مارك روته... رئيس وزراء هولندا قاهر اليمين العنصري

«عازف» بيانو وأشهر «عازب» بين السياسيين في أوروبا

مارك روته... رئيس وزراء هولندا قاهر اليمين العنصري
TT

مارك روته... رئيس وزراء هولندا قاهر اليمين العنصري

مارك روته... رئيس وزراء هولندا قاهر اليمين العنصري

في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، أصدرت الصحافية الهولندية شايلا سيتالسينغ كتاباً عن مارك روته، رئيس وزراء هولندا، وصفته فيه بأنه «ظاهرة». وتابعت الصحافية قائلة إنه «ذو شخصية سياسية مرحة، وغير قابل للتدمير، ويعمل من أجل هولندا جديدة، كما أنه يتمتع بمرونة مدهشة؛ إنه صورة مشرقة ليس لرئيس الحكومة الهولندية فحسب، بل لهولندا بشكل عام... هذا البلد الرائع جداً في القرن الحادي والعشرين».
قبل أيام، فاز حزب الشعب الليبرالي الهولندي (يمين الوسط)، بقيادة رئيس الوزراء الحالي مارك روته، بالانتخابات البرلمانية التي أجريت في هولندا يوم 15 مارس (آذار) 2017، وكان المغزى الأساسي من فوز الليبراليين، مع أنهم لم يحصلوا على الغالبية المطلقة، هو أنهم منعوا انتصار حزب الحرية اليميني المتطرف، المعادي للمسلمين والمهاجرين، وزعيمه خيرت فيلدرز.
مع هذا، وهنا المفارقة، فإن كثيرين عزوا فوز روته وحزبه على اليمين المتطرف إلى أنه: أولاً تبنى بعض «خطاب» زعيم اليمين المتطرف حول الهجرة والمهاجرين، ولكن من دون الخوض صراحةً في موضوع معاداة الإسلام والمسلمين. وثانياً للمواجهة الدبلوماسية الحادة التي وقعت بينه وبين الحكومة التركية - والرئيس رجب طيب إردوغان تحديداً - عقب منع حكومة روته وزيرين تركيين من زيارة هولندا للمشاركة في تجمّعات سياسية نظمت لكسب تأييد الجالية التركية الهولندية لخطط الرئيس إردوغان حيال تعديل الدستور التركي، وتحويل البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.
ولكن ماذا عن مارك روته، الرجل والسياسي والزعيم الذي أدى نجاحه بالأمس إلى كبح مسيرة اليمين الشعبوي المتطرف في الدول الغربية نحو السلطة؟
مبدئياً، يمكن التعريف عن روته بأنه سياسي ومؤرّخ ومدرّس، وأيضاً... عازف بيانو. ثم إنه يُعدّ من الشخصيات السياسية الأوروبية المعروفة الأطول قامة، إذ يزيد طوله عن 190 سم. كذلك يعرف عنه أنه مثل معظم الهولنديين من هواة ركوب الدراجات الهوائية. وقبل الانتخابات الأخيرة، تداول عدد كبير من متابعي مواقع التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك» و«يوتيوب»، صور «موكب» رئيس الوزراء... الذي كان عبارة عن دراجة يقودها بمفرده، وكان في الوقت نفسه يرد على أسئلة الصحافيين على مقربة من مقر رئيس الحكومة.
مع هذا، ثمة من يقول إن مارك روته من الشخصيات السياسية الهولندية التي لا يتوافر كثير من المعلومات عن حياتها الخاصة. والرجل ما كان يوماً مثار جدل أو شائعات بسبب تصرفات شخصية. ولئن اختلف الهولنديون حول سياسته، أو اتفقوا، فلا خلاف إطلاقاً بينهم على أن ابتسامته التي لا تفارقه عند ظهوره في اللقاءات العامة، أو أمام وسائل الإعلام، لها تأثير إيجابي على الآخرين، وهي تقدمه بصورة الشخص الإيجابي المتفائل المتواضع الاجتماعي، حسب وجهات نظر كثرة من المراقبين.

