سعد الدين العثماني... قوة الهدوء

الطبيب النفساني الإسلامي الذي اطمأنت إليه الدولة

سعد الدين العثماني... قوة الهدوء
TT

سعد الدين العثماني... قوة الهدوء

سعد الدين العثماني... قوة الهدوء

كل من تابع سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المغربية المكلّف، وهو يتلو تصريحه الصحافي الأول بعد إعلان تشكيلة أحزاب الغالبية التي ضمها لتحالفه الحكومي قبل أسبوع، أدرك أن الخطاب السياسي في المغرب سيعود إلى «الهدوء» ويقطع نهائيا مع «ظاهرة (عبد الإله) ابن كيران» التي شغلت الناس في الداخل والخارج. العثماني الفقيه والطبيب النفسي قدم صورة مغايرة تماماً عن سلفه، وحرص «ألا يخرج عن النص» أمام وسائل الإعلام، إذ اختار أن يقرأ بعناية ما هو مكتوب على الورقة متحدثا عن أولويات حكومته المقبلة و«باب الأمل الواسع» الذي يرغب في فتحه لتكون حكومته «حكومة إنجاز». إلا أن هدوء خطاب العثماني سبقته عاصفة عندما ظهر قبل موعد اللقاء الصحافي بقليل، في صورة وهو داخل مقر حزبه «العدالة والتنمية» في حي الليمون بالرباط، إلى جانب زعماء خمسة أحزاب سياسية ضمها إلى تحالفه الحكومي بينهم إدريس لشكر، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو الحزب الذي دفع ابن كيران ثمن رفضه إشراكه في الحكومة بأن أعفي من رئاستها وتشكيلها... ليصدم بقراره ذاك أعضاء حزبه والمتعاطفين معه.
قبل تكليف الدكتور سعد الدين العثماني بتشكيل الحكومة المغربية الجديدة جرى تداول اسمين آخرين لخلافة عبد الإله ابن كيران بالإضافة إلى اسمه، هما مصطفى الرميد وزير العدل والحريات وعبد العزيز الرباح وزير التجهيز والنقل. عن سؤال كيف رجحت كفة العثماني؟ أجاب أحمد البوز، أستاذ الفقه الدستوري والعلوم السياسية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، على استفسار «الشرق الأوسط» قائلاً إن الرميد «معروف عنه أنه سريع الغضب وقلق، وقد يغلب عليه هذا الطبع فنكون أمام إعادة إنتاج شخصية ابن كيران. أما بالنسبة للرباح - وفق البوز - فتوجد عليه اعتراضات من داخل الحزب، ويؤخذ عليه أنه مبالغ في تقديم التنازلات والتطبيع سواءً مع الأفرقاء السياسيين أو مع الدولة... ولهذا وقع الاختيار على العثماني، لأن فيه شيئا من الرباح الذي يرى أن العلاقة مع الدولة ينبغي أن تكون علاقة طبيعية وغير مبينة على الصدام، وشيئا من الرميد المعروف بالجدية والصرامة».
وأوضح البوز أن العثماني كان يقدَّم في البداية على أنه شخصية غير مقبولة من قبل الدولة نظرا لما قيل عن أخطاء ارتكبها إبان وجوده على رأس وزارة الخارجية، وأن زيارته لبعض الدول لعبت دورا في إبعاده عن الوزارة، غير أن تعيينه رئيساً للحكومة، وهو موقع أرفع، يؤكد وجود عناصر كثيرة رجحت هذا الاختيار. وهنا سرد المحلل السياسي والأكاديمي المغربي عدداً من العناصر التي ساهمت في اختيار العثماني، أولها كما قال: «الرغبة في إنهاء مرحلة ابن كيران وخطابه القوي الذي لم يعد مقبولاً»، مشيرا إلى أن «إبعاد ابن كيران في حد ذاته كان مسألة مهمة، ولا يهم من يأتي بعده».
