من التاريخ: حضارة المايا

أحد أهرام المايا في المكسيك
أحد أهرام المايا في المكسيك
TT

من التاريخ: حضارة المايا

أحد أهرام المايا في المكسيك
أحد أهرام المايا في المكسيك

أذكر جيداً زيارتي لمدينة كانكون المكسيكية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي بصحبة أسرتي. وكان ضمن هذه الرحلة التي نظمتها الحكومة المكسيكية لإطلاق السياحة في شواطئ شبه جزيرة يوكاتان البديعة رحلة لمدة يوم إلى مدينة تشيتشين إيتسا الشهيرة التي تعد أحد مراكز حضارة شعب المايا Maya.
وأذكر جيداً أنني وجدت نفسي أمام هرم متوسط الحجم تحيط به الأدغال من كل جانب، وهو يختلف نوعاً ما عن الأهرام في مصر بكونه مدرّجاً. ومن الواضح أنه كان للأهرام استخدامات مختلفة، بدليل أن لها درجاً يؤدي إلى علٍ، لكنني لم أكن مدركاً في ذلك الوقت العمق الحقيقي لما يمثله هذا الهرم لحضارة لم أكن حتى على دراية بوجودها في سني المبكرة يومذاك. ومع ذلك استأت للغاية عندما سئل والدي فأجاب أنها حضارة عظيمة وأن أهرام يوكاتان ليست بعيدة عن أهرام مصر، في مجاملة أقل ما توصف به بأنها كانت مبالغة لم أكن على استعداد لقبولها. يومها دار بيني وبين والدي - رحمه الله - حوار ممتد فهمت منه أن حضارة المايا كانت حقاً عظيمة وكبيرة برغم من أنها تقل كماً وكيفاً وشكلاً عن الحضارة المصرية القديمة. ذلك أن الطبيعة الديموغرافية في المنطقة التي احتلتها هذه الإمبراطورية تختلف عن نظيرتها في مصر والعراق واليونان.
منذ ذلك الوقت سعيت عندما سمحت لي الظروف أن أقرأ مقتطفات عن هذه الحضارة من دون الخوض بعمق فيها، نظراً لأن تاريخها وثقافتها، بل ولغاتها، أمور مختلف عليها بين المؤرخين والمستكشفين وغيرهم، وبالتالي فإن تاريخها كان ويظل يحوم حوله الغموض.
الثابت تاريخياً أن حضارة المايا تركزت في المنطقة المعروفة اليوم بجنوب المكسيك أو ولايات يوكاتان وتاباسكو كامبيشي وتشياباس، إضافة إلى دولتي غواتيمالا وبليز وأطراف منهما. ويقدر أنها امتدت عبر قرون طويلة تصل إلى القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، إلا أن التطور الكبير لهذه الحضارة حدث بين القرن الثالث والقرن العاشر الميلادي، لكن الفترة الزمنية التي احتاجتها هذه القبائل لتكوين حضارتها أو إمبراطوريتها كانت ممتدة وطويلة بعكس الحضارات المعروفة لدينا في مصر والعراق واليونان.
والثابت تاريخياً أيضاً أن هذه الإمبراطورية كانت متحركة الحدود، بسب التوسع والانكماش الطبيعيين على مر الزمن، إذ إنها لم تثبت على نسق واحد كالحضارات الأخرى. وأغلب الظن أن مردّ ذلك إلى الطبيعة الجغرافية الوعرة لهذه المنطقة الممتدة التي كانت الأدغال والغابات تمثل جزءاً كبيراً منها، ومن ثم صعوبة خلق كيان متصل الأجزاء Contiguous، وهو ما جعلها تقارب حضارة اليونان قبيل توحيد الإسكندر الأكبر مناطقها ومدنها التي انطبقت عليها تسمية «الدولة - المدينة» City State، التي كانت تحكمها في بعض الفترات سلطة مركزية تختلف سيطرتها من فترة زمنية إلى أخرى وفقاً للظروف السياسية والاقتصادية السائدة.
ولقد استغرب كثير من المؤرخين حول كيفية إنشاء حضارة متوسطة القوة مثل المايا في منطقة مدارية محاطة بالغابات الكثيرة الأمطار، خاصة أن التكوين المعروف للحضارات كان يعتمد بشكل كبير على نظم ري مرتبطة بالأنهار لا الأمطار. ولعل هذا من المفارقات التي جعلت المؤرخين وعلماء علم الاجتماع يحتارون في تجسيد هذه الحضارة في أسئلة غير معلوم إجاباتها حتى الآن.
