إيمانويل ماكرون... «سوبر ستار» فرنسي

لمن تقرع أجراس باريس مساء غد؟

إيمانويل ماكرون... «سوبر ستار» فرنسي
TT

إيمانويل ماكرون... «سوبر ستار» فرنسي

إيمانويل ماكرون... «سوبر ستار» فرنسي

في الساعة الثامنة تماماً من مساء غد (الأحد)، ستظهر على شاشات التلفزة الفرنسية صورة الرئيس (أو الرئيسة) المقبل لفرنسا الذي سيتسلم من الرئيس المنتهية ولايته فرنسوا هولاند مقدرات البلاد لخمس سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة. وبما أن الأخير أعلن أكثر من مرة أنه سيمارس صلاحياته الرئاسية حتى آخر لحظة من عهده، فمن المنتظر أن تجري عملية التسلم والتسليم في قصر الإليزيه يوم الأحد 14 مايو (أيار)، وهو تاريخ انتهاء ولاية هولاند. وإذا ما تم العمل بهذا السيناريو، فإنها ستكون المرة الأولى التي تحصل فيها هذه العملية يوم أحد منذ 110 سنوات. ذلك أنه خلال 170 سنة من عمر الجمهورية الفرنسية، فقد جرت مرة واحدة يوم الأحد 18 فبراير (شباط) في عام 1906 مع تسلم الرئيس آرمان فاليير مهامه الرئاسية.
حتى طباعة هذه السطور، كانت المؤشرات كلها تدل على أن مرشح الوسط إيمانويل ماكرون سيحقق حلمه ليصبح بعد ساعات الرئيس الثامن لـ«الجمهورية الخامسة» في فرنسا؛ إذ إن استطلاعات الرأي تجمع على أنه سيكون الفائز في هذه المبارزة الانتخابية بفارق مريح (60 في المائة مقابل 40 في المائة لمنافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان) يتجاوز هامش الخطأ في هذا النوع من الاستطلاعات (ما بين 2.5 و3 نقاط في المائة).
ما يرسخ قناعة مناصري ماكرون بأن «المبارزة» التلفزيونية التي تواجه فيها مع لوبان مساء الأربعاء الماضي حسمت لصالحه. ومقابل عنف منافسته وإقدامها منذ اللحظات الأولى من المناظرة على كيل سيل من الاتهامات، لا بل الشتائم، نجح ماكرون في المحافظة على هدوئه من غير ضعف وبدأ دوماً ساعياً لشرح برنامجه الانتخابي والتدابير التي ينوي اعتمادها لإخراج فرنسا من محنتها.
لقد بدأ المرشح الشاب متمكنا من ملفاته الاقتصادية والاجتماعية، بينما اكتفت لوبان بتكرار مواقف عامة وعناوين حرص ماكرون على تفنيدها. والأسوأ من ذلك بالنسبة لمرشحة اليمين المتطرف أنها بدت متأرجحة وغير واثقة مما تقوله في موضوع أوروبا والعملة الموحّدة. وفي ملفات الإرهاب والأمن والهجرة والإسلام، التي كانت لوبان تعوّل عليها لسد الفجوة التي ما زالت تفصلها عن ماكرون، نجح الأخير إلى حد كبير في الرّد عليها. كذلك، لم تنفع اتهاماتها له بأنه «مرشح النخبة والبورصات وأسواق المال»، وبأنه «منبطح» أمام المستشارة الألمانية، ولا يعرف هموم الشعب وأنه مرشح هولاند... وآخر ما تفتق به ذهنها الإيحاء، خلال المناظرة التلفزيونية، بأن ماكرون يملك حسابات «أوف شور» سرية في جزر الباهاما.

