«الخائفون» عند ديمة ونوس ينتهون إلى الجنون

سيرة «غير صريحة» للحياة العائلية لسعد الله ونوس

سوريا... جمهورية الخوف
سوريا... جمهورية الخوف
TT

«الخائفون» عند ديمة ونوس ينتهون إلى الجنون

سوريا... جمهورية الخوف
سوريا... جمهورية الخوف

عليك أن تنتظر حتى الثلث الأخير من رواية ديمة ونوس «الخائفون»، كي تتيقن أنك لست ضائعاً في التفاصيل، ولا تائها في الحكايات، وأنك أمام عمل يكاد يكون شبيهاً بسوريا في قلقها قبل اندلاع الثورة وتمزقها خلال الحرب، ومثلها في الارتباك والارتجاج قبل لملمة أشلاء القصة.
تداخل في الشخصيات لا بل في المهن أيضاً والأسماء. قصص يختلط فيها الواقعي الفج بما هو متخيل فنتازي، سفر في الأزمنة جيئة وذهاباً، انتقال في الأمكنة بين دمشق وحماة وبيروت والطرقات التي تربط بينها، وصولاً إلى ألمانيا. تقلب في الأمزجة وحضور لبيوت كثيرة، ربما في محاولة لتأطير الذاكرة وإعادة بنائها، في زمن التفتت.
الراوية سليمى هي العمود الفقري، وبلسانها الشخصي تقص حكايتها، التي تشبه في وجوه كثيرة منها حياة الكاتبة نفسها. هكذا تستعير ديمة ونوس من سيرتها الذاتية ما تشاء، خاصة تلك العلاقة الاستثنائية التي ربطتها بوالدها، مقابل نفور شديد من غالبية أفراد عائلته. دمج الروائي بالشخصي يحرر ونوس ويسمح لها في الوقت ذاته أن تبوح خلف ستر روائية متلونة.
تفتتح الرواية في عيادة الطبيب النفسي كميل الذي يستقبل مرضى يتزايدون بفعل تصاعد الألم والاختلالات لدى أناس خضعوا لأنواع مختلفة من القمع والعنف والكبت، حتى تحول مكتبه إلى ما يشبه مستشفى. في عيادته نماذج هي في مشاكلها، مرآة لمجتمع يتصدع. عند كميل الذي تداوم على زيارته ليساعدها على قراءة مخبوءاتها، تلتقي سليمى نسيم ذا العظام الناتئة الذي تحبه، وتعرف منه أنه كاتب، لتكتشف لاحقاً أنه في الأصل طبيب درس الاختصاص كي يرضي والدته، وبقي «غير موهوب وناقص الجرأة» في ممارسة مهنته. نعرف فيما بعد أيضاً أن سليمى رسامة، لكنها لم تعد تقوى على الرسم، وأخذت تنخرط في الكتابة. تكتشف تدريجياً حين يسلمها نسيم مخطوطة رواية يكتبها ولم تكتمل أن بطلته سلمى، لا تشبهها فقط في اسمها وإنما تكاد تكون هي. وتسأل نفسها إن كان نسيم يحبها فعلاً؟ وهل سرق قصتها منها وكتبها، أم ثمة امرأة أخرى بهذه المواصفات، تمر بظروف مشابهة. «لماذا كتبت عني، هل لأنك لم تعد قادراً على الكتابة؟ هل استعرتني لتهرب من قصتك؟».
في غمار الانتقال بين حياتين لسليمى وسلمى، تكمل إحداهما الأخرى وتساعدها على تعرية الذات، تأخذنا سليمى إلى قرية والدها، إلى عائلته العلوية التي تنظر إلى والدتها السنية بعين النبذ. يتجلى ذلك على لسان ابنة عمتها التي تقول لها عن أمها: «الرحم السني اللي حملك يبلاه بالسرطان» عندها «صرت أتضاءل، أرى نفسي أنكمش، وأتحول إلى بذرة في رحم أمي». لا تتوقف سليمى عن الربط بين ما تسمعه من عائلة والدها وما تعرفه عنها، وممارسات نظام بأكمله بشبيحته وفكره وسلوكياته: «صرت أفهم كيف يقتلون الناس ويعذبونهم، ويستلذون. إنهم لا يرون بين أيديهم المتوحشة أجساداً بل نطفاً قذرة يجب سحقها».
