الإرهاب وأزمة الحداثة عالمياً... من {الإسلاموفوبيا} إلى «الدمقرطة»

وسط تحولات في سلم القيم والأولويات للدول والمجتمعات

عناصر من «داعش» في موكب سيارات قبل خسارتهم الكثير من الأرض في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش» في موكب سيارات قبل خسارتهم الكثير من الأرض في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
TT

الإرهاب وأزمة الحداثة عالمياً... من {الإسلاموفوبيا} إلى «الدمقرطة»

عناصر من «داعش» في موكب سيارات قبل خسارتهم الكثير من الأرض في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش» في موكب سيارات قبل خسارتهم الكثير من الأرض في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)

غدت كلمتا «داعش»» و «الإرهاب» من أكثر المفردات - والهواجس تكرارا في اللغات والوعي العالمي، عبر نشاطها في بؤر توحشها أو عملياتها في سائر أنحاء وعواصم العالم، وقد وصفت الأمم المتحدة في قرار مجلس الأمن رقم 2249 لسنة 2015 الإرهاب الراهن بأنه «خطر لم يسبق له مثيل لتهديد الأمن والسلم الدوليين بسبب عقيدته المتطرفة العنيفة، وأعماله الإرهابية واعتداءاته المنهجية السافرة المتواصلة والواسعة النطاق». من هذا الحضور الصاخب والمدوي لـ«الإرهاب» تحدث تغيرات وتحولات في سلم القيم والأولويات السياسية والفكرية والثقافية، لدى الدول والمجتمعات والنخب، تمثل في مجموعها تحديا «للحداثة» ونكوصا لها والوعي السابق على الخطر الإرهابي، فتتراجع مطالب إصلاحية وإنسانية لصالح تقدم مطلب «الأمن»، وتتراجع أولويات الإصلاح السياسي والاجتماعي، الذي يختفي شرطه في الاستقرار والتعايش والسلم الأهلي، بغرق الجماعات والأفراد في مخاوف الإرهاب والطائفية وهواجس الفوبيا والفوبيا المضادة، لتصعد مكانها أولوية هوية الحفاظ على المجتمع والنظام نفسه.