«لمسات» موسكو؟
وجاءت اتهامات «آخر لحظة» على خلفيات أخبار وكتابات وردت في مواقع إلكترونية أميركية. وكان رد ماكرون قاطعاً؛ إذ نفى بقوة امتلاكه أي حساب في الخارج، وفي اليوم التالي للمناظرة، وبعدما شهد يوم الخميس انتشاراً واسعاً لهذه الشائعات، تقدم ماكرون بشكوى إلى القضاء الفرنسي الذي بادر فوراً إلى فتح تحقيق بالنظر إلى خطورة الاتهامات، وما يمكن أن تفضي إليه من تأثير على الناخبين الفرنسيين. وبحسب معلومات للفريق الإلكتروني العامل مع ماكرون، فإن أولى الشائعات انطلقت من الولايات المتحدة عبر مواقع عملت لصالح دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية. أما في فرنسا، فقد تلقفتها مواقع قريبة من الدوائر الروسية الرسمية التي اعتادت أن تنشر تقارير وكالة «سبوتنيك» أو مجموعة «روسيا اليوم» الروسيتين.
الواضح أن فريق لوبان لعب في الساعات الماضية ورقته «الأخيرة» لوقف تقدم ماكرون نحو قصر الإليزيه. بيد أن المراقبين يستبعدون أن تنجح خطته في تغيير مسار الأحداث بنهاية معركة انتخابية ربما تكون الوحيدة من نوعها في تاريخ الرئاسيات الفرنسية. ونجاح ماكرون - إذا تحول إلى واقع - ووصل إلى رئاسة الجمهورية، سيكون مثالاً يُدرّس في معاهد العلوم السياسية. كذلك، فإن مجريات الحملة الانتخابية وتطوراتها بمجملها كانت أشبه بمسرحية كثيرة المفاجآت، ومن تداعياتها إعادة تشكيل المشهد السياسي في فرنسا، وستظهر مؤشراته الأولى بدءا من مساء الأحد؛ لأن الانتخابات التشريعية (البرلمانية) ستجرى في يونيو (حزيران) المقبل ومصيرها سيكون له تأثير بالغ على مسار العهد الجديد. ذلك أن ماكرون سيكون في حاجة إلى أكثرية برلمانية ليحكم. والسؤال المطروح: ممن ستتشكل هذه الأكثرية، خصوصاً أن كثيرين ممن سيقترعون له غداً، وسيمكنونه من الرئاسة، سيكونون فعلوا ذلك ليس من باب تبني برنامجه... بل لقطع الطريق على لوبان.

قصة نجاح
في شهر أبريل (نيسان) من العام الماضي، أطلق إيمانويل ماكرون - وزير الاقتصاد حينذاك - حركة سياسية فرنسية جديدة سماها «إلى الأمام». عندها بدأ المعلقون السياسيون يتحدثون عن الطموحات الرئاسية للشاب البالغ من العمر 38 سنة.
وشيئاً فشيئاً، حمي وطيس الجدل بين فريق يقول إنه «لن يجرؤ» على الترشح ضد الرئيس هولاند لأنه «صنيعته». ذلك أن الرئيس الاشتراكي هو من أخرجه من المجهول أولاً، عندما عيّنه مستشاراً اقتصاديا له بناءً على نصيحة من جاك أتالي، المستشار الخاص للرئيس الاشتراكي الأسبق فرنسوا ميتران. وبعدما فاز هولاند بالرئاسة، انتقل ماكرون - خريج المعهد الوطني للإدارة - معه إلى الإليزيه ليكون نائب مدير عام الرئاسة، مع الاستمرار في عمله مستشارا اقتصاديا. أما الخطوة اللاحقة، فقد تمّت عندما كلفه بتولّي حقيبة وزارة الاقتصاد في حكومة مانويل فالس ليغدو أصغر وزير فيها. لمجموع هذه الأسباب، لم يكن متوقعاً أن ينافس ماكرون ولي نعمته، ولا سيما، أن رؤساء الجمهورية في فرنسا، يميناً ويساراً، دأبوا على الترشح لولاية ثانية يتيحها الدستور. فالجنرال شارل ديغول، أول رئيس لـ«الجمهورية الخامسة»، حكم لولايتين، لكنه لم يكمل الثانية بسبب «الثورة الطلابية» وأحداث مايو 1968، ومن ثم وخسارته للاستفتاء الخاص بإدخال إصلاحات سياسية وإدارية ففضّل الاستقالة. وحل بعد ديغول في قصر الإليزيه، رئيس حكومته جورج بومبيدو. إلا أن مرض السرطان لم يمكنه من إكمال ولايته الأولى فتوفي إبان رئاسته. ولكن في عهد بومبيدو لمع اسم وزير الاقتصاد والمال وسليل عائلة أرستقراطية من وسط فرنسا هو فاليري جيسكار ديستان الذي فاز بالرئاسة عام 1974 على منافسه الاشتراكي فرنسوا ميتران. لكن جيسكار - كما يسميه الفرنسيون - أخفق في عام 1981 في الفوز بولاية ثانية. وكانت النتيجة وصول غريمه الاشتراكي ميتران إلى القصر الرئاسي لولاية من سبع سنوات، أعقبها فوزه بولاية ثانية انتهت عام 1995. ومثل ميتران، نجح «الديغولي» جاك شيراك في أن يحكم فرنسا لولايتين، ولقد فاز بالثانية عام 2002 بنسبة 80 في المائة وكان منافسه يومذاك جان ماري لوبان، زعيم «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة ووالد المرشحة الحالية مارين لوبان. ومن ثم، انتقلت الرئاسة من شيراك إلى يميني آخر هو نيكولا ساركوزي. لكن الأخير أخفق عام 2012 في الحصول على ثقة الفرنسيين مرة ثانية، فخسر الانتخابات لتذهب الرئاسة إلى الاشتراكي فرنسوا هولاند.