الخطوات السياسية الأولى
وإبان فترة الدراسة الجامعية، أصبحت علاقة روته بالسياسة جدية، فشغل أثناء دراسته منصباً في قيادة التنظيم الشبابي لحزب الشعب الليبرالي، وترأس التنظيم من عام 1988 إلى عام 1991.
وفي أعقاب تخرجه، دخل روته عالم المال والأعمال، حيث عمل في الهرم الإداري ضمن مجموعة «يونيليفر» الصناعية العملاقة. وحتى عام 1997، عمل في قسم الموارد البشرية في المجموعة الهولندية البريطانية الضخمة، ولعب دوراً بارزاً في كثير من إعادة الهيكلة، بين عامي 1997 و2000.
بعد ذلك، شغل رئيس الوزراء (الأعزب) الذي يتبع الكنيسة البروتستانتية الهولندية، بين عامي 1993 و1997، مقعداً في القيادة الوطنية لحزب الشعب. ثم دخل البرلمان الأول نائباً عن الحزب في انتخابات عام 2003. وكان في العام السابق (2002) قد عين بمنصب نائب وزير مكلف بالعمل والضمان الاجتماعي.
وتسارعت مسيرة روته صعوداً في عالم السلطة، إذ أسند إليه عام 2004 منصب وزير الإعداد المهني والتعليم العالي. إلا أن المفصل الأهم في مسيرته السياسية جاء خلال سنتين، عندما انتخب عام 2006 زعيماً للحزب، ومن ثم في الانتخابات التي أجريت عام 2010، تمكن روته من قيادة حزبه إلى فوز كبير، إذ حصل على 31 مقعداً في مجلس النواب، ليغدو أكبر الأحزاب الممثلة في المجلس.
انتخابات 2010
خلال انتخابات 2010، قاد مارك روته حملة حزبه الانتخابية، عندما كانت آثار التقشف تهيمن على الاقتصاد الهولندي. ومع ذلك، كان يؤكد تكراراً أنه لا ينوي تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة فيلدرز. والواقع أن موقف روته في هذا الجانب كان واضحاً منذ البداية، إذ قال «نحن لا نستبعد أي طرف، ولا حتى أي حزب على الإطلاق، ولكن في الوقت نفسه هناك اختلافات جمّة بين حزبي وحزب العمل وحزب الحرية (الأخير حزب فيلدرز)».

رئاسة الحكومة
بعد الانتصار في تلك الانتخابات، كلّفت الملكة بياتريكس (الملكة في حينه) روته بتشكيل حكومة ائتلافية يمينية، يشارك فيها حزب الشعب وحزب الديمقراطيين المسيحيين وحزب فيلدرز، ليصبح أول رئيس حكومة لهولندا منذ عام 1918، من خارج الحزب الديمقراطي المسيحي، أو حزب العمل. غير أن الخلاف سرعان ما ظهر بين روته وفيلدرز، ثم تصاعد، خصوصاً بشأن أوروبا، حتى إن كانت قد بقيت ثمة نقاط اتفاق بشأن الهجرة. وعلى الأثر، تعهد روته، الذي يطرح نفسه على أنه «رجل الحلول»، في منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، بأنه لن يشكل ائتلافاً مع حزب الحرية، وزعيمه المعادي للإسلام والمعارض للهجرة. وفي المقابل، كان فيلدرز يعتب على رئيس الوزراء الحالي، ويعتبر أنه لم يف بوعوده، خصوصاً تلك المتعلقة بخفض الضرائب.

روته وأوروبا
طروحات مارك روته موالية لأوروبا، وهو يؤمن بأنه لا يمكن تصور مستقبل لهولندا على الإطلاق خارج الاتحاد الأوروبي. ومن ثم، فهو يقدم خبرته، التي تجاوزت 6 سنوات في السلطة، على أنها تشكل البديل الناجع لشعبوية فيلدرز وانعزاليته.
وحقاً، يوم 15 مارس الحالي، تمكن روته من الفوز مرة ثالثة، وقاد حزبه لتحقيق انتصار ثمين على التيار اليميني الشعبوي في هولندا. وجاء هذا الانتصار بعد انتصارين مهمين للقوى الشعبوية في بريطانيا والولايات المتحدة، تمثلا بتصويت البريطانيين لصالح الخروج من أوروبا، وانتخاب الأميركيين رجل الأعمال الملياردير دونالد ترمب رئيساً للجمهورية.
مع هذا، علقت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قائلة إن كثيرين يعزون فوز روته إلى تبنيه خطاباً صارماً حيال الهجرة والمهاجرين، ولكن مع الالتزام بالبعد عن قضايا معادة الإسلام والمسلمين التي سيطرت على خطابات غريمه المتطرف فيلدرز. وبالفعل، يشير كثيرون إلى أن تشدد روته في المواجهة مع إردوغان والمسؤولين الأتراك أكسبه شعبية لا تنكر، وأظهره قيادياً حازماً.
أيضاً، يرى كثير من المراقبين أن روته أظهر الحنكة والخبرة السياسية في تعامله مع هذه الأزمة، وعرف كيف يستفيد منها لصالحه، بدلاً من أن يحتكر الاستفادة فيلدرز وحزبه المتطرف. وخلال السجالات مع أنقرة، أكد رئيس الوزراء الهولندي عزمه على أن تظل بلاده الطرف الذي يتحلى بالعقلانية، والسعي لتحاشي التصعيد في الأزمة مع تركيا، بالتوازي مع الإصرار على قرار حكومته ترحيل الوزيرة التركية لشؤون الأسرة والسياسات الاجتماعية، فاطمة بتول سيان قايا، ومنع قدوم وزير آخر، هو وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو.

