التونسيون في صدارة الجماعات المتطرفة... لماذا؟

علماء دين يلومون «علمانية» بورقيبة وبن علي... وخصومهم يتهمون «التهميش»

التونسيون في صدارة الجماعات المتطرفة... لماذا؟
TT

التونسيون في صدارة الجماعات المتطرفة... لماذا؟

التونسيون في صدارة الجماعات المتطرفة... لماذا؟

تتابع وسائل الإعلام التونسية نشر مزيد من أسماء نجوم الرياضة والفن والمشاهير والأثرياء، من الجنسين، الذين غادروا تونس خلسة وانضموا إلى «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية أو الأصولية المتشددة في ليبيا وسوريا والعراق، إلى جانب مئات من العاطلين عن العمل وأبناء الأحياء الفقيرة في العاصمة والمدن الداخلية. وفي حين تتضارب الدراسات الأمنية والسياسية في تقديراتها لنسبة التونسيين بين مقاتلي «القاعدة» وتنظيم داعش الإرهابي المتطرف، تؤكد مصادر تونسية وأممية مختلفة أن حاملي الجواز التونسي أصبحوا في الصفوف الأولى للراديكاليين والمتشددين العرب، وبالذات، الجماعات المتورطة في أبشع أنواع الجريمة المنظمة والتهريب والإرهاب في دول الساحل والصحراء الأفريقية وأوروبا والمشرق العربي. فكيف تطوّرت سلوكيات قطاع عريض من شباب تونس، المعروف باعتداله وانفتاحه، نحو التشدد والتطرف والجريمة المنظمة والإرهاب؟ وهل تكفي الحلول الأمنية والعسكرية لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة، أم تحتاج إلى إجابات فكرية ودينية وثقافية واجتماعية اقتصادية؟ أم ستحتاج البلاد إلى استراتيجية شاملة جديدة في معالجتها للأسباب العميقة للإرهاب، وبينها الإخفاق التربوي والفراغ الديني وغياب سياسات تنموية ناجحة تفتح الآفاق للشباب والأجيال الصاعدة؟
بمعزل عن الحركات الإرهابية والمتطرفة، يفسّر رئيس وزراء تونس الأسبق الهادي البكوش، وكثرة من علماء الاجتماع والدراسات السياسية والفكرية في تونس بروز «ظاهرة الإسلام السياسي المعاصر» و«حركة الاتجاه الإسلامي» التونسية قبل 40 سنة بـ«السياسات العلمانية» التي اعتمدتها الدولة في عهدي رئيسي تونس، منذ استقلالها عن فرنسا حتى اندلاع الثورات العربية في 2011، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.
* خطوات بورقيبة
ويسجل عمر التريكي، الباحث في العلوم السياسية، أن بورقيبة ومستشاريه أصدروا منذ صيف 1956 أول قانون للأحوال الشخصية في العالم العربي يمنع تعدد الزوجات، ويسمح للمرأة بطلب الطلاق، وهو ما اعتبره جانب من الرأي العام التونسي تمردًا على التشريع الإسلامي، واستفزازًا لمعتقدات الشعب. بينما يعتبر المؤرخ عبد الجليل التميمي، أن من بين ما استفز المتديّنين باكرًا في تونس إقدام بورقيبة بعد سنتين فقط من الاستقلال عن فرنسا على إغلاق جامع الزيتونة، وهو أحد أعرق جامعات العالم الإسلامي. واتخذ بورقيبة ورفاقه هذه الخطوة على الرغم من الدور الذي لعبه طلاب هذه الجامعة وأساتذتها في قيادة حركة التحرّر الوطني ضد فرنسا منذ مطلع القرن العشرين.
