أسبوع باريس لـ«هوت كوتور»... ربيع وصيف 2017 يحن إلى حميمية أيام زمان

المصممون يتخبطون بين غزل الأحلام ونسج خيوط تربط الماضي بالمستقبل

TT

أسبوع باريس لـ«هوت كوتور»... ربيع وصيف 2017 يحن إلى حميمية أيام زمان

تأرجح أسبوع الـ«هوت كوتير» في باريس لربيع وصيف 2017 بين المبتكر المنفذ بحرفية عالية والتجاري المغلف باحترافية. بعض العروض جعلتنا نحلم، بينما ذكرتنا أخرى كيف تغير الأسبوع الذي كان في يوم من الأيام قاصرا على النخبة، ومنبرا يستعرض فيه المصمم قدراته وخصوبة خياله، إلى أسبوع يدعي فيه الديمقراطية، ويحاول فيه المصمم البقاء في الساحة بأي ثمن. ما أكده الأسبوع الأخير أن بيوت الأزياء العريقة في مجال «الكوتير» مثل «ديور»، و«شانيل»، و«فالنتينو»، غير محتاجة إلى بذل جهود كبيرة لإقناعنا بأهمية وجمال اقتراحاتها، فهي تتمتع بحرفيين متمرسين ينضوون تحت أجنحتها ويتعاملون مع المهنة بحب وفخر، على العكس ممن لا يمتلكون الإمكانيات الكبيرة نفسها، ومضطرون للبحث على ورشات متخصصة يتعاملون معها لتنفيذ فستان قد يتعدى سعره المائة ألف دولار بسهولة. هؤلاء قدموا أزياء تحاكي الـ«هوت كوتير»، ويقتصر فيها الترف على الأقمشة والتطريز. المشكلة في عروض هذا الموسم أنها افتقرت في السنوات الأخيرة إلى جموح الابتكار وجرأة الاختبار، وهو ما كان يدخل في صميم شخصيتها. فقد كانت في زمن الكبار مختبرا لأفكار قد يراها البعض فانتازية أو سريالية، لكن يتم تطويعها فيما بعد في الأزياء الجاهزة. لم يكن الهدف الأساسي من الـ«هوت كوتير» الربح التجاري بقدر ما كان منح الدار والمصمم على حد سواء «بريستيج» يترجم في مبيعات الأزياء الجاهزة والإكسسوارات والعطور ومستحضرات التجميل فيما بعد. وهذا تحديدا ما كان يعطي أي قطعة تحمل توقيع «هوت كوتير» خصوصيتها وتفردها ويجعلها تحاكي التحف الفنية. لا ننكر أن الأسبوع شهد عروضا مبهرة، لكن نعود ونقول إنه بعيدا عن الديكورات الضخمة التي تنافس الأزياء وأصبحت لصيقة ببعض بيوت الأزياء الكبيرة، تبقى الأزياء أهم ما في الأسبوع، علما بأن هذه الأزياء يجب أن تختزل كل معاني الترف والفخامة في كل غرزة وكل طية. فالديمقراطية هنا لا تنفع حتى وإن كنا في عصر «الإنستغرام». فامرأة مستعدة لدفع مئات الآلاف الدولارات لقاء قطعة فريدة لا شك ترفض رفضا باتا أن يراها الجميع على وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تصل إليها، وربما هذا ما جعل بيوت أزياء مثل «فرساتشي» تختار عدم تنظيم عرض أزياء كبير كعادتها، مفضلة عرضا مصغرا استعرضت فيه فساتين لا تتعدى العشرين تصميما، قالت إنها سترحل بها إلى زبوناتها أينما كن عوض استعراضها أمام العالم. ما تبينته الدار أن زبونة الـ«هوت كوتير» لا تريد أن تشتري فستانا استهلك على شبكات التواصل الاجتماعي أو ظهرت به نجمة قبلها حتى وإن كانت من الصف الأول. هذه الزبونة تعرف أن لها سطوة، وأن كلمتها مسموعة، وبالتالي تطمع أن تحصل على تحفة مفصلة على مقاسها، والأهم من هذا لا سبيل لغيرها إليها. هذه الفلسفة أصبحت مهمة الآن أكثر من أي وقت مضى بالنظر إلى أن مفهوم الترف تغير وأصبح مشاعا لكل من لها الإمكانيات المالية، بغض النظر إن كانت تتذوق هذا الترف وتُقدره، أم فقط تستعمله للتباهي ووسيلة للانخراط في ناد لم تكن تدخله في الماضي سوى قلة من الأرستقراطيات والنخبويات.