مفاوضات تشكيل الحكومة
حالياً، بعد فوز حزب الشعب بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية، بدأ روته مفاوضات تشكيل حكومته الجديدة. ومن المتوقع أن تستمر هذه المفاوضات على مدى الأسابيع المقبلة، مع العلم بأن جميع الأحزاب أكدت نيتها ألا تدخل في أي ائتلاف مع حزب فيلدرز المتطرف. وللعلم، يتجه روته الآن لتشكيل حكومة ائتلافية من 4 أحزاب.
رئيس الوزراء يقر بأن عملية التفاوض حول التشكيل الحكومي الجديد ستكون صعبة، مبدياً استعداده للتحالف مع الديمقراطيين (الديمقراطيون 66). أما أبرز الشركاء الآخرين المحتملين، في ظل استبعاد المتطرفين، فهم «الديمقراطيون 66» والخضر اليساريون والاتحاد المسيحي.
ولقد وقال رئيس الديمقراطيين، ألكسندر بيختولد، إن «الإمكانيات كثيرة لتشكيل تحالف، ولكن الأمور تتوقف على حزب الشعب الذي يقود الأمور بصفته صاحب العدد الأكبر من المقاعد بين الأحزاب». ومن ثم، أشار إلى إمكانية تشكيل ائتلاف يضم الديمقراطيون 66 وحزب الشعب، وأيضاً الحزب الديمقراطي المسيحي، ومعهم يمكن إضافة الخضر اليساري أو الاتحاد المسيحي، لضمان الغالبية المطلوبة في البرلمان.

تعليق روته بعد الانتخابات
جدير بالذكر أن أول تصريح صادر عن روته، عقب ظهور النتائج، جاء فيه قوله إن هولندا رفضت بتصويتها ما وصفه بـ«النوع الخاطئ من الشعبوية». وفي حين نقلت تقارير إعلامية أوروبية أن الأوروبيين عامةً تنفسوا الصعداء عقب الإعلان عن فوز روته، وهزيمة فيلدرز، تلقى رئيس الوزراء المنتصر التهاني من كثير من القيادات والعواصم الأوروبية، كما تحدث مع عدد من الزعماء الأوروبيين هاتفياً. ولقد حرصوا كلهم على تحيته، وإبداء ارتياحهم لما حققه، وسعادتهم لخيار الشعب الهولندي الذي جاء مع العد التنازلي للانتخابات الرئاسية في فرنسا (في أبريل/ نيسان ومايو/ أيار المقبلين)، والانتخابات العامة في ألمانيا (سبتمبر المقبل). ويذكر أن لليمين المتطرف والعنصري، المناوئ للمهاجرين، حضور قوي فيهما.
وجاء في تهنئة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند لروته قوله له: «كان (فوزك) فوزاً واضحاً ضد التطرف»، في حين هنأ شتيفن زابير، الناطق باسم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الزعيم الهولندي بفوزه في الانتخابات، موضحاً أنه يتطلع إلى «مواصلة التعاون معاً كأصدقاء وجيران وأوروبيين». كذلك قال باولو جنتيلوني، رئيس الوزراء الإيطالي: «اليمين المناهض للاتحاد الأوروبي خسر الانتخابات في هولندا».

بطاقة هوية
* ولد مارك روته، رئيس الوزراء الهولندي، في مدينة لاهاي، العاصمة السياسية والقضائية لهولندا، يوم 14 فبراير (شباط)، أي «يوم الحب»، من عام 1967. وهو الولد الأصغر في عائلته، وكان أبوه (آيزاك روته) يعمل في مجال التجارة والأعمال، أما أمه (واسمها هيرمينا كورنيليا ديلينغ)، فتعمل سكرتيرة.
أنهى تعليمه الثانوي (بين 1979 و1985) متجهاً نحو التخصصات الأدبية، ولقد استهوته الموسيقى، وكان طموحه حقاً أن يغدو عازفاً محترفاً لآلة البيانو. إلا أنه عندما أزف وقت الدراسة الجامعية، التحق بجامعة لايدن، أعرق جامعات هولندا وإحدى أرقى الجامعات الأوروبية، حيث درس التاريخ، ثم حصل منها أيضاً على درجة الماجستير في عام 1992.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.