«لا لا لاند» بعد مشاهدة ثانية

«لا لا لاند»  بعد مشاهدة ثانية
TT

«لا لا لاند» بعد مشاهدة ثانية

«لا لا لاند»  بعد مشاهدة ثانية

* بعد حصوله على أكثر من جائزة بافتا، ضمّها إلى سبع جوائز «غولدن غلوبس»، وقبل أن يحصد المزيد من الجوائز في حفل الأوسكار في السادس والعشرين من هذا الشهر، قررت أن أشاهد «لا لا لاند» مرّة ثانية. عادة ما يكون هذا ضروريًا بالنسبة لأفلام معيّنة، مثلاً لو أن شروط المشاهدة الأولى لم تكن تقنيًا صحيحة، أو أن يكون الفيلم عميقًا بحيث لا يمكن تحليل كل ما فيه من المشاهدة الأولى، أو حبًا في مراجعة جديدة لأن سؤالاً ما لا يزال بلا جواب.
* ليس بالضرورة أن تقلب المشاهدة الثانية الرأي السابق رأسًا على عقب. هذا لا يحدث مطلقًا. لكن يحدث أن يتمعّن المرء في الفيلم على نحو أفضل، لأنه في المرّة الأولى يستقبل اللقطات ثم المشاهد تباعًا ملاحظًا عشرات الأشياء في آن واحد، من دون أن يدري كيف سيتجه الفيلم به. في المشاهدة الثانية تدرك ما سيقع فتصرف انتباهك على التمعن بالعمل على نحو يصلح أكثر للدراسة علما بأن غالبية الأفلام التي نشاهد هذه الأيام لا تتطلب أكثر من مشاهدة واحدة، وفي أحيان كثيرة لا تُشاهد مطلقًا لولا واجبات الناقد حيال جمهوره.
* والسؤال الذي واجهته مرّة بعد مرّة خلال الأسابيع القليلة، وواجهه أكثر من ناقد في مكان عمله هو: هل يستحق «لا لا لاند» كل هذه الجوائز التي نالها أو سينالها؟ هل هو فعلاً الفيلم الذي يتجاوز سواه من الأعمال المنافسة بحيث لا يمكن لها أن تنافسه؟
* هذه الأسئلة وسواها أدت إلى مشاهدة ثانية لتؤكد أشياء أساسية تكوّنت في المرّة الأولى: نعم، الفيلم مكتوب جيدًا ومنفّذ جيد. فيه روح شبابية وفي الوقت ذاته لديه تلك المعالجة الكلاسيكية التي تعرفها أفلام «الميوزيكال» العريقة. فيه تمثيل جيد من بطليه رايان غوزلينغ وإيما ستون، ثم هو قصّة رومانسية عن صراع ما بين الحب وتحقيق الذات. هو إما أن يحتفظ بالحب وحده، أو يضحي بالحب في سبيل تحقيق أحلامه.
* لحظة. هل فعلاً يعني الفيلم أن يقول إن المرء لا يستطيع الاحتفاظ بحبه أو بطموحه وعليه أن يتخلى عن واحد منهما؟ نعم. هذا ما يحدث حال يتأكد كل من العاشقين أن عليهما أن ينفصلا إذا أراد كل منهما مواصلة طريقه؟ هذا صحيح وهو ما قاله المخرج داميان شازيل في فيلمه السابق «لذعة السوط» عندما يكون ثمن اجتهاد بطل ذلك الفيلم (مايلز تَلر) ليصبح أفضل ضارب طبل (Drummer) هو ترك حبيبته. عندما يكرر المخرج مفادًا فيه شوائب كهذا، فإن على المشاهد أو الناقد كبح جماح حماسه لأن هذا الرأي لا يعبر عن الواقع بل يحاول أن يصوّر نفسه واقعًا.
* إنه عام هذا الفيلم. قد لا يحصل على كل الأوسكارات التي رُشّح لها (هذا كثير بالفعل عليه) لكنه سوف يحصد كثيرًا منها وسيضمها إلى 197 جائزة نقدية وفعلية حصل عليها حتى الآن. معظمها صغير، لكن الصغير منها هو أشبه بالنقود المعدنية التي إذا ما جمعتها تتحول إلى ثروة.



بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
TT

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»

بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.

لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.

بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).

كمال الشناوي ونادية الجندي في «مهمّة في تل أبيب»

‫اتجاهان‬

بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.

تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.

في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.

من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.

مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.

بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.

‫هموم المجتمع‬

ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.

في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».

كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.

مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.