وأضاف البوز أن «الانطباع الذي يعطيه العثماني هو أنه شخصية مرنة. وهذا ظهر حقاً إبان قيادته للحزب قبل 2007. إذ أن الخط السياسي للحزب في عهده كان معتدلاً ولم يكن مبنيا على نوع من الصدام مع الدولة والفاعلين السياسيين. لذلك قدم على أنه شخصية مقبولة ومعتدلة عند الطيف السياسي المغربي تطمئن لها الدولة ولا يقلق المتنافسون السياسيون».
من ناحية ثانية، قال البوز «الأمر لا يتعلق بشخصية غامضة، بل معروفة لدرجة أن رئيس الحكومة المكلف يبدو أكثر اعتدالا من الاعتدال الذي يظهره حزبه حزب (العدالة والتنمية)». وتابع موضحاً أن أسلوب عمل العثماني «يتميز بالتركيز على العمل في الميدان أكثر من تسويقه في وسائل الإعلام». وبالتالي، من العناصر التي ساهمت في اختياره أنه «قليل الظهور، ولا يتكلم بصوت مرتفع، كما أنه متحفظ إلى حد المبالغة... هو أيضا من النوع الذي لا يمكن أن يقول لقيادة الحزب كل شيء، لذلك يبدو للآخرين قابلا للتفاهم».
«ولقد ظهر ذلك - حسب كلام البوز - في المنهجية التي بدأ بها مفاوضات تشكيل الحكومة، والتي يمكن أن نقول عنها بأنها أشبه بانقلاب حقيقي على منهجية ابن كيران... ذلك أنه فاجأ الجميع، فأسقط الشرط الذي تشبث به ابن كيران، وهكذا أصبح حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان يواجه بشدة داخل (العدالة والتنمية) من حلفائه داخل الحكومة».
في المقابل، تجنبا لأي تأويل مغرض لما سماه البعض «انقلاب العثماني على ابن كيران» سارع عدد من قيادات الحزب إلى نفي تهمة الخذلان عن رئيس الحكومة المكلف. وكتب محمد يتيم «تدوينة» قال فيها إن «نجاح العثماني في تشكيل الحكومة لا يعني فشل ابن كيران في ذلك، و(صمود) هذا الأخير لا يعني تخاذل الأول، فكلاهما كان مصيبا بحسب المعطيات التي كانت متوافرة، وكلاهما اجتهد من خلال تلك المعطيات، والأهم من ذلك أن كليهما تلقى مساندة من هيئات الحزب، كما تلقى العثماني مساندة ابن كيران».
ووصف نبيل شيخي، عضو الأمانة العامة لـ«حزب العدالة والتنمية» ورئيس فريق الحزب في مجلس المستشارين، العثماني بأنه «رجل قوته في هدوئه». وأردف شيخي لـ«الشرق الأوسط» خلال حوار معه «أن العثماني من خلال مساره السياسي سواءً داخل الحزب أو خارجه، شخصية مرنة تحسن الرجوع - عندما تقتضي الظروف - خطوة إلى الوراء للتقدم خطوات إلى الأمام في الوقت المناسب». وقال عنه أيضا إنه «رجل من الذين كانت لهم بصمة قوية في مسار تجربة حزب العدالة والتنمية ومسار مشاركته الفاعلة والراشدة في المشهد السياسي بالمغرب». وهو بنظره «شخصية نادرة جمعت بين العلوم التطبيقية، بصفته حاصلا على شهادة الدكتوراه في الطب، والعلوم الشرعية من خلال حصوله على عدد من الشهادات العلمية الأخرى»، كما أنه «شخصية معروفة بطابعها الهادئ الذي يكسبها قوتها الحقيقية».

