من التاريخ: صناعة الأبطال في غاليبولي

الجنرال إيان هاملتون
الجنرال إيان هاملتون
TT

من التاريخ: صناعة الأبطال في غاليبولي

الجنرال إيان هاملتون
الجنرال إيان هاملتون

أذكر جيدًا يوم شاهدت صناعة النجم ميل غيبسون من خلال فيلمه الشهير الذي يجسد معركة غاليبولي، الذي لعب فيه دور الضابط الأسترالي الذي شارك في هذه المعركة الكبيرة ضمن قوات «الأنزاك Anzac» (اختصار كلمات الفيلق الأسترالي - النيوزيلندي) التي دربت في مصر في 1915 تمهيدًا لمشاركتها في الجهد العسكري لبريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية وذلك بعد قرابة سبعة عقود من الحدث الحقيقي. ولكن في هذه المعركة الشهيرة سطع نجم الضابط التركي اللامع مصطفى كمال «أتاتورك» أيضًا - كما تابعنا في الأسابيع الماضية - ومن المفارقات أن هذه المعركة أسفرت أيضًا عن خسوف نجم السياسي العبقري البريطاني ونستون تشرشل صاحب فكرة هذه الحملة الفاشلة وقراره الطوعي بالابتعاد عن السياسة لحين تولى المسؤولية مرة أخرى رئيسا لوزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه، فيما يخص تشرشل، فرصة قلما منحها التاريخ لقائد سياسي فشل فشلاً ذريعًا في معركة ليصحح خطأه بعد ذلك بنجاح أكبر عملية إنزال برمائي في التاريخ الحديث على شاطئ النورماندي في فرنسا عام 1944 لدحر ألمانيا النازية.
وحقًا، عاد تشرشل بعد 29 سنة ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه هاضمًا أخطاءه في معركة غاليبولي. وفي المقابل بنى «أتاتورك»، بعكس الزعيم البريطاني، مستقبله العسكري على نجاحه في تلك المعركة. وكان قبلُ ملحقًا عسكريًا لبلاده في صوفيا (عاصمة بلغاريا) إبان الحرب العالمية الأولى وكانت مشتاقًا لقيادة عسكرية ليشارك في الدفاع عن بلاده. ومن خلال اتصالاته مع قيادته استطاع أخيرًا الحصول على هذه القيادة، إذ جرى تعيينه قائدًا للفرقة التاسعة عشرة الملحقة بقيادة الجيش التركي في شبه جزيرة غاليبولي، لكنه كان تحت قيادة اللواء الألماني أوتو ليمان فون ساندرز، الذي كانت قد عينته القيادة التركية قائدًا عامًا للجيش التركي في هذه المنطقة.
«أتاتورك» بطبيعته كان رافضًا للسياسة الألمانية وتوجهاتها رغم كون ألمانيا حليف بلاده في الحرب العالمية الأولى، وهو ما أثر سلبيًا على علاقته مع قائده الجديد. ولكن مع ذلك أبلى بلاءً حسنًا في تنظيم صفوف قواته ما جعله محل ثقة القائد الألماني، خصوصا أنه كان على إدراك كامل بالطبيعة الطوبوغرافية لشبه الجزيرة - المطلة على مضيق الدردنيل - إبان مشاركته في الحرب العثمانية البلغارية. وهذا ما وضع «أتاتورك» في موقف أفضل من الحلفاء الذين كانوا يجهزون للإنزال وفقًا لخرائط قديمة تعود إلى أيام حرب القرم عام 1854، الذين كان هدفهم الاستراتيجي من هذه الحملة البرمائية لتأمين السيطرة على مضيق الدردنيل ثم مضيق البوسفور، وهو ما جعلهم يتعجلون العملية بغير دراسة كافية، لا سيما تشرشل الذي رفض كل الخيارات العسكرية الأخرى.
وكما توقع «أتاتورك» تم الإنزال في خمس مناطق محددة، إضافة إلى إنزال آخر لقوات «الأنزاك» شمالاً، وبدأت هذه المعركة العسكرية يوم 25 أبريل (نيسان) 1915. كان فون ساندرز مقتنعًا بأن الحرب على الشواطئ ستفقده القدرة على إحكام دفاعاته، فقرر الإبقاء على دفاعات بسيطة متقدمة في الشواطئ لإبطاء حركة العدو بينما نشر قوته الأساسية في المرتفعات الملاصقة للشواطئ، إلا أن الفرنسيين قاموا بحركة خداع من خلال مناورة جعلت القائد الألماني يتحرك صوب الشمال الشرقي اعتقادًا منه أن الحلفاء سينزلون بقوة في شمال شرقي شبه الجزيرة وهو ما أخرجه من بؤرة مسرح العمليات الحقيقي وترك القادة الميدانيين أسيادًا للموقف.
