أمير تاج السر: الشعر أكثر سطوة من الرواية في {اعتقال لحظات الربيع العربي}

مغامرة «اشتهاء» تفتح شهية الروائي السوداني لإعادة كتابة أعماله الأولى

أمير تاج السر
أمير تاج السر
TT

أمير تاج السر: الشعر أكثر سطوة من الرواية في {اعتقال لحظات الربيع العربي}

أمير تاج السر
أمير تاج السر

أمير تاج السر طبيب وروائي وشاعر سوداني بدا مشواره بـ«أحزان كبيرة» وهو عنوان أول دواوينه الشعرية ثم خاض غمار الكتابة الروائية فكتب الكثير من الأعمال كان أشهرها «صائد اليرقات» التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2011 والتي ترجمت لكثير من اللغات.
وقد تميزت كتاباته بخصوصية المكان الجغرافي وتأثره بنشأته السودانية التي تجمع بين العروبة والطابع الأفريقي. وقد خاض مؤخرا مغامرة جديدة بإصدار رواية «اشتهاء» التي أعاد فيها كتابة أحد أعماله الأدبية الأولى التي كانت تحمل عنوان «صيد الحضرمية». وبهذه المناسبة، أجرينا الحوار التالي معه:

* بداية ما سر العلاقة بين الطب والأدب التي نراها متكررة في كثير من حالات الإبداع العربي؟
- بالتأكيد لا توجد علاقة مباشرة. ودائما ما أقول ردا على هذا السؤال، إن كثيرا من أصحاب المهن يكتبون مثل المهندسين والمحامين والمعلمين، لكن دائما التساؤل يحيط بالأطباء وحدهم، وأكيد لأن الطبيب يحتك بالإنسان أكثر، ويوصف دائما بالوقار. عموما مهنة الطب جيدة للكاتب رغم مشاقها، فهي تزوده بالتجارب اليومية، التي لا بد أن يجد فيها خامات لحكايات قد يكتبها، كما أنها تعلم الصبر، وهو شيء مطلوب بشدة لمن ابتلي بمسألة الكتابة هذه. وشخصيا استفدت كثيرا من مهنتي في اختراع عالمي الذي أكتبه، هناك سير روائية كتبتها من تجارب المهنة، وروايات استوحيت شخصياتها من شخصيات التقيتها في الواقع. تنقل الطبيب من مكان لمكان، أكسبني شيئا من التنوع، في البيئة التي أكتبها.
* بدأت بالشعر قبل أن تنتقل لدراسة الطب لتدخل بعد ذلك إلى عالم الرواية.. ما السبب وراء ذلك؟ هل الرواية هي نهاية المطاف؟
- بدأت بكتابة الشعر بالعامية منذ كنت طفلا، كتبت الأغاني لمطربين في السودان وأنا طالب في الإعدادي والثانوي، ثم تحولت للشعر بالفصحى في منتصف الثمانينات وأنا طالب بمصر. وفي عام 1988 وأنا بالسنة النهائية بالطب في مصر كتبت روايتي الأولى بعنوان: «كرمكول»، ونشرتها عند الراحل الشاعر كمال عبد الحليم، الذي كان يدير دار نشر «الغد»، وكانت دار نشر صغيرة لكنها مميزة، وقد انتشرت الرواية بسرعة وأصبح لها أصداء طيبة، وأظن أنها كانت الحافز لأن أحاول الكتابة فيما بعد، على الرغم من أنني انقطعت زمنا طويلا بسبب عودتي للسودان وانشغالي في العمل الطبي. وحين عدت للكتابة بعد ذلك، عدت برواية جديدة اسمها «سماء بلون الياقوت» وكان ذلك عام 1996، بعد أن استقر بي المقام في الدوحة، ونشرتها في دار «أزمنة» بالأردن. ثم انطلقت التجربة بعد ذلك لإتمام مشروعي المعروف الذي عملت فيه سنين طويلة، أما بخصوص أن الرواية هي نهاية المطاف بالنسبة لي أم لا، فهي بكل تأكيد نهاية المطاف، فلا يوجد مجال لمغامرة جديدة في أي إبداع، أنا عملت على الرواية وأصبح لي صوتي الخاص فيها، كما أصبح لي قراء كثيرون وبلغات كثيرة، لكني ما زلت أكتب الشعر داخل النصوص الروائية، وحين تقتضي الضرورة أن أفعل ذلك.