ماكرون «الظاهرة»
يجمع المحللون السياسيون على أن هولاند كان ينوي السير على خطى مَن سبقه في الترشح لولاية ثانية. إلا أن ضعفه السياسي، قبل عام من الاستحقاق الانتخابي بسبب غياب النتائج الاقتصادية والاجتماعية الإيجابية، واتباعه سياسة ليبرالية مخالفة لوعوده الانتخابية، وأخطاءه الشخصية، قلّصت حظوظه في الترشح والفوز. لكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير جاءت عندما أعلن «ربيبه» ماكرون في أغسطس (آب) الماضي ترشحه للرئاسة بغض النظر عما سيقرّره هولاند. وعمد وزير الاقتصاد السابق إلى الاستقالة من منصبه الوزاري ليتفرّغ لمعركة ترشحه. ثم رئيس الحكومة الشاب برر طموحاته باعتباره أن ضعف هولاند سياسيا يفتح له - أي ماكرون - الباب واسعاً للترشح. وخسارته الانتخابات الداخلية بوجه منافسه بونوا هامون، ممثل التيار اليساري في الحزب الاشتراكي، أزاحته من المنافسة حقاً... وأوجدت المساحة السياسية التي يحتاج إليها ماكرون. وهذا، الأخير، في هذه الأثناء، أراد تخطي الاصطفافات التقليدية بين اليمين واليسار، وعلى جانبيهما اليمين المتطرف واليسار المتشدد. مع هذا، رأى كثيرون أن ماكرون مجرد «فقاعة إعلامية» أو «مرشح افتراضي» أو حتى «صنيعة مؤسسات استطلاع الرأي». وبناءً عليه؛ لن يصمد في السباق الانتخابي لأنه سيعجز عن إثبات وجوده في وجه أحزاب متجذّرة في المجتمع الفرنسي، ولها «ماكيناتها» السياسية والإدارية والتنظيمية. يمثل صعود ماكرون ظاهرة سياسية حقيقية في المجتمع الفرنسي. فهو، بداية، يعكس رغبة التجديد والانفتاح رغم وصف منافسيه له بأنه «مرشح البورصة» و«أوليغارشيا المال»، أو أنه «الطفل المدلل» للوسائل الإعلامية القوية ولأرباب العمل. وتذهب منافسته مارين لوبان أبعد من ذلك فلا تتردد في وصفه بـ«مرشح الخارج» و«المجموعات الإسلامية» و«المهاجرين»، وتتهمه بالتخلي عن «الهوية الفرنسية»... إلى غير ذلك من النعوت التي يراد منها نزع الشرعية عنه.

هذه هي السياسة
لكن الواقع، أن ماكرون، الذي من المرجح له أن يكون الرئيس المقلل لفرنسا، نجح في التسويق لخط سياسي اقتصادي ليبرالي أوروبي من دون أن يتخلى عن أساسيات توفير الحماية للمواطن والمحافظة على الضمانات الاجتماعية الأساسية في المجتمع الفرنسي. والتحدي الكبير أمامه إذا ما أصبح الرئيس الثامن للجمهورية، هو النجاح في تأمين أكثرية نيابية تدعم عمله في مجلس النواب وتوفر الاستقرار السياسي الضروري من أجل إنجاز الإصلاحات التي وعد المواطنين بها. غير أن انتخاب ماكرون - في حال فاز - لن يعني بالضرورة، كما سبقت الإشارة، تبنيا له أو لبرنامجه، بل إنه في جزء كبير منه لقطع الطريق على مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف... ولتلافي أن تغدو فرنسا أول دولة غربية كبرى يحكمها اليمين المتطرف. والمفهوم أن لهذا الأمر تبعات تهدد البناء الأوروبي والعملة الموحّدة، وتعزز صعود القومية المتعصبة، وتروّج الخطاب الشعبوي المعادي للمهاجرين والإسلام، وتحفّز لقيام سياسات حمائية، وإلغاء اتفاقية التنقل الحر المعروفة باسم «اتفاقية شينغن»، فضلا عن الإساءة لصورة فرنسا ومكانتها وسمعتها بصفتها أول دولة في العالم كرّست في نص مكتوب شرعة حقوق الإنسان.
بكلام آخر، فإن وصول لوبان من شأنه أن يدشّن عصراً غامضاً مليئاً بالمطبات الخارجية والداخلية.