واقع الأمر أن الحلفاء ارتكبوا كثيرا من الأخطاء؛ فهم لم يتوقعوا المقاومة التركية الشرسة التي واجهتهم على الإطلاق. ثم إن الإنزال حصل في مناطق صعبة للغاية لم تسمح لهم بسرعة التحرك، إضافة إلى وجود حالة من الفوضى ضربت القوات الحليفة بعد الإنزال عندما تعطلت حركتها إثر المقاومة التركية الباسلة، وهو ما جعلها تفقد وقتًا ثمينًا قبل محاولة الاستيلاء على المرتفعات. هذا كان كافيًا لمنح الأتراك الفرصة لإحكام الدفاعات بعدما عرفوا أماكن الاختراقات المتوقعة، وهكذا تمتعوا بميزة الدفاع من الجبال المرتفعة أمام قوة هجومية بطيئة الحركة أسفلها.
أما على الجبهة، حيث كان «أتاتورك»، فالأمر لم يكن بالصورة نفسها، وبخاصة أنه توقع مكان نزول الحلفاء وهو ما جعله يراهن على خطوتهم التالية. ومن ثم، مع توقعه مكان حدوث المعركة بشكل صحيح، حرك القائد التركي قواته بكل سرعة لملاقاة «الأنزاك»، إلا أنه عندما وصل إلى مواقعه الدفاعية أدرك أنه تأخر بعض الشيء عندما رأى قواته الأمامية منهكة وعاجزة عن الاستمرار. وفي حالة انسحاب، تحرك هو بمفرده بعيدًا عن مركز الفرقة لملاقاة فلول الدفاعات المتقدمة المنسحبة بكل سرعة تحت ذريعة نفاد الذخيرة. هنا كان «أتاتورك» في مرمى نيران العدو لكنه لم يأبه، بل هدّد كل من ينسحب وطلب من جنوده أن يضعوا الحراب على البنادق ويقاتلوا من دون ذخيرة لوقف تقدم «الأنزاك». وعلى الأثر، أخذ يحرك دفاعاته لصد الهجوم، وكانت خطوة «أتاتورك» موفقة للغاية علمًا بأنه دفع باحتياطياته كلها دون استئذان فون ساندرز، ولو لم يفعل هذا لكانت الجبهة التركية قد اُختُرقت من الشمال الغربي ولكان الحلفاء قد زحفوا على الدفاعات التركية في المناطق الخمس الأخرى، ولكن فطنة «أتاتورك» وشجاعته حالتا دون ذلك.
وفعلاً استطاع القائد التركي وقف تقدم «الأنزاك» بفضل هجوم مضاد أعادهم مرة أخرى إلى الشواطئ، حيث كانوا قد أنزلوا، ولكن بثمن باهظ من الضحايا. ومع ذلك أدت هذه الخطوة إلى وقف تقدم العدو وحماية الجبهة التركية من هزيمة محققة، وما لبث الفريقان أن دخلا في حرب خنادق على النحو السائد في الجبهة الفرنسية بين ألمانيا وفرنسا. ولكن الحلفاء قرروا الدفع بدعم عسكري جديد قوامه عشرون ألفًا وبدأت الجولة الثانية في أغسطس (آب) من العام نفسه. ومجددًا تعمد «أتاتورك» مواجهة الهجوم الغربي بمقاومة شديدة أنهكته وجعلته يتأخر في إعادة التمركز مرة أخرى وهو ما استغله القائد التركي الشجاع وقاد هجومًا انتحاريًا ضد هذه القوات ودحرها في منطقة شانوك بايير. وكان لهذا الإنجاز أثره الكبير في إقناع الحلفاء - ولا سيما بريطانيا - بأن حملتهم في غاليبولي فشلت بعدما فقدوا نحو 46 ألف قتيل.
وكان المنتصر الأكبر في هذه المعركة مصطفى كمال «أتاتورك»، الذي لم يكن من المستغرب أن ينال إعجاب الأعداء قبل الحلفاء. ومنذ هذه اللحظة بدأت «صناعة نجوميته»، في حين أصر تشرشل على تحميل القائد البريطاني الجنرال إيان هاملتون المسؤولية في فشل الحملة بدلاً من سوء تخطيطه، وقال عنه معاتبًا إنه «جاء وشاهد وانسحب»، في تهكم صريح وتحوير لكلمات يوليوس قيصر عندما قال: «جئت وشاهدت وغزوت»، ولكن الساسة كثيرًا ما يعلقون فشل فكرهم على آخرين وهذه سمة ليست نادرة.
لقد كانت معركة غاليبولي علامة فارقة في حياة «أتاتورك»، غير أنه لم يتذكرها على أنها معركة عسكرية فحسب، بل أدرك بمرور الوقت أهميتها بالنسبة لتركيا كلها ولسياسته الخارجية الهادفة للسلام والاستقرار وليس الحرب والفوقية وافتعال الخلافات. وهكذا، قال في خطبته الشهيرة في رثاء جنود أعدائه السابقين كلمات... منها: «أيها الأبطال الذين أريقت دماؤهم وفقدوا أرواحهم ارقدوا في سلام... اليوم لا اختلاف بين من نسميهم (جوني) أو (محمد) حيث يرقدون جنبًا إلى جنب هنا في وطننا... أيتها الأمهات الثكالى اللائي أرسلن أبناءهن إلى الحرب... امسحن دموعكن فأولادكن في أحضاننا وهم في سلام... إنهم بعدما فقدوا أرواحهم في هذه الأرض أصبحوا الآن أولادنا نحن أيضًا».
هكذا تكون العبقرية السياسية الممزوجة بالانتصار العسكري.



أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».