ليست وحدها الهواجس والحذر والخوف العام، الرسمي وغير الرسمي، وإجراءات مكافحة الإرهاب ما ينتجه مباشرة، ولكن من آثاره غير المباشرة التي لا تقل خطرا أيضا أنه ينتج خطابات مضادة تمثل حرجا وصدا للحداثة والقيم الإنسانية والحقوقية والمواطنية، ولطموح العالم نحو المستقبل، والإيمان بخطية التاريخ والتقدم، ليعود القهقري، إلى الماوراء باحثا عن جذوات الصراع والكراهية والتمييز في ماضيه ومستعينا بها، وليس آخر تجلياتها خطابات اليمينية والشعبوية والإثنية والانفصالية المتطرفة الصاعدة شرقا وغربا على السواء.
ربما أكثر هذه الآثار غير المباشرة وضوحا، هو صعود «الإسلاموفوبيا» نتيجة وأثرا طبيعيا لصعود الإرهاب وأخطاره، وتزيد حوادثها بشكل واضح بعد كل حادث إرهابي، وارتفعت معدلاتها وأعداد ضحاياها في العامين الأخيرين عن سابقهما بشكل واضح.
من الآثار السلبية غير المرئية التي ينتجها صعود الإرهاب وخطره، التراجع الليبرالي على مستوى السياسات والإجراءات المكافحة له التي تقيد حياة الأفراد وحرياتهم وعلاقات الشعوب وحرية التنقل والهجرة، ولكن أيضا على مستوى القيم السائدة والمطالب ذات الأولوية في الجدل السياسي والفكري في الدول والمجتمعات، فعربيا وإسلاميا تراجعت بشكل واضح أولوية الحل للصراع العربي - الإسرائيلي، كما تراجعت مع صحوته الأخيرة على المستويين الوطني والإقليمي، كل مطالب الإصلاح السياسي والمؤسسي والحريات بعموم، وكذلك غلبة الاستقطاب العام، سياسيا وفكريا وطائفيا، في المجتمعات التي ينشط فيها أو تلك التي يهددها من قريب أو بعيد.ولسنا نتحدث هنا عن «الحالة واللحظة الداعشية الراهنة» فقط، بل هي حالة مستمرة ومتواترة منذ صحوة آيديولوجيات الهوية الانغلاقية في عشرينات القرن الماضي وقبلها، أفكارا وجماعات، واستمرت متتابعة غلوائها حتى أحدثت إرهاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وغدت تهدد في أيامنا مختلف عواصم العالم وأعرقها حداثة وتهدد قيم حداثتها وطموحات حداثتنا معا، كما سنوضح فيما يلي:
أولا: التطرف وأزمة حداثتنا المستمرة: ليس من المبالغة القول إن الحداثة والتنمية في العالم العربي تجربة ومخاض أمل لم يكتمل، ولم يعط فرصته كاملة؛ فقد أرهقتها وأعاقتها، بمختلف تنوعاتها وأشكالها، الصحوة والسدود الآيديولوجية والأصولية، منذ وقت مبكر، حتى في وجه هذه الحداثة الإصلاحي والتوفيقي الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ولا تزال قواميس الانغلاق وعمليات التطرف العنيفي قادرة على إحراج الحداثة وصدها وحرف المسار عن مطلوباتها وغاياتها، والانحراف بسؤال الحاضر والمستقبل نحو الماضي، وسؤال الوطن نحو أسئلة العقيدة والشريعة، ومن سؤال التقدم وتجاوز التخلف إلى سؤال الصراع الخارجي والداخلي على المرجعية وضد التغريب، ومن سؤال الدولة والهويات الوطنية لسؤال الخلافة والحاكمية، والمؤامرة العالمية والعداء المؤبد.
خرجت أفكار الانغلاق ابتداء من خطاب التقليد الذي توجس خيفة من كل شيء، من التعليم المدني ومن حقوق المرأة ومن مراجعة التراث، ومن جهود الترجمة والنقد العلمي والفكري، ورأى في كل ذلك غزوا فكريا وتغريبيا تجب مكافحته، منذ عهد مدرسة الإصلاحية الإسلامية بقيادة جمال الدين الأفغاني (توفي سنة 1887) ومحمد عبده (توفي سنة 1905) وغيرهما، ثم تحول في مواجهة تيار التحديث إصلاحيا ومدنيا ووطنيا إلى جماعات نشطة وشعبية بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، التي كانت باكورتها جماعة الإخوان المسلمين، التي أعلن مؤسسها أن أولويته القضاء على الحزبية والتعددية، وقاد تيارا شعبيا تم توظيفه أحيانا من قبل القصر في مواجهة كل تيارات التنوير والعقلنة والتقدم وتشويهها، ثم خرجت من عباءته تيارات أكثر راديكالية صارت تتهمه نفسه بالخيانة والعمالة، وترى في جماعته خروجا وحصادا مرا لم يخلص لتراث المسلمين والسلف، كما كتب يوما أيمن الظواهري في نقد جماعة الإخوان. ونجح هذا المد الانغلاقي، وبخاصة بعد صدامه الشرس مع الحكم الناصري والأنظمة القومية والبعثية في المنطقة، في التبرير للأخيرة التي أعلنت «تحرير الأرض وفلسطين أولوية لها» أن تقيد وتئد التجربة الديمقراطية قبل قيامها، وأن تمارس توفيقا مسطحا بين الدين والقومية، وبين السلطة السياسية والسلطة الدينية، وهو ما استمر ردحا طويلا حتى استطاعت جماعات التطرف والتشدد أن تمارس عملياتها الكبرى في اغتيال السادات، ثم الجهاد الأفغاني، ثم بروز القاعدة وأخواتها وصولا لـ«داعش»، وتحوله إلى فاعل إقليمي ودولي غير رسمي مؤثر، ولا يمكن تجاوز خطره.
هكذا كان صعود جماعات عودة الخلافة أو الإسلام السياسي في أواخر عشرينات القرن الماضي إعاقة للنهضة، حيث جمدت مسار المأسسة والتحديث، في غيبة حلمها بـ«خلافة العثمانيين» التي سقطت، ووضعت كل محاولات الإصلاح الفكري والسياسي والاجتماعي في خانة الاتهامات بالعمالة والتغريب حينها، وهو ما حرف الدول والمؤسسة عن سباق التاريخ والمستقبل لصراعات التاريخ والماضي والمكوث فيها، فتم إرهاب دعاة الإصلاح وتوقيف جهوده ودعواته في آن واحد، وتوقف بعضهم، وانسحب بعضهم الآخر.