الوريثة العقوق
في المقابل، منذ بداية الحملة الرئاسية، دأبت مارين لوبان على تمييز ترشحها عن الآخرين؛ إذ إنها تقدم ذاتها على أنها «ضد النظام» القائم، وأنها «مرشحة الشعب». لكن حقيقة الأمر أنها «الوريثة السياسية» الوحيدة من بين مرشحي الدورة الأولى الـ11؛ حيث إن لوبان ورثت رئاسة حزب «الجبهة الوطنية» من والدها الذي تخاصم مع قدامى رفقائه لتنصيبها زعيمة له، ولتصبح بشكل آلي مرشحته للرئاسة. المرة الأولى كانت في عام 2012، والمرة الثانية في 2017.
كذلك، فإن قول لوبان أنها «ابنة الشعب» ومرشحته يجافي الحقيقة؛ إذ إنها عاشت منذ ولادتها في قصر ورثه والدها بطريقة غامضة من أحد قدامى أثرياء «الجبهة الوطنية»، كما ورث أمواله وأصبح بالتالي غنياً.
مع هذا، تخاصمت لوبان لاحقا مع والدها لأنها برأيه «حادت» عن خط الجبهة وتبنّت مساراً «معتدلا». وذهبت الأمور إلى المحاكم، ونزعت عنه الرئاسة الفخرية كما سعت الابنة إلى إخراج أبيها من الحزب لأنها وجدت أنه تحوّل إلى عائق في طريقها إلى السلطة. وربما ما يجمع بين المرشحين ماكرون ولوبان أن كليهما تصدق عليهما حالة «قتل الأب» الرمزية. فالأول قضى على آمال أبيه الروحي فرنسوا هولاند، والثانية «حيّدت» والدها ووضعته عملياً على الرف. وبالنسبة للوبان، قامت استراتيجيتها فعلياً على «تطبيع» وضع «الجبهة» وتحويلها إلى حزب كبقية الأحزاب الفرنسية أكانت يمينا (الجمهوريون) أو يساراً (الاشتراكيون). وخلال السنوات السبع التي انقضت على ترؤسها «الجبهة»، استفادت لوبان من أخطاء الأحزاب التقليدية، ونجحت في توسيع قاعدتها الانتخابية، ولقد برز ذلك في الانتخابات الإقليمية والمحلية. إلا أن البرلمان الفرنسي بقي عصيا على «الجبهة» المتطرفة التي لم تنجح إلا في إيصال نائبين في الانتخابات التي أجريت قبل خمس سنوات. ولذا؛ فإن حلول لوبان في المرتبة الثانية خلال الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية ليس سوى «ترجمة» لتقدمها المستمر منذ 2011؛ وبذا تكون لوبان «الظاهرة» الانتخابية الثانية؛ إذ إن «الجبهة الوطنية» تحولت إلى ثاني قطب سياسي وضع حدا مع إيمانويل ماكرون لـ«الثنائية القطبية» القديمة القائمة على تداول السلطة بين يمين تقليدي ويسار اشتراكي.
وإذا لم تصل لوبان إلى قصر الإليزيه هذه المرة، فإنها على الأقل اجتازت أكثر من نصف الطريق التي تفصلها عنه. فضلا عن ذلك، لم يعد من الصعب على «الجبهة» أن تحصل في الانتخابات التشريعية التي ستجرى في يونيو المقبل بعد أقل من شهر على الرئاسيات، على عدد كاف من النواب لتكوين مجموعة مستقلة تحت قبة البرلمان؛ الأمر الذي سيضمن لها حضورا سياسيا ونيابيا، ويمكّنها من التغلغل أكثر فأكثر في شرايين الدولة الفرنسية. وبعدما كان محازبو اليمين المتطرف يخفون انتماءهم لهذا التيار الفكري والسياسي وتبنيهم آيديولوجيته، فإنهم اليوم يعلنون جهاراً انتماءهم له... ما يعني أن كسر الحاجز النفسي الذي كان يحول دون تقدّم فكر اليمين المتطرف وتغوّله. وجاءت الأعمال الإرهابية التي ضربت فرنسا في العامين الأخيرين، معطوفة على موجات الهجرة المكثفة باتجاه أوروبا، لتنفخ في أشرعة اليمين المتطرف ولتضعه على أبواب السلطة.