تصفية حساب أدبية مع العائلة أم النظام لا فرق. يكاد الاثنان يجسدان رؤية واحدة وذهنية متكاملة تفسر واحدتها الأخرى. سليمى تذهب في الزمن إلى طفولتها يوم كان لباسها أقرب إلى الأميرات في دمشق، لكنها حين تعود من ضيعة الأب ومن أحضان عائلته تصير تتحدث لهجة لا تليق ببنات وأبناء المدن الكبرى. «اللهجة الفلاحية» هذه تحمل دلالات كبرى لأنها «قادرة على تحويل رجل بسيط ومهمش إلى سلطة تتحدى سلطات شرطة السير والموظفين الحكوميين والمارة والباعة وكل فرد لا يتقنها. اللهجة كانت هوية. وليست أي هوية، إنها هوية السلطة المطلقة وهوية الظالم والمتجبر. هوية الرعب والهلع والمجهول. من يتحدثها بإتقان، يختصر وقتاً وجهداً وطاقة يتطلبها العيش في بلد كسوريا الأسد». هذا يأتي مقابل عائلة الأم الصغيرة التي تكاد تكون «عائلة افتراضية»، لكنها «حاضرة كالأساطير» في حياتها.
حياة سليمى معجونة بأحداث جسام. التمفصل بين الخاص والعام سمة الرواية. الأب طبيب من حماة تركها هرباً من مجازر 1982. الأم لا تسامح هذا الوالد الذي يعلق صورة القائد فوق رأسه خوفاً. صورة الأم المتمردة والهادئة التي ترعى زوجها المريض بالسرطان، تطغى على كل الرواية. الأخ فؤاد يختفي. الأب المصاب بالسرطان يموت تاركاً الحياة من بعده خواء لسليمى التي لا تزال في الرابعة عشرة. الحبيب نسيم بعد أن تقضي عائلته في حمص ويتهدم منزله، يذهب إلى ألمانيا في قوارب الموت برفقة أب مجنون مريض، ويبقى هناك تاركاً سليمى التي بدورها تتنقل بين بيروت ودمشق.
يكاد الجميع يسجن تقريباً، أو يموت في ظل نظام يبث الرعب في قلوب الناس. ومن لا يسجن فعلياً، يبقى سجين مخاوفه. إنهم أبطال «خائفون» أبداً من كل شيء، حتى من خوفهم.
هكذا يختفي الرجال تدريجياً «لا رجال في حياتي أبي مات باكراً، فؤاد اختفى، نسيم سافر، وها أنا أجلس وحيدة مع أمي، كما تجلس هي وحيدة مع أمها». لكن الأم فقدت رجالها هي الأخرى «هل تحتمل أمي كل هذا الفقدان؟ أخاها وزوجها وابنها وابنتها؟».
تترك سليمى البيت ذاهبة إلى بيروت للقاء سلمى بطلة نسيم، وغريمتها أو قرينتها، بعد أن مزقها الفضول. تعرف عنها أنها «تعمل في دار نشر لبنانية إلى جانب عملها في منظمة غير حكومية تعنى بأمور اللاجئين. ولم تعد تجرؤ على المجيء إلى دمشق لأنها مطلوبة لأحد الفروع الأمنية».