مرحلة مؤقتة
من ناحية أخرى، لم يستبعد البوز أن يكون اختيار العثماني «مجرد تدبير لمرحلة انتقالية بانتظار أن تتضح الصورة أكثر في المستقبل» ورأى أنه «اختيار قصير الأمد مرتبط بهاجس ألا يستمر ابن كيران في تدبير المرحلة السياسية الحالية، وأن يبتعد نسبيا عن الحياة السياسية، وتطوى صفحة فرضه هيمنته وتوجهه على حزبه». وهذا الجانب، بالذات، لم يغفل عنه عدد من قيادات الحزب ضمنهم عبد العالي حامي الدين، الذي كتب أن «محاولة تغييب ابن كيران عن الساحة السياسية، خسارة كبرى للوطن ولمشروع التحول السياسي في البلاد». بيد أنه، في المقابل، هناك من يرى أن وجود العثماني على رأس الحكومة قد يكون لصالح «العدالة والتنمية» في ما يتعلق «بمأسسة الحزب، وإبعاده عن الشخصنة التي طبعت الحزب في عهد ابن كيران».

المسار السياسي للعثماني
كان سعد الدين العثماني، بين الذين أشرفوا مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي على إعداد ميثاق «الجماعة الإسلامية» باعتباره أحد مؤسسيها إلى جانب عبد الإله ابن كيران ومحمد يتيم، بعد انفصالهم عن منظمة «الشبيبة الإسلامية» في أعقاب تبنيها العنف. ومن ثم تحولت «الجماعة» إلى حركة «الإصلاح والتجديد»، وتضمن الميثاق مجموعة من المراجعات الفكرية للحركة الإسلامية. انشغل العثماني منذ بداية الثمانينات بالجانب الثقافي والفكري وكان مسؤولا عن مجلة «الفرقان» يحاول تأصيل المفاهيم الجديدة في كيفية التعامل مع الأفرقاء السياسيين والدولة والملكية. وألف العثماني في هذا المجال، ثلاثة كتب فقهية.
وبعد عام 1987 انشغل العثماني بالمشاركة السياسية للإسلاميين والتأصيل الشرعي لهذه المشاركة. وعندما التحق الإسلاميون أعضاء حركة «الإصلاح والتجديد» بحزب الحركة الشعبية الدستورية برئاسة الدكتور عبد الكريم الخطي، عين مديرا للحزب. وأشرف على تأمين الإطار السياسي وإنشاء فروع الحزب في كل مناطق المغرب وأيضا فروع النقابة التابعة للحزب، وهي الاتحاد الوطني للشغل. ثم حين أعلن عن تأسيس حزب العدالة والتنمية شغل العثماني منصب الأمين العام من 2004 إلى 2008. وشارك الحزب في محطتين انتخابيتين هما الانتخابات البرلمانية لعام 2002 و2007، وقد حقق الحزب تقدما ملحوظا في2002 عندما انتقلت عدد مقاعده من 14 إلى 42 مقعدا. ولكن في انتخابات 2007 كانت نتائجه محدودة فانطلق نقاش داخل الحزب من أجل تحديد الأسباب.
وهنا قال عضو في المجلس الوطني لحزب «العدالة والتنمية» - فضل إغفال ذكر اسمه إنه «خلال المرحلة التي أدار فيها العثماني الحزب حاول ما أمكن أن ينتقل بالحزب من خطاب الهوية والتخليق إلى خطاب التدبير. وبالتالي، تراجعت مفردات الهوية بشكل كبير في زمن العثماني، حتى أن المراقبين بدأوا يتحدثون عن (علمانية مؤمنة) داخل هذه التجربة. وفي هذه المرحلة خصص العثماني جزءا كبيرا من اهتمامه للجانب الفكري أكثر من السياسي، وهو ما برز في كتابه (تصرفات الرسول بالإمامة) الذي يركز فيه على التمايز بين الديني والسياسي ووصل في هذا الأمر إلى مستويات أقرب ما تكون إلى العلمنة».
وتابع المسؤول الحزبي «ولكن على المستوى السياسي بدا أداء العثماني مرتبكا، لأنه خلال انتخابات 2002 ثم 2007 أثارت تحالفات الحزب وتموقعه العديد من التساؤلات لأنه لم يختر التحالف سوى مع حزب (القوات المواطنة)، وهو حزب ضعيف جدا.
وكان يرمز من خلال التحالف معه إلى أنه لا مشكل لديه مع نخبة رجال الأعمال. وهكذا، ابتعد (العدالة والتنمية) عن الأحزاب الوطنية وأحزاب الكتلة الديمقراطية فكانت نتائج الحزب محدودة لأن تموقعه وتحالفاته لم تكن مغرية للناخبين ولم يتمكن من إضافة سوى أربعة مقاعد فقط».
بطاقة هوية

- ولد سعد العثماني في مدينة إنزكان بإقليم سوس يوم 16 يناير (كانون الثاني) 1956
- متزوج وأب لثلاثة أولاد
- حصل على شهادة الثانوية العامة في العلوم التجريبية عام 1976 في إحدى مدارس إنزكان
- حاز شهادة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية من كلية الشريعة بآيت ملول عام 1983... وتابع تعليمه في دراسة الشريعة حيث حصل على شهادة الدراسات العليا في الفقه وأصوله من دار الحديث الحسنية بالرباط عام 1987
- درس في كلية الطب والصيدلة بالدار البيضاء وحصل منها على الدكتوراه في الطب العام عام 1986... والتحق بالمركز الجامعي للطب النفسي بالدار البيضاء وحصل على دبلوم التخصص النفسي عام 1994
- درس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا في الدراسات الإسلامية عام 1999 تحت عنوان «تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة وتطبيقاتها الأصولية»

مناصبه السياسية
* رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية مند يوليو (تموز) 2008
* الأمين العام لحزب العدالة والتنمية منذ أبريل (نيسان) 2004
* نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية منذ ديسمبر (كانون الأول) 1999
* نائب رئيس لجنة الخارجية بمجلس النواب (2001 - 2002)
* نائب في مجلس النواب المغربي- إبان الولاية التشريعية 1997 - 2002... ثم في الولاية 2002 - 2007
* عضو مجلس الشورى المغاربي (منذ سنة 2002)
* مدير حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية من يناير 98 إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 1999



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.