* هل يمكن أن نقول إن البعد المكاني لعب دورا في كتاباتك وفى تميزها وانتشارها؟
- تقصدين خصوصية المكان الجغرافي؟، نعم بكل تأكيد، فأنا رغم تنقلي لبلاد كثيرة، وحياتي في منطقة الخليج العربي لسنوات طويلة، هي سنوات النضج العمري والمعرفي، ما زلت أكتب عن البيئة السودانية، أي بيئتي التي ولدت فيها ونشأت فيها، وخبرتها جيدا. أعتقد أن السودان بتنوعه من ناحية الأعراق واللهجات، وكونه أفريقيا وعربيا في نفس الوقت، يمنح خامات جيدة للكتابة، كما أن المخزون الذي يلتقطه الكاتب من بيئته ويحتفظ به لاستدعائه عند الكتابة، في العادة يكون مخزونا كبيرا، ولا ينضب سريعا. بالتأكيد أستطيع أن أكتب عن مصر، وعن البيئة الخليجية، فقط لم يحن الوقت أو لم تأت فكرة جامحة تدفعني للكتابة دفعا، وأتمنى فعلا أن أكتب شيئا من ذلك.
* بمعنى آخر، هل يمكن القول إن الوضع السياسي المتأزم بالسودان قد أكسب أعمالك طابعا خاصا؟
- السياسة ليست هما كبيرا بالنسبة لي، أنا أكتب عن الإنسان في شتى حالاته، والمعاناة جزء من تلك الحالات، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية. وإن كان ثمة نقد سياسي فلا أكتبه مباشرة، بحيث يكون جارحا وإنما أوحي إليه، السودان بلد متأزم منذ عرفناه وطنا واعتدنا على أزماته، لكننا نتفاعل مع تلك الأحزان التي نراها أحزانا كبرى مثل مسألة الانفصال إلى سودانين، وغيرها، وهكذا تأتي الرواية عندي حاملة لهم الإنسان وهم البيئة التي يعيش فيها. وأنا حقيقة أنحاز في كتاباتي بشدة للإنسان الطرفي والهامشي، ولذلك تجدين أحداث رواياتي دائما ما تدور في الأحياء الخلفية الشعبية، حاملا تطلعات وأحلاما معظمها مجهضة، ويتضح ذلك كثيرا في روايات مثل: «تعاطف»، و«العطر الفرنسي»، و«صائد اليرقات»، وغيرها، وحتى الروايات التاريخية التي كتبتها، كانت تهتم بمثل هذا الإنسان الهامشي، مثل: «مهر الصياح» و«رعشات الجنوب».
* إلى أي حد ألهم الربيع العربي الكتاب؟ هل هناك برأيك أعمال شعرية أو أدبية ارتقت فنيا لمستوى هذا الحدث؟
- الربيع العربي بلا شك، وبما أحدثه من انقلاب في موازين العمل السياسي، يعد من الأحداث الكبرى، أو التغيرات الكبرى التي لا بد أن تأتي بمبدعيها الذين يولدون بعدها، وهؤلاء أقدر على الكتابة من الأجيال التي عاشت تحت ظل الديكتاتوريات. هذا الموضوع سيستغرق زمنا طويلا، لكن قطعا سيكون ناضجا.