في بيروت، وبعد أن تضرب لها موعداً تذهب سليمى للقاء سلمى، في أحد مقاهي الأشرفية، لكنها تنظر إليها من بعيد وتنصرف. فهي ليست سوى لعبة روائية، خدعة لإضافة المزيد من التفكك إلى المشهد، المزيد من اللبس والضبابية في العلاقة مع الذات والآخر. فهذه المرأة لا تعرف إن كان نسيم يحبها أم أنها مجرد اختراع أدبي. لا نعرف أيضاً على وجه التحديد إن كانت سليمى تحب نسيم كما تقول طوال الرواية، أم أنها تتوهم هذه العاطفة. كل شيء في القصة قد يحمل المعنى وضده. «لم أعشق نسيم، بل رجلاً آخر تخيلته، رسمت ملامحه، نحت عضلاته وعظامه، نفخت فيه الروح، وألبسته لنسيم. أي أنني أصلاً لم أعشق رجلاً موجوداً إلا في خيالي». نسيم، إذن مجرد وهم، بدلاً عن ضائع. مشهد موت الأب يعود إلى ذاكرتها حين كان راقداً في المستشفى وإلى جانبه زوجته، تودعه. ذهب الأب الذي كان يرقبها عن كثب صارت هي تراقب نفسها عوضاً عنه، لتصل إلى حافة الجنون.
هذا الخلط في هوية الشخصيات وماهيتها هو جزء من اللعبة، يرتفع بالرواية حيناً، ويهبط بها حيناً آخر، خاصة حين يجد القارئ نفسه تعباً من ملاحقة تفاصيل تدخله في حيثيات كان يمكن الاستغناء عنها، والتواءات في القص كان بالإمكان تبسيطها. عليك أن تجمع الخيوط بين حياة سليمى ووالدها الطبيب المريض الذي يقضي باكراً، وقصة سلمى ووالدها الكاتب الذي يحمل الكثير أيضا من ملامح سعد الله ونوس، لتلج إلى مشهد شبه مكتمل. تقول سليمى: «إن كانت سلمى تلاحق والدها كالظل فأنا كان والدي هو ظلي يرافقني في البيت وبين غرفه الكثيرة، وكأننا في نزهة. يساعدني في إنجاز دروسي. يقلقه مرضي أو ارتفاع حرارتي. يحرص على عدم تفويت فرصة قراءة القصص قبل النوم».
ليس مهماً من يروي، وعلى لسان من تأتيك الحكاية وعبر أي شخصية، فكل الحكايات ستصب في النهاية في مكان واحد. ها أنت أمام عالم يكاد يشرّح ببطء في عيادة الطبيب النفسي كميل الذي يصبح هو أيضاً من المرضى ومعه الشبيحة الذين لا ينقطعون عن زيارته، لنصل إلى التساؤل التالي «هل فقدنا عقلنا جميعاً... ما يحدث أقوى منا كلنا، يفوق قدرتنا على التحمل، يتجاوز قدرة كل منا على حدة».
يعود الأب بقوة في آخر الرواية تستذكره ابنته وهي في بيروت تبحث عن قرينتها. «الآن أشتاق إليه أكثر من أي وقت مضى، كلما تذكرت نسيم أشتاق إليه أكثر! كلما حضر نسيم، ابتعد بابا أكثر.... لم يترك لي بابا عائلة قبل رحيله. كان هو العائلة بأكملها. رحل وترك لي أمه وبيت طفولته، والكثير الكثير من الكتب والأوراق ودفاتر مذكرات وصوراً وأقلاماً».
الأب لا يموت بل يغيب، أو يموت تكراراً ويبقى موجوداً، لكن حين تصل الابنة إلى الحدود السورية اللبنانية بعد خمسة عشر عاماً على وفاة والدها يسألها ضابط الأمن «أين والدك»؟ فتخبره أنه رحل، أنه مات. وتعرف من الضابط أنه مطلوب للمخابرات. إنهم لا يزالون يفتشون عنه. وتقول وكأنما فقدت كل أمل: «اليوم قبل قليل تحديداً، على الحدود السورية اللبنانية مات بابا».



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.