيمان، والرأي (السياسة)، تسليم بالخصومة، فمن جعل الدين رأياً جعله خصومة، ومن جعل الرأي ديناً فقد جعله شريعة». وهكذا؛ فإن الذين يسخّرون الدين لأغراض سياسية ويدّعون أنه يعبر عن إرادة السماء، إنما يحاولون تمرير أفكار خاصة، وإقناع الجماهير بها على أساس أنها إرادة إلهية وهي مجرد إرادة فرد أو حتى جماعة.
على أن إعادة الوعي بأصول الإسلام وثوابته في الداخل، لا بد أن يقابلها عمل فكري كبير في الخارج، ذلك أن الصورة الذهنية الإيجابية عن حقيقة الإسلام عالمياً قد تلقت طعنات خطيرة على مدار التاريخ، بعضها قديم والأثر محدث. أما عن القديم، فقد جرت به المقادير على ألسنة وأقلام وأوراق كثير من المستشرقين والكتاب الغربيين الذين افتأتوا على الإسلام والمسلمين من عينة البروفسور «برنارد لويس» بنوع خاص وأنداده، وهؤلاء حفروا خندقاً واسعاً مليئاً بالكراهية والتعصب والتزمت تجاه العالم الإسلامي، واعتُبر مورداً للعداوات والكراهات، التي أججت ثورات أصحاب القرار والسياسة. تجاه العالمين العربي والإسلامي؛ ما ولد ردود أفعال كارثية لدى قطاعات من الشباب المسلم، الذي قد مضى في طريق عنف مقابل.
يفلح مركز الحرب على الإرهاب فكرياً كثيراً جداً، بوضعه تلك الحرب من الجانب الآخر موضع القتال الفكري، الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، ومقارعة البرهان بالبرهان، أما الطعنات الحديثة فقد تمثلت في العمليات الإرهابية الخطيرة التي روّعت الآمنين في الكثير من العواصم الغربية، وخلفت تصوراً عمومياً مغلوطاً قطعاً، مفاده أن هؤلاء هم المسلمون عن بكرة أبيهم، وهذه هي خلاصة أفعالهم، وإن كان لمركز الحرب الفكرية أن يصنع صنيعاً عظيماً، فإنه لا بد من التواصل الفاعل مع العالم الغربي إعلامياً ومجتمعيا لبيان من يشوّه صورة الأمر بتأويلاته الفاسدة وجرائمه البشعة.
يبقى التطرف في كل الأحوال موقفاً فكرياً يرفض معتنقوه أي فرصة للحوار، كما يرفضون أي تلميح حول وجود قصور أو خطأ في فهمهم، ويذهبون في جدلها إلى أبعد مدى ممكن، وكل مدرسة من مدارسه الفكرية لديها متطرفوها، لكن الثابت أن المتطرفين من جميع الأطياف في نهاية الأمر يرفضون أي تسوية أو حل وسط مع الآخرين الذين لا يشاركونهم آراءهم.
هنا، ومن جديد، فإن مراكز الحرب الفكرية، وبحسب الصياغات الأولية الجيدة للقائمين عليه، يراهن على تكوين فهم عميق ومؤصل لمشكلة التطرف، من خلال أساليب وكوامن نزعاته، لكن تحديد الفئات المستهدفة من قبل الجماعات المتطرفة، وفهم الأدوات والمنهجيات التي تستخدمها الجماعات المتطرفة، ما الذي يجعل المركز، الذي نحن بصدده طرحه فكرياً، مغايراً في العالمين العربي والإسلامي، ويبشر بدور فاعل وخلاق له في قادمات الأيام؟
الشاهد، ملاحظات عدة تبين رحابة فكر القائمين عليه، وفي المقدمة فَهَمُ المجدد الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد، وخروج أفكاره عن صندوق الاتباع إلى دائرة الإبداع، بداية يفتح المركز أبوابه للتعاون البناء مع كثير من المؤسسات والمراكز الفكرية والإعلامية، وهو في هذا يقدم مثالاً واضحاً على فكرة اللقاء مع الآخر الذي يمتلك رأياً وطرحاً مختلفَين، دون أن يفكر في عزله أو إقصائه بعيداً، بل الاستفادة من تعدد الرؤى في طريق المجابهة الفاعلة لطاعون القرن الحادي والعشرين، أي الإرهاب الناتج من الأصوليات والهويات القاتلة ثانياً في الوقت الذي تشتد فيه ظلامية الاتجاهات اليمينية التي تعود بنا إلى دوائر الفاشية الفكرية الكارهة لأي تشارع أو تنازع عقلاني، نجد أن أحد أهم أهداف المركز، رسم سياسات وأساليب فاعلة لتعزيز قيم الاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم في سياق الإيمان، بحتمية التنوع والتعددية.