واقع الأمر أن حضارة المايا برغم كونها ممتدة، كانت لها قواسم ثقافية واجتماعية مشتركة بين مدنها، فالمدن بدأت من خلال القرى التي توسعت وارتبطت بسلسلة من المزارع. وهذه الأخيرة وفرت الغذاء للمدينة. هذا، وتركزت الزراعة أساساً على الذرة الصفراء التي كانت جزءاً هاماً من المنظومة الغذائية لكل منطقة أميركا الوسطى إلى جانب الفول والقمح والخضراوات. ومع توسع المدن أصبح هناك نوع من التوازن بين المجتمع الزراعي والحضري برغم تقارب المسافات، وهو ما مهد بطبيعة الحالة لظهور ثقافة قوية لدى شعب المايا ارتبطت بتطوير أبجدية هيروغليفية اعتمدت على الرموز والرسوم. ومن ثم، ربطت المدن المختلفة بمنظومة ثقافية متقاربة على الرغم من تعدد اللغات. ولعل ما أذهل العالم اليوم كان وجود تقويم زمني خاص بهذه الحضارة يعتمد على ثلاثمائة وستين يوماً للعام، وقسّم المايا الشهور وفقاً لذلك واعتبروا الأيام الخمسة المتبقية نذير شؤم غير مبرّر له. كما أن الحفريات أكدت ارتباطاً كبيراً للمايا بالفلك وحركته، وهو ما انعكس بدوره على إيجاد بعد روحي أو ميتافيزيقي لهم، تمثل في منظومة الآلهة التي خلقوها، سواءً لتفسير الظواهر الطبيعية أو الابتهال إلى إله يساعدهم في حياتهم ولإخضاع الطبيعة. وهذا ما يبرّر وجود آلهة للكثير من الخيرات التي ارتبطوا بها مثل الذرة والمطر وغيرهما. ولكن بعكس الآلهة في الحضارات المصرية واليونانية والرومانية على سبيل المثال فإن كبير الآلهة لديهم كان أنثى اعتبروها كبيرة الآلهة.
أيضاً ارتبطت بالمنظومة «الإلهية» هذه عملية القرابين أو الأضاحي البشري التي ابتليت بها حضارات أميركا الوسطى. وأغلب الظن أنها نبعت من حضارة المايا، إذ كان يُزعَم أن الآلهة بحاجة إلى قربان بشري لترضى عن عامة الناس، وهو ما جعل الكثير من أهرام المايا تحتوى على مذابح في أعلاها المذبح منها بشكل حجر عريض. وكان الكهنة يمسكون بالقربان أو الضحية، ويثبّتون أطرافه من كل الجوانب، ويقوم كبير الكهنة بشق صدره حياً وتكسير قفصه الصدري وإخراج قلبه النابض وسط ألم الضحية وصراخه وابتهالات العامة ثم تقطع أطرافه وترمي من فوق الهرم. ومن الاعتقادات السائدة حينذاك أن أكل أجزاء من الضحية البشرية من شأنه زيادة البركة الإلهية والخصوبة والعفو. ولقد انتشرت هذه العادة المقيتة وجرى تصديرها إلى الثقافات المجاورة مثل ثقافة شعب الأزتيك في وسط المكسيك، وباتت جزءاً من التقاليد القائمة إلى أن منعها الغزاة الإسبان بقوة السلاح وبرغم إرادة شعوب تلك البلاد.
من ناحية أخرى، لعل أكثر ما يحير المؤرخين هو سبب اندثار حضارة المايا، الذي جاء بشكل فجائي وغير مبرّر. إذ أفلت هذه الحضارة في القرن العاشر الميلادي تقريباً، وصاغ المؤرخون أسباباً مختلفة لهذه الظاهرة الغريبة، بعضهم لخص السبب في تغير فجائي بمنظومة الري المعتمدة على المطر، بينما رأى آخرون أن الأمر ارتبط بالزيادة السكانية المفاجئة التي صاحبها اضمحلال الغابات deforestation. وتعدّدت النظريات إلا أن الحقيقة لا تزال تائهة، وكل ما تبقى من هذه الحضارة هو أهرامها وتماثيلها وأبجديتها وبعض منتجاتها الثقافية.
كانت هذه رحلة خاطفة لأعماق حضارة المايا التي تلامست معها وأنا في سن مبكرة من عمري. وإذا كنت قد سعيت للتقليل من قيمة هذه الحضارة في ذلك الوقت ارتباطاً بحجم أهرامها وفقاً لقدراتي الفكرية في طفولتي، فإنني لم أبتعد كثيراً عن هذه الرؤية ولكن لأسباب لا علاقة لها بحجم الأهرام. فاعتقادي أن السبب وراء هذا الآن هو قلة المتاح من المعرفة حول هذه الحضارة، التي مما لا شك فيه أنها كانت عظيمة آنذاك بشكلها وهياكلها وثقافتها في إطار محيطها. إضافة إلى أنه من الظلم البيّن أن نقارنها بحضارات مصر واليونان وبلاد ما بين النهرين وشرق المتوسط لاختلاف الظروف والديموغرافية التي أثرت مباشرة على نسبة التطور والتمدن المقارن لحضارة المايا.



أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».