وفي 1961، دعا بورقيبة الشعب مرارًا عبر الإذاعات للإفطار في شهر رمضان. كما أزاح غطاء رأس ثلة من النساء التونسيات باللباس التقليدي الوطني في مواكب رسمية بثها التلفزيون الرسمي تحت مبرّر «مواكبة قوانين الحداثة والتقدم ومتطلبات التنمية». وكانت كل هذه الإجراءات سببا، حسب مفتي تونس السابق حمدة السعيد وعدد من الفقهاء «في إحداث فراغ في مجال المرجعيات العلمية والفقهية والثقافية الإسلامية وتشجيع التشدّد والتطرف». وبما أن «الطبيعة لا تحب الفراغ»، كما يقول وزير الشؤون الدينية السابق نور الدين الخادمي، سيطر على كثير من الجوامع والفضاءات الثقافية الإسلامية خطباء «من الدعاة البسطاء والأميين والوعاظ الذين يفتقرون إلى مؤهلات علمية، ولا يستوعبون الفكر الإسلامي المستنير والتفسير العقلاني الذي عرف به أعلام جامعة الزيتونة ومصلحوها ورواد التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر كالمشايخ سالم بوحاجب، ومحمد الخضر حسين، وعبد العزيز الثعالبي، والطاهر بن عاشور، والطاهر حداد، والفاضل بن عاشور، ومحمد المختار السلامي».
* علمانية أم إرهاب؟
ولا يتردّد بعض زعماء الجيل الأول من التيار الإسلامي الشبابي التونسي، مثل منصف بن سالم، وزير التعليم العالي بعد ثورة 2011، في تحميل حكومات بورقيبة وبن علي مسؤولية بروز ظواهر التطرف والتشدد والأصولية والإرهاب في تونس. بل إن راشد الغنوشي، زعيم حزب «حركة النهضة» وصف المتطرفين الإرهابيين بـ«أبناء بن علي»، واعتبر أنهم من «ضحايا الفراغ الديني والعلمي، وحملات القمع التي تعرّض لها رموز الفكر الإسلامي التونسي المعتدل طوال العقود الماضية. كذلك، يرجع رضوان المصمودي، رئيس مركز دراسة الإسلام والديمقراطية في تونس، انتشار الراديكالية باسم الدين إلى ما يصفه بـ«السياسات العلمانية المتأثرة بالمنهج الفرنسي الجاكوبي المتطرف»، الذي يختلف عن علمانية البلدان الأنجلو سكسونية «حيث لا تمارس الدولة إرهابًا على الأفراد والمجتمع من أجل إلزامها بالعداء للدين تحت يافطة التمرّد على الكنيسة ورجالاتها».
وفي الواقع، يطنب بعض رموز التيارات الإسلامية التونسية المتشددة، منذ سقوط حكم بن علي عام 2011، في التشهير بما يصفونه «ديكتاتورية النظام العلماني التونسي إبان عهدي بورقيبة وبن علي، رغم إعلان النظام التونسي منذ عام 1987 المصالحة مع الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي، وزيارات بن علي مرارًا للجوامع التونسية وللحرمين الشريفين لأداء مناسك العمرة. كما يتهكمون على صفة «حامي حمى الدين» التي كانت تطلق على بن علي، الذي يتهمونه بدوره بالترويج لقيم أوروبا الغربية المتعارضة في كثير من مسلّماتها مع مرجعيات الثقافة العربية الإسلامية.
* خلط التدين والإرهاب
من ناحية أخرى، يسجل محمد القوماني، نائب رئيس «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» سابقًا، أن من بين أسباب انتشار التطرّف والغلو بين الشباب التونسي في العقدين الماضيين «القمع الشديد الذي تعرض له عشرات الآلاف من نشطاء حركة الاتجاه الإسلامي المعتدلة التي غيّرت اسمها إلى (حركة النهضة) عام 1988 بعد تعهد كاذب من السلطات بمنحها تأشيرة حزب قانوني». بينما يعتبر المفكر والكاتب أيمن بن سالم، أن من بين «غلطات النظام التونسي خلال السنوات الـ55 من عهدي بورقيبة وبن علي، الخلط بين الحق في التديّن وممارسة الشعار في الجوامع والانتماء إلى أحزاب سياسية معارضة ذات ميول دينية». كما فسّر الكاتب علي اللافي بروز التشدّد الديني بـ«بعض القوانين والمناشير الزجرية خلال العقود الماضية»، وبينها قانون منع الحجاب المعروف بمنشوري 108 لعام 1981 و29 لعام 1987 اللذين حضرا ارتداء «الزي الطائفي» (أي تغطية شعر الرأس بالنسبة للفتيات والنساء) ومنشور غلق المساجد فور انتهاء الصلاة.