هذا الهدف النبيل في واقع الحال يتصل اتصالاً وثيقاً بالعالم الخارجي، مما يلقي عبئاً فكرياً على القائمين على المركز، ويحتم عليهم التعاون والاستعانة بالعقول الآسيوية والأوروبية والأميركية، وكل من يؤمن بروح اللقاء مع الآخر، في مواجهة الأطروحات النظرية المجردة التي عانى منها العالم في العقدين الأخيرين، مثل نظرية «صدام الحضارات» لصاحبها صموئيل هنتنغتون، أو «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكاياما، وإن تراجع لاحقاً عن شموليتها في شكل من أشكال إعادة القراءة لديالكتيك التاريخ الذي لا يتوقف، وإلا كانت نهاية الإنسانية بالفعل.
لعل نجاحات ونجاعات «مركز الحرب الفكرية» تتأتى من يقين ثابت، ظاهر للعيان ضمن سطور المركز وأهدافه، يقين بحتمية استخدام قوى التعددية الثقافية من أجل محاربة التطرف والتشدد، اللذين يقودان حتماً في طريق الإرهاب والعنف.
لقد حذر الكثير من المثقفين والفلاسفة والمفكرين مراراً من خطر العودة إلى نظم الحكومة الفاشية أو الشمولية التي تدعو إليها جماعات الإرهاب، والتي عانى منها العالمان العربي والإسلامي كثيراً مؤخراً؛ فالفكر المتطرف يطرح شعارات شديدة التبسيط لحل محلال معقدة، ويمثل هذا الفكر خطراً محققاً في جميع المجتمعات والأزمنة، ولكن مثل أي مرض، فإن له علامات وأعراضاً نستطيع أن نحتاط منها عبر الفكر المنفتح على الآخر، الواعي بحقائقه وتطوراته الإنسانية.
في هذا السياق، يسعى «مركز الحرب الفكرية» إلى أن يكون شعلة، وليس فقط شمعة للتنوير في عالمنا المعاصر، حيث يعرض قيم الإيمان السليم ومبادئه بخطاب يراعي تفاوت المفاهيم والثقافات والحضارات، منسجماً مع سياقه العصري.
المركز المتوقع له نجاحات طيبة، لديه إرادة حقيقية في الإفادة من الدراسات والبحوث التي تدفع في طريق ثنائية التفكير وتعظيم الاستفادة منها، لا أحادية الرأي الواحد التي تقود إلى الحكم الأوتوقراطي، الذي علمتنا التجارب التاريخية أنه يولد ويورث كوارث لا قبل للبشرية بها من جديد. طريق المركز لمحاربة الإرهاب يتقاطع إيجاباً مع إنشاء منصات علمية وفكرية، وعقد منتديات ومؤتمرات فكرية وكل أوجه التلاقح والتنافح، والشراكات الإنسانية والدينية الثرية، شرقاً وغرباً، التي جل هدفها تعزيز رؤية الهيمنة المعتدلة في زمن الأوصوليات والحروب والعنف النار والدمار والمرار.
يأتي المركز ليعزز رؤية المملكة العربية السعودية الحديثة، التي يقود نهضتها الفكرية والتنموية الأمير محمد بن سلمان، والداعية إلى احترام حقوق الإنسان والتسامح مع وجهات النظر الأخرى، والانحياز إلى العدالة الاجتماعية، وإلى رؤية كونية تتجاوز الحواجز القومية والعرقية والدينية، وهذه نقلة فكرية قبل أن تكون بنيوية لمواجهة الغلو والتطرف، ومسرب من مسارب العودة إلى زمن الحضارة العربية والإسلامية التي بزغت شمسها قبل قرون على العالم، في لقاءات وحوارات ذهبية، وآن لها العودة من جديد وهي عودة محمودة ولا شك.