السقف الزجاجي
تعبير «السقف الزجاجي» سياسيا يعني في اللغة الفرنسية وجود «حاجز» غير مرئي يحول دون وصول حزب أو حركة إلى موقع معين. والمقصود في حالة «الجبهة الوطنية»عجز مارين لوبان عن الوصول إلى رئاسة الجمهورية لأسباب تتعلق بتطرف «الجبهة» وماضيها وبالاسم الذي تحمله. لكن المراقبين يلاحظون أنه عندما تأهل جان ماري لوبان للجولة الثانية في انتخابات الرئاسة عام 2002، سارت المظاهرات الشعبية في الشوارع، وتوافقت كل الأحزاب يميناً ويساراً على التصويت ضده. أيضا اللافت أن الأجهزة الإعلامية كانت تقاطع جان ماري لوبان.

غير أن الصورة تبدّلت الآن
ابنة مؤسس «الجبهة الوطنية» موجودة ملء السمع والبصر على شاشات كل القنوات التي تتنافس على دعوتها. وما يصح على الإعلام المسموع والمرئي يصح أيضا على الصحافة المكتوبة؛ الأمر الذي يبين مرة أخرى أن نظرة الناس إلى اليمين المتطرف قد تغيرت. وثمة أشخاص يرون أن اليمين واليسار قد أخفقا، فلماذا الامتناع عن تجربة شيء جديد؟
أضف إلى ذلك، أن الاتفاق على برنامج «حكم مشترك» الذي أبرمته لوبان مع نيكولا دوبون دينيان، مرشح حزب «فرنسا انهضي» اليميني المتشدد - الذي يدعي أنه ديغولي الهوى والسياسة -، وهو أول اتفاق تبرمه «الجبهة» مع رئيس حزب، بيّن أن لوبان تريد أن تطبع في عقول الناس أنها أصبحت «جاهزة» لتولي أعلى المسؤوليات في الجمهورية الفرنسية.
وبموازاة ذلك، فإن تردد بعض قادة اليمين في الدعوة الصريحة للاقتراع لصالح ماكرون، وفتور اليسار الاشتراكي، وتردد - لا بل امتناع - مرشح اليسار المتشدد جان لوك ميلونشون عن القيام بذلك، دلائل تظهر بشكل واضح أن «الجبهة الجمهورية» التي تصدّت بنجاح في الماضي للوبان «الأب» غير قائمة عملياً اليوم في وجه لوبان «الابنة»؛ وهو ما يجعل الأبواب مفتوحة على الكثير من الاحتمالات.
حتى الساعة، يبدو شبه مؤكد أن فرنسا لن تسلم مفاتيح القيادة هذه المرة لزعيمة اليمين المتطرف. لكن، رغم ذلك، فإن «الجبهة الوطنية» تحوّلت تحت قيادتها إلى لاعب رئيسي على الساحة الفرنسية، وستكون الانتخابات التشريعية فرصة لها لإرسال مجموعة واسعة من النواب إلى البرلمان. ففرنسا التي تداول على حكمها اليمين التقليدي واليسار المعتدل أصبحت اليوم من الماضي. وبعد الثنائية القطبية، تفتت المشهد السياسي وهو اليوم في طور إعادة التركيب والترتيب.
إنها ولادة عسيرة تأتي بعد مخاضات مؤلمة، ليس فقط لزعيمة اليمين المتطرف التي اعتقدت أن دورها قد حان للوصول إلى السلطة، ولكن أيضاً وخصوصاً، لمن غابوا عن التنافس في الجولة النهائية (اليمين مع حزب الجمهوريين واليسار مع الحزب الاشتراكي)، وهم يحلمون بأن تفتح لهم الانتخابات التشريعية الباب للعودة إلى مواقعهم المألوفة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.