وقد دأبت التيارات والأنظمة الشمولية والانغلاقية، في حقبة صعود الآيديولوجيات القومية، على نفي التعددية لصالح مقولتها وشعارها بأنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» في العدو المحتل و«إسرائيل تحديدا» لكن مع صعود الإرهاب وتصدره المواجهة بصفته خطرا أكبر، تراجع مطلب التحرير نفسه، والجهد من أجله، وصار يمثل للكثير من الأنظمة الهاجس نفسه، حيث صار «الاستقرار» ومكافحة الإرهاب والتطرف العنيف الأولوية الأولى لدى السلطة والمجتمع والنخب على اختلافها، وتراجعت معه الأولويات السياسية السابقة خارجيا أو داخليا.\كان تغير سلم الأولويات السياسية واضحا، فلم يعد الإلحاح في منطقتنا خلال السنوات الست الأخيرة، على حل القضية الفلسطينية أو تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، أولوية جامعة كما كانت، بل متأخرة مع تحدي الإرهاب الصاعد الذي باتت معه حواضر عربية عريقة أخرى في خطر هوية ووجود بسببه.
كما صارت النخب الديمقراطية والحداثية نفسها في حرج شديد وموضع اتهام أشد حين تدعو إلى ما تؤمن به من استئناف الحداثة والحضارة والتنوير العربي، أمام أنظمة متحفزة لمواجهة خطره المستفحل واستباق خلاياه النائمة، ويمكن أن يهاجمها الإرهاب متى حانت له الفرصة، وصار المطلب الأمني والأماني هو المطلب الأول والملح لها ولمجتمعاتها، دون المطالب الأعلى والضرورية أيضا في حداثة المجتمع والإدارة والمستقبل.
لم يعد للمطلب الديمقراطي أو المواطني أو التنموي شرعيته وأولويته السابقة التي عرفناها أثناء الانتفاضات الشعبية التي عرفت بالربيع العربي سنة 2011 وشعاراتها، بل صار لدى البعض من القطاعات حنين لعودة ما قبلها مما كان أكثر استقرارا مما بعدها، أو بعد سقوط حكم جماعة الإخوان سنة 2013 بحكم صحوة الإرهاب الداعشي غير المسبوقة في التاريخ، كما وكيفا، بما توافر له من ملاذات آمنة وبؤر تمكين، وأحد عشر فرعا منتشرة في المنطقة، وسياقات مناسبة لنموه وجذب المقاتلين الأجانب له من مختلف أنحاء العالم، وتأجيج طائفي يقوده نظام الولي الفقيه وجهاديوه نصرة لنظام بشار الأسد الذي نجح في عسكرة ثورته وتطويفها، وصار البحث عن حل سياسي عالقا ومرهونا دائما عند عتبة كليهما، الاستبداد الطائفي من جهة والتطرف الطائفي المضاد له من جهة أخرى.لم تعد المعركة هي الصراع مع إسرائيل، كما كان في خمسينات القرن الماضي وستيناته، بل انفرد الإرهاب بالمعركة، وبالأثر والتأثير منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، وتجذر خطره بعد الانتفاضات العربية سنة 2011، التي وأدها أيضا وأفشل توافقها، لتصير المعركة معه عالميا وإقليميا ووطنيا أولوية لا تسبقه أولوية لدى الدول والمجتمعات على السواء باستثناءات قليلة بالطبع.
ثانيا: التطرف والحداثة الغربية أيضا: منذ انتصار الحداثة الغربية وأنوارها في القرن السادس عشر، لم تتوقع أن تواجه في افتتاح القرن الحادي والعشرين، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 حتى عمليات الدهس في الشوارع للمدنيين، كما حدث في نيس الفرنسية العام الماضي، أو في لندن خلال مارس (آذار) الماضي؛ تهديدا لقيمها كذلك التحدي الإرهابي الماثل أمامها الآن.
وبينما لم تنجح بعض انحرافات هذه الحداثة نفسها كـ«النازية» و«القومية المتشددة» في اختراقها وانهزمت سريعا أمامها، تجد هذه الحداثة مشروعا من خارجها ومن خارج ثقافتها وأطرها يعلن التحدي، ويستطيع المباغتة لأمنها وأمانها من جديد، ويشكل خطرا عنيفا على هويتها ومواطنيها، وبخاصة من المهاجرين والجاليات المسلمة.
مثل الإرهاب الجديد، ونشاط الذئاب المنفردة تحديا لحداثة الغرب وانحرافا شعبويا ببعض مؤسساتها، مثلته قوانين أشكروفت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما مثلته تصريحات وحملة الرئيس الأميركي ترمب قبل تنصيبه ضد المسلمين، التي تجاوب معها 40 في المائة من المواطنين الأميركيين بعد حادث أورلاندو، حسب استطلاع رأي لمركز «جالوب» قبل شهور، كما زادت موجات الإسلاموفوبيا والخوف من اللاجئين والتوجه نحو تقييد الحريات والاحترازات الأمنية الشديدة، مما يمثل تحديا قيميا جديدا يسائل الحداثة، وقد يحرفها لتكيفات مع التحدي الجديد غير المسبوق لها، يتقدم فيها مطلب الأمن وضرورته على مطلب الحرية والفردية الذي كان محور ارتكازها.
كما ارتفعت جرائم الكراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة بنسبة 67 في المائة من عام 2014 إلى عام 2015، وكذلك واجه اللاجئون في أوروبا رد فعل مماثلا؛ حيث أشار استطلاع للرأي إلى أن 59 في المائة من الأوروبيين يخشون من وجود اللاجئين في بلدانهم، ونفذ المتطرفون الأوروبيون خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2016 نحو 45 هجوما على مخيمات اللاجئين في ألمانيا، وأشعل المتظاهرون من اليمين المتطرف النار مراراً في أماكن الصلاة بمخيمات اللاجئين في شمال إيطاليا، وتبدو فرص اليمين الفرنسي جيدة وغيره من أحزاب اليمين في الغرب.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.


«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».


ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.