وحقًا، تداخلت الأبعاد العقائدية والسياسية في الصراعات بين قطاع من شباب تونس وسلطاتها، إبان عهدي بورقيبة وبن علي، عندما كشفت المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الدولية جوانب من الاضطهاد والتعذيب الذي تعرض له متدينون من الشباب. وتعمّقت القطيعة بعدما شملت الإيقافات والمضايقات المراهقين وكهولاً من الجنسين عند خروجهم من الجوامع بتهمة «التعاطف» مع «حركة النهضة» أو مع جماعات كـ«جماعة الدعوة والتبليغ» التي تمنع عناصرها من الخوض في السياسة. ويعتبر المفكّر والمؤرخ محمد ضيف الله، أن هذا المناخ أفرز نواة «المجموعات المتطرفة التكفيرية» و«التنظيمات الدينية المسلحة» المتأثرة بأدبيات زعماء الجماعات الأصولية المتشددة في الجزائر ومصر وأفغانستان والعراق. وتزايد وزن أولئك الزعماء بسبب تمادي السلطات في مضايقة نشطاء المجتمع المدني والمعارضة العلمانية المعتدلة وقيادات «حركة النهضة» بمن فيهم من غادروا السجون وعادوا من المنافي واعتزلوا الحياة السياسية.
ومن ثم، تفاقمت عقدة الاضطهاد لدى نسبة من الشباب المتدين والمحافظ بنتيجة استفحال التهميش للمرجعيات والنخب الوطنية وللجامعيين والمثقفين الإسلاميين المستنيرين، مثل مجموعة «اليسار الإسلامي» أو «الإسلاميين التقدميين» و«الإسلاميين المستقلين»، التي تزعمها مثقفون معتدلون وكتاب حقوقيون بارزون مثل أحميدة النيفر، وصلاح الجورشي، وعبد العزيز التميمي. وكانت الحصيلة أن عوّض أميون متدينون الفقهاء والمفكرين والعلماء في وقت تابعت وزارتا الداخلية والشؤون الدينية سياسة عزل الأئمة، الذين عُرفوا بقدر من الجرأة في تناول القضايا الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، وإن كانوا مقربين من الحزب الحاكم.
* الإسلام الاحتجاجي
وعلى الرغم من وقوف المنظمات الحقوقية وبعض الأحزاب الليبرالية واليسارية المعتدلة ضد قمع الإسلاميين ومحاكماتهم، تعمق العداء بين تيار من الشباب المتديّن والأطراف الماركسية والليبرالية؛ لأن السلطات تحالفت مع شخصيات من رموز المعارضة العلمانية ضمن استراتيجية «فرّق تسد». ولذلك؛ أدى سقوط حكم بن علي إلى انفجار صراعات إعلامية سياسية وعقائدية عنيفة بين قطاعات من اليساريين والليبراليين والإسلاميين العائدين من المنافي والسجون. وزاد الأزمة عمقا اتهام العلمانيين للإسلاميين بتحمل «المسؤولية السياسية» لاغتيال السياسيين المعارضين الكبيرين شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي.
وبرزت منذ الأسابيع الأولى بعد الثورة دعوات للثأر من النخب العلمانية التي اتهموها بالتحالف مع النظام السابق ضدهم في سنوات الجمر. وحملوهم مسؤولية المشاركة في شيطنة المعارضة ذات الميول الإسلامية طوال عقود من حكم بورقيبة وبن علي. وتسببت هذه الصراعات في توسيع الفجوة بين فئات واسعة من الشبان التونسيين المتأثرين بالمدارس اليسارية والليبرالية الغربية من جهة، وخصومهم المتأثرين بمن وصفهم عالم اجتماع ووزير سابق بزعماء «الإسلام الاحتجاجي».