إنه حتما سيلقي بظلاله على الإبداع. لكني أرى أن ثمة تعجلا حدث، فما زالت نتائج الثورات غير واضحة، لذلك أعتقد أن التأني في كتابتها أفضل، كما أن الاعتقاد بأن كل من شارك في المظاهرات أو الإطاحة بتلك الأنظمة الديكتاتورية، قادر على الكتابة، خطأ كبير، وقد يؤدي لكتابة لا ترقى لمستوى الإبداع. حقيقة قرأت القليل من نتاج ما بعد الربيع العربي، خصوصا في الشعر، وكان جيدا إلى حد ما في معظمه، لكن بالنسبة للرواية، ليس كثيرا وربما بسبب أن الشعر أكثر سطوة في اعتقال اللحظات السريعة.
* فيم تختلف «صائد اليرقات» عن شقيقاتها؟ لماذا كانت الأوفر حظا منهن، فترجمت للغات كثيرة؟
- «صائد اليرقات» لا تختلف عن باقي الأعمال من ناحية الأسلوب لأن الكاتب واحد، هي فكرة مختلفة عن أي عمل آخر لي، وكل عمل يحمل فكرته، فقط كانت محظوظة لأنها دخلت في جائزة لها اهتمام إعلامي. وحقيقة لدي أعمال كثيرة أكثر أهمية مثل «مهر الصياح» وتوترات القبطي»، و«366»، و«رعشات الجنوب». لكن القارئ يحب الأعمال التي تسلط عليها الأضواء. عموما كانت فكرة «صائد اليرقات» جيدة، وكتابتها مرضية بالنسبة لي، وأذكر أنني كنت مستمتعا بكتابتها، أما ترجمة أي كتاب للغات عدة فيعتمد على رأي المترجم ودار النشر التي ستتولى إصداره وليس شرطا أن يكون كتابا مثيرا للاهتمام، كما أن هناك دائما طرقا خلفية تسلك من أجل ترجمة الكتب للغات أخرى.
* وماذا عن الجوائز.. عربيا على الأقل؟
- وجود الجوائز ظاهرة حميدة، وليست سيئة، ولو جرى العمل عليها بإخلاص ونزاهة بحيث تمنح لمن يستحق، سترتقي الكتابة قطعا وسيصل الأدب العربي إلى مستوى الاحترام مثل الآداب الأخرى، أنا من المشجعين على تعدد هذه الجوائز مع ضرورة أن تكون ذات مصداقية، وعملت محكما في بعضها وكانت تجربة جيدة، أما اختلاف مناخ الإبداع في بلادنا عن الغرب، فهذا طبيعي لأن الغرب يفوقنا في كل شيء منذ عهد، الآن لا بأس بمناخ الإبداع عندنا وأعتقد أن المستقبل أفضل للكتاب الجدد.
* لجوؤك لكتابة القصائد داخل بعض كتاباتك.. هل يكشف حنينا مستترا للشعر؟
- أبدا، ولكن لأن النص يقتضي ذلك، فلا يمكن أن أكتب عن مغن مثل أحمد ذهب في رواية «زحف النمل» ولا أكتب أغنياته، كما أن بعض اللقطات التراثية، كان يجب ترسيخها بالشعر، في روايات مثل «مهر الصياح» و« توترات القبطي» و«اشتهاء».
* من واقع إقامتك بمنطقة الخليج ما تقييمك لحركة الإبداع الروائي والشعري في بلدانها؟
- جيدة ومتقدمة ولا تقل عن مثيلاتها في البلاد العربية الأخرى. الآن يوجد مبدعون خليجيون معروفون ومتميزون، والأسماء كثيرة بلا شك.
* هل توافق على تصنيفك أدبيا ضمن الواقعية السحرية أم أنك تضع أعمالك في تصنيف آخر مختلف؟
- لا أعرف، أنا أكتب واقعا يأخذ من الأسطورة، ويبني واقعا موازيا، ولذلك يصنفونني من كتاب الواقعية السحرية، لكن قطعا تختلف عن الواقعية السحرية اللاتينية لأن لي طريقتي الخاصة في الكتابة.
* ما جديدك؟
- نشرت مؤخرا رواية هي «اشتهاء» عن دار «الساقي»، وهي مغامرة إعادة كتابة لرواية من بداياتي اسمها «صيد الحضرمية»، وأعتقد أن التجربة نجحت إلى حد ما، وربما أعيد كتابة عمل آخر من البدايات.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.