ما تستخلصه أيضا من الأسبوع أنه ممزق بين الماضي الجميل والحاضر المضطرب، ما جعله يعاني من ازدواجية أقرب إلى الانفصام. فقد روض معظم المصممين جموحهم وتبنوا أسلوبا أرادوا منه التذكير بالزمن الجميل عندما كانت الأزياء الرفيعة تقدم في صالونات حميمة، لكنهم لم يستطيعوا أن يديروا ظهورهم لوسائل التواصل الاجتماعي تماما. صحيح أنهم خففوا منها بتقليص عدد المدونات وفتيات «الإنستغرام» اللواتي كن يحتللن المقاعد الأمامية على حساب محررات الموضة في المؤسسات التقليدية في المواسم الماضية، إلا أنهم لم يستطيعوا إلغاءها تماما. فالعملية اقتصرت على نوع من الغربلة، حفاظا على خصوصية العروض والزبونات اللواتي يحضرن العروض للشراء، وهو ما انعكس أيضا على الديكورات التي استعملت لتعكس جمال الأزياء لا أن تسرق الأضواء منها.
«شانيل» مثلا قدمت عرضها لربيع وصيف 2017 كالعادة في «لوغران باليه» الذي توسطته مرايا دائرية ممتدة من منصة العرض إلى أعلى، قالت الدار إنها استلهمته من مرايا توجد في مشغلها الواقع بشارع «غامبون» ومطبوعة بالآرت ديكو، فيما ظهرت على الجوانب مزهريات تحتضن باقات من السوسن الأبيض. غني عن القول إن هذه المرايا وانعكاسات الضوء عليها كانت خلفية رائعة للأزياء التي غلبت عليها ألوان فاتحة وهادئة مع زخات ماسية تخللت ثنايا كثير من التصاميم.
كعادته أكد كارل لاغرفيلد أنه ساحر يتمتع بقدرات تأثير هائلة بغض النظر عما يقدمه. استهل العرض بمجموعة من التايورات بخصور عالية زادتها الأحزمة التي تجلس تحت الصدر مباشرة وضوحا. لم تكن أجمل ما في العرض، بل يمكن القول إنها كانت صارمة إلى حد ما بأحجامها وسماكة أقمشتها، ولم تنجح الألوان ذات الدرجات الهادئة التي تتباين بين الأخضر والوردي والمشمشي والليلكي والأصفر، ولا الأحزمة في التخفيف من صرامتها. ما يشفع لها أنها مفصلة بأسلوب لا يُعلى عليه من شأنه أن يروق لسيدة أعمال أو شابة تريد أن تفرض وجودها وتعانق تضاريس جسدها. لحسن الحظ سرعان ما أتبعها بمجموعة تتميز بخطوط مستقيمة تتفرع وتتسع من أسفل فيما شرحت الدار بأنه مستوحى من شكل الملعقة، أو بالأحرى من تحفة فنية نحتها الفنان السويسري الأصل ألبرتو جياكوميتي في العشرينات من القرن الماضي تُعرف في الأوساط الفنية بـ«المرأة الملعقة» (Spoon Woman).. كارل لاغرفيلد ترجم هذا الشكل من خلال التفصيل المستقيم من الأكتاف إلى الركبة أو أسفلها، حيث يتسع التصميم إما نافشا ريشا وإما بكشاكش متفتحة. وإذا بدا هذا الشكل جديدا وغريبا للوهلة الأولى في القطع الموجهة للنهار، فإنه أخذ بُعدا أكثر أناقة وتفردا في أزياء المساء والسهرة. فهو على الأقل جديد، وهو ما يعتبر عز الطلب في هذا الموسم بالذات. لكن إذا كانت النية التمويه على تضاريس الجسم وإعطاء الانطباع بالرشاقة فإن العملية تحتاج إلى بعض التدبير والتنسيق، وربما هذا ما جعل الحزام جزءا لا يتجزأ في هذه التشكيلة. فالمصمم هذه المرة لم يحتفل بالنحافة كعادته وعانق الأنوثة بكل تناقضاتها، وهو ما يمكن اعتباره مُنعشا بالنسبة لمصمم لم يخف يوما ميله إلى المرأة النحيفة. لمناسبات السهرة والمساء قدم فساتين تخاطب كل الأذواق والأجيال مثل فستان أسود على شكل معطف طويل بياقة عالية ظهرت به العارضة جيجي حديد، وآخر يتميز بخصر عال وكشاكش من الريش من أسفل ظهرت به العارضة كيندل جينر. ويبدو أن الريش كان ملحا على المصمم لأنه اكتسب قوة غير مسبوقة في هذه التشكيلة، حيث ظهر إما في أكمام وإما حواشي مجموعة لا بأس بها من التصاميم. من ناحية الألوان فإن الدرجات الهادئة غلبت حتى على فساتين السهرة، من اللون الأبيض إلى الوردي، فيما أضفى اللون الماسي كثيرا من البريق عليها.