* نصفهم خريجو جامعات
لكن إنفاق الدولة التونسية لنحو ثلث موازنتها للتربية والشؤون الاجتماعية جعل من تونس واحدة من الدول العربية القليلة التي فرضت إجبارية التعليم وحق الالتحاق بالجامعات بالنسبة لكل الفائزين بالبكالوريا. وقدّر الصادق شعبان، وزير التعليم العالي السابق، عدد طلبة الجامعات التونسية من الجنسين في آخر عهد بن علي بنحو نصف مليون في بلد يحوم عدد سكانه حول العشرة ملايين فقط. لذلك؛ كشفت دراسات جديدة عن فسيفساء المتشددين والإرهابيين التونسيين أن نحو نصفهم لديهم مستوى جامعي. وأكدت هذه الحقيقة دراسة ميدانية اجتماعية سياسية أعدها مركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب، التابع لـ«المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» عن «ظاهرة الإرهاب في تونس». وأوضحت عضو هذه الهيئة العلمية لهذه الدراسة إيمان قزارة، أن المركز جمع 384 ملفا قضائيا خلال الفترة المتراوحة بين سنتي 2011 و2015 جرى خلالها تتبّع أكثر من 2224 متهما بالإرهاب، واختيرت عينة تتكوّن من 1000 متهم. الدراسة بينت، أن ثلاثة أرباع المتهمين من بين أصحاب الـ2224 ملفا شباب دون الثلاثين، وأن 40 في المائة من العينة التي تم اعتمادها في الدراسة لهم مستوى جامعي، بينما درس أكثر من 95 في المائة منهم في المعاهد الثانوية. وكان الاستنتاج الكبير من قبل هؤلاء الباحثين الاجتماعيين والنفسانيين وغيرهم توجيه اتهامات للمنظومة التربوية التي أصبحت تعطي أولوية للكم على حساب الكيف.
في السياق نفسه، أبرز فتحي التوزري، عالم النفس الاجتماعي ومساعد وزير الشباب التونسي السابق بعد ثورة 2011، العلاقة بين انتشار الأفكار الراديكالية في صفوف خريجي المعاهد والجامعات وحالة الإحباط التي يعيشها الشباب التونسي جراء انسداد الآفاق المهنية وأزمة سوق الشغل.
* جذور التنظيمات المسلحة
ويشاطر بعض الأكاديميين والباحثين الجامعيين بعض الجهات التي تفسر تزايد عدد الأصوليين التكفيريين التونسيين ببروز المجموعات المسلحة في تونس والجزائر قبل الثورات العربية في 2011، وكان من بين تلك التنظيمات المسلحة ما عرف في تونس بـ«مجموعة سليمان» التي رفعت السلاح ضد الدولة في نهاية 2005 ومطلع 2006. وكان من بين زعماء تلك المجموعة سيف الله بن عمر بن حسين، المعروف بتسمية «أبو عياض» الذي يعتبر منذ سنوات من بين أخطر قيادات الإرهابيين في تونس وليبيا. وكان من بين تلك المجموعات المسلحة خلية «القاعدة» في مدينة جرجيس على الحدود التونسية الليبية في 2005، التي تبين أنها وظفت شبكة الإنترنت مبكرًا للتواصل مع تنظيم القاعدة في أفغانستان ومسلحين من تنظيمات قريبة من «القاعدة في المغرب الإسلامي» وغيرها من الجماعات المسلحة المنتشرة في جبال الجزائر وصحاريها منذ مربع قرن. ولقد تعاقبت في تونس أواخر عهد بن علي عمليات الكشف عن جماعات مسلحة متشددة دينيًا ذات امتداد مغاربي، بينها «تنظيم أسد بن الفرات» و«تنظيم عقبة بن نافع» و«الجماعة الإسلامية المقاتلة».. وغيرها.
وكانت تلك المجموعات من بين نواة بروز تنظيم «أنصار الشريعة» في تونس وليبيا وغيره من الحركات الأصولية الراديكالية بعد سقوط بن علي والقذافي في 2011. ومن المفارقات أن بعض زعماء تلك المجموعات المتشددة والمسلحة كان قد أُخلي سبيلهم في عهد بن علي، أو مباشرة بعد اندلاع الثورات العربية ضمن إجراءات «العفو العام» التي صدرت لفائدة الغالبية الساحقة من المساجين والموقوفين.