الحديث عن البريق يجعل اسم إيلي صعب أول ما يقفز إلى الذهن، لأنه عاد إليه في هذه التشكيلة من خلال التطريز السخي. على غير عادته، لم يكن الهدف الأول لإيلي صعب أن يبيع لنا حلما بقدر ما كان إحياء ذكرى أيقظت كثيرا من الحنين إلى ماضينا الجميل. كانت مصر ملهمته، حيث غرف من نيلها زرقة وصفاء ألوانه، ومن سينما الأبيض والأسود كلاسيكية كل قطعة تعانق الجسم بأنوثة لا تخطئها العين، ومن جمال ورقي نجمات الخمسينات والستينات أناقة التشكيلة ككل. كان العرض لقاء حميما بفاتن حمامة وهند رستم وتحية كاريوكا وسامية جمال وغيرهن. وحسب تصريح إيلي صعب فقد «كان الكل أنيقا في مصر أيام عزها، عندما كانت تُعرف بهوليوود الشرق». ورغم أن التركيز كان على الماضي القريب، كانت هناك أيضا ومضات تستحضر حضارة الفراعنة، مثل عين واقية من الحسد باللون الأزرق مطرزة على تنورة مستديرة في فستان طويل وغيرها. القول إن إيلي صعب استخدم البريق والتطريز بجرعات خفيفة وموزونة لن يكون صحيحا، لأنه أظهر كرما في استعمال الخرز والترتر والأحجار غاب من عروضه لعدة مواسم. ومع ذلك لم يُسبب هذا الكم زغللة أو تخمة بل العكس تماما، فكل فستان كان يمر من أمامك يُنسيك ما سبقه لتكتشفي كم أنت عطشانة لماء النيل والعوم في زرقته. هذا لا يعني أن الأزرق، بدرجاته المتباينة بين السماوي الهادئ والداكن، كان اللون الوحيد أو الأقوى، لكنه أكثر ما يعلق بالبال، بل كان هناك تعادل بينه وبين ألوان أخرى مثل الذهبي والبيج المتلون بدرجات متنوعة، فيما كان القاسم المشترك بينها جميعا بريق الماس والترتر والأحجار، ما جعل العرض مثيرا بالنسبة للضيوف العرب تحديدا، ليس توزيع الموسيقى الذي جمع الغربي بالعربي فحسب، بل كونها ثاني مرة يستقي فيها المصمم من الجغرافيا العربية. المرة الأولى كانت تشكيلة «شمس بيروت» التي اعتمد فيها لونا واحدا، هو الذهبي، وحينها لم يتصور أحد أن ينجح في إعطاء لون واحد عدة شخصيات من دون أن يصيب بالملل، وهو ما تكرر في هذه التشكيلة التي أغرقها بالتطريز ومع ذلك اكتسبت توازنا عجيبا. تجنب المصمم الغرف من الثقافة العربية إلى حد الآن، ربما يعود إلى خوفه من النمطية كما قد يكون خوفا من الوقوع في مطب الكليشيهات والفولكلور. تشكيلته لربيع وصيف 2017 أكدت أنه لا خطر عليه من هذا الأمر، فالتطريز كان عصريا كذلك الدمج بين الألوان، لتكون النتيجة فساتين تقطر برومانسية تعشقها زبونته، ولا شك ستشكره عليها وهي تتخايل بها هذا الصيف.