* التهميش... وانسداد الآفاق
لكن محمد التومي، الخبير في دراسة أدبيات الجماعات المتطرفة والتنظيمات التكفيرية المسلحة، يرفض أن يفسر التحاق آلاف الشباب التونسيين والمغاربيين ببؤر التوتر في ليبيا وسوريا بالإرث عن مرحلة ما قبل الثورات العربية فقط. ويورد أن «الدراسات السوسيولوجية والفكرية التي أجراها مع فريق من باحثي الجامعة التونسية، أكدت العلاقة بين تعاظم تأثير التأويلات المتشددة للقرآن والسنة والمفاهيم الخاطئة عن الجهاد وإحساس الشباب بالتهميش والإخفاق والإحباط». وفي السياق ذاته، اعتبر سامي براهم، الباحث في المركز التونسي للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية ـ سيريس ـ، أن من بين أبرز دوافع التحاق الشباب التونسي بالمجموعات المتشددة «استفحال معاناته بسبب التهميش الاجتماعي والثقافي، وفشل سياسات الدولة في مجالات التحصين الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي والأخلاقي والمهني والمادي».
* لماذا يغادرون تونس؟
لكن، حتى إذا سلمنا جدلاً بالأسباب الكثيرة لنزوع قطاع من الشباب التونسي نحو التشدد، لماذا اختارت نسبة منهم الهجرة من تونس إلى بلدان أوروبية وعربية وإسلامية كثيرة... وأصبح بعضهم يتزعم الجماعات المسلحة فيها؟ سامي براهم اعتبر أن السبب هو عجز المجموعات المتشددة عن أن توطن لمشروعها وأفكارها داخل تونس، حيث توسع هامش الحريات بعد «ثورة يناير»2011، وأن المجتمع التونسي المنفتح والمتسامح ليس لديه قابلية ليكون حاضنا للأفكار المتشددة ولهذه الجماعات التكفيرية؛ فاضطرت إلى مغادرة تونس التي يعتبرها بعضهم «بلاد كفر» يجب الهجرة منها إلى «بلاد الإسلام»، أي مناطق نفوذ «داعش».
في سياق متصل، تتوقف فتحية السعيدي، أستاذة علم الاجتماع في الجامعة التونسية، عند سلوكيات فئة الشباب في هذه المرحلة العمرية. وتعتبر أن من بين تلك السلوكيات «المعاناة من اضطرابات نفسية واجتماعية كثيرة منها أزمة الهوية وتحقيق الذات». وتربط السعيدي بين هجرة الشباب التونسي إلى أوروبا وليبيا وسوريا وغيرها من بؤر التوتر بنية ما يعتبرونه «جهادًا»؛ لأن «التعليم لم يعد يضمن الوظيفة وفتح الأفاق... وعندما تستفحل ظاهرة انسداد أحلام الشباب الذي يعاني أصلا هشاشة نفسية وعاطفية وتربوية، يفكر في الهرب من واقعه مهما كان الثمن، وإن كان البديل مجهولاً وأكثر قتامة».
* الاستقطاب عن بعد
على صعيد آخر، بعدما تعاقبت حالات هجرة آلاف الشباب رغم الإجراءات الأمنية المشددة التي فرضتها السلطات التونسية في الحدود البرية والمطارات والموانئ، تأكد أن الأمر لم يعد يتعلق بمجرد مسارات تسفير محدودة للشباب من قبل مجموعات محلية، بل بشبكات استقطاب إقليمية ودولية نجحت في توظيف شبكات التواصل الاجتماعي في اصطياد ضحاياها وتسهيل رحلاتهم. وكشفت التحقيقات الاجتماعية التي شملت بعض المدن المهمشة في الجهات الغربية والجنوبية للعاصمة والمدن الداخلية، عن أن انسداد الآفاق الاجتماعية والسياسية والثقافية زاد هشاشة المجتمع التونسي وأضعفت سلطة الأبوين والأسرة. وبات مزيد من المراهقين والشباب يحلم بالهجرة القانونية والسرية إلى أوروبا أو سوريا وليبيا، عرضة لخطر الاستقطاب من تنظيمات منحرفة أو إرهابية، حسب الجامعي رضا الشكندالي.
ومن بين ما عقد الأوضاع، وفق عدد من الباحثين، هيمنة القيم الغربية والسلوكيات التحررية التي لا تحكمها أي ضوابط في بعض الأوساط البورجوازية في وقت تشكو فيه الفئات الفقيرة والمؤسسات التربوية ووسائل الإعلام من تراجع تأثير برامج التوعية الدينية والأنشطة التربوية والثقافية والرياضية، التي تعيد الاعتبار إلى مرجعيات العائلة الناجحة والمجتمع المتضامن. كما يرى آخرون أن استقطاب «مافيات» تدعم الجريمة المنظمة والإرهاب لشباب تونسي يتحقق بسهولة «بسبب انسداد الأفق أمامهم عن واقع بلدهم الذي انخرط في الحداثة بنسق سريع منذ عشرات السنين». وهنا يحذر هؤلاء من مضاعفات غياب مشروع وطني يساهم في ملء الفراغ الفكري والروحي والثقافي، ويساهم في تحسين ظروف الشباب الاجتماعية والاقتصادية والنفسية؛ مما يبرر اندفاع جزء منهم نحو «الانتقام من الآخر البعيد، وهو الغرب، والآخر القريب بالداخل، وهو الدولة وحلفاؤها السياسيين».
في السياق نفسه، اعتبر عبد اللطيف الحناشي، الحقوقي والباحث في التاريخ المعاصر، أن رفض الشباب واقعه، وتطلعه إلى إحداث تغيير جذري يحقق ذاته سهّل من عملية تجنيد كثيرين تحت يافطات ثورية حينا، وأخرى دينية حينا آخر. وسجل، أن الشباب كان سهل الاستقطاب على مر التاريخ، وبخاصة في مراحل الأزمات والحروب. وتابع أن «التأويلات المتشددة للدين والقراءات المتطرفة للمستجدات السياسية جاءت نتيجة تزايد تأثير القنوات الفضائية التي تبث خطابا دينيا أصوليًا متطرفًا، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي التي تجيد تلك التنظيمات استخدامها لاستقطاب الشباب».
ولعل من بين مبررات ارتفاع نسبة الواقعين في فخها بين التونسيين، تعميم شبكة الإنترنت، ومنظومات الاتصال الافتراض في بلدهم منذ عقدين بنسب تفوق أغلب الدول العربية.
* تشكيك بالمعطيات
أخيرًا، يشكك إعلاميون وجامعيون وسياسيون من تيارات مختلفة في صدقية الإحصائيات والتقديرات حول عدد الإرهابيين التونسيين داخل البلاد وخارجها. إذ يتساءل الخبير في الشؤون الاستراتيجية، فيصل الشريف، ما إذا كان التونسيون يحتلون حقًا المرتبة الأولى بين مسلحي «داعش» و«القاعدة»، أم أن هدف بعض الأوساط «تشويه الثورة السلمية التونسية ونموذج الاعتدال والتوافق السياسي في البلد العربي الوحيد الذي نجح فيه نسبيا الانتقال الديمقراطي بعد ثورات 2011»؟
أيضًا، فاضل موسى، البرلماني والعميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية، قال إنه أصبح يشكك في المعطيات التي تقدمها السلطات الأمنية التونسية والدولية حول الإرهابيين التونسيين في الخارج. وهو يرى أن «التضارب في الأرقام المقدمة يدل على نقص المعلومات لدى الأجهزة الأمنية ومجموعات البحث الاجتماعية عن ظاهرة... يتميز منخرطوها بسريتهم ومناورتهم وقدرتهم على مغالطة كل سلطات الرقابة، وبعدم كشف كل أهدافهم من رحلاتهم إلى الخارج في بلد مفتوح مثل تونس».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.