في المقابل قدم جون بول غوتييه تشكيلة تفتقر إلى بريق الترتر والخرز، واكتفى فيها بالتفصيل الذي يُتقنه. فمنذ أن اعتزل تصميم الأزياء الجاهزة وتفرغ لـ«هوت كوتور» وشقي الموضة الفرنسية كما يحلو لصناع الموضة تسميته، يعطي الانطباع بأنه لا يأخذها بجدية. فنجاح عطوره ومبيعاتها تكفي لاستمراره وتغذية رغبته في إبداع قطع تُعبر عن فلسفته قبل أن تستجدي رضا الأسواق العالمية. الأزياء التي قدمها في الأسبوع الماضي أكدت أنه لا يزال في جعبته كثير، من الناحية التقنية على الأقل، أما اللهو والمرح فما هما إلا لغة مسرحية وبهارات تخفي بين طياتها الكثير من الحرفية والقدرة على التفصيل سواء في تايورات «توكسيدو» أو في فساتين منسدلة تستحضر أميرات الأساطير. القصة التي نسجها المصمم هذه المرة جرت أحداثها في الحقول والمزارع بطلتها فتاة قروية تعيش حياتها بالطول والعرض غير مبالية بأي تفاصيل من شأنها تقييد حريتها، على كل المستويات. لم يقدم المصمم جديدا لم نره من قبل في عروضه، لكنه على الأقل ظل وفيا لأسلوبه، وهذا ما جعل الإخراج المسرحي مهما بالنسبة له للتمويه على المألوف الذي يعتبر مضادا للموضة. الطريف أننا بتنا نعرف مسبقا أنه لن يقدم تصاميم ثورية، كما بتنا نتوقع السيناريو نفسه الذي هو عبارة عن موسيقي يعزف على المنصة أو راقصة تتلوى بفستان فني، ثم ظهور جون بول غوتييه وهو يجري على طولها بعد انتهاء العرض مثل الطفل الذي نجح في الامتحان، ومع ذلك يبقى دائما من العروض التي يتحمس لها الجميع ويترقبونها، لأنها دائما ممتعة تُشعرك بأنك جزء من المسرحية ولست مجرد متابع لها من بعيد. تُشعرك أيضا بالتعاطف مع مصمم يسبح ضد التيار في زمن لم يعد هو الزمن الذي تعود عليه، فيما يمكن اعتباره شجاعة وتمردا على الحال التي آلت إليها الموضة، أو إيمانا بأسلوبه واحتفالا بحريته بعيدا عن إملاءات الأسواق.
وإذا كان جون بول غوتييه ركز على فساتين وتايورات مفصلة تناسب واقع امرأة عملية في حال تعاملت معها بحنكة وذوق، فإن الثنائي الهولندي «فكتور آند رولف» قدما تشكيلة تحمل رسالة نبيلة تمحورت على حماية البيئة والتمرد على الموضة السريعة. ترجما هذه الرسالة باستعمالهما أقمشة مستعملة أعادا تدويرها وتوظيفها بذوق في فساتين تعبق بإيحاءات من الثمانينات، كما تستحضر عهد ماري أنطوانيت وحفلات البلاطات الفخمة بكشاكشها واستدارتها.
التلاعب بالأقمشة المستعملة ليست فكرة جديدة، فقد سبقهما إليها مارتن مارجيلا في الثمانينات، وكانت حينها ردة فعل على الفخامة والبذخ اللذين شهدتهما الموضة في تلك الحقبة، لكن ما يُحسب للثنائي فكتور هورستينغ ورولف سنورين أنهما صبا فيها كثيرا من الحداثة والحيوية، رغم نكهتها السكرية في بعض الحالات. بعد العرض شرح المصممان أن هدفهما لم يكن تقديم أزياء رائعة الجمال ودقيقة التفاصيل لا تخلو من أخطاء، بل العكس تماما، فمن الفوضى يولد الجمال أحيانا، لهذا تعمدا أن تبدو بعض الأجزاء ممزقة أو مرقعة بتقنية الباتشوورك، التي كان من الصعب تصورها في موسم يقوم على الفخامة أولا وأخيرا. ورغم أن الثنائي الهولندي لا يهتم عادة بالجمال بقدر ما يهتم بالفنية التي تخلق حوارا فلسفيا وفكريا، فإنهما هذه المرة لم يستطيعا تجنب العنصر الجمالي الذي تسلل إلى كثير من الفساتين لا سيما ذات التنورات المستديرة.
رغم كم الإبداع الذي تابعناه في أسبوع لربيع وصيف 2017، فإن أكثر من عبر عن روحه واختزلها هو الإيطالي بيير باولو بيكيولي، مصمم «فالنتينو»، باقتباسه من مسرحية «العاصفة» لشكسبير مقولة الساحر بروسبيرو «إنها من الأمور المغزولة بالأحلام» التي أسقطها على الـ«هوت كوتير»، ليؤكد لنا أننا في موسم بيع الحلم. واعترف بيكيولي أنه لم يكتف بشكسبير واقتبس أيضا من فلوبير مقولته بأن «الهدف من الفن هو صنع الأحلام»، وما قدمه في اليوم الأخير من الأسبوع كان فنا بكل المقاييس. غني عن القول إن قلة تتحقق أحلامها، في حين تبقى أزياء هذا الموسم بالنسبة للغالبية منا مجرد أحلام تدغدغ الخيال من بعيد. كانت هذه أول تشكيلة «هوت كوتير» يقدمها المصمم لـ«فالنتينو» بشكل منفرد، بعد مغادرة نصفه الثاني في العمل ماريا غراتزيا تشيوري الدار، لتكون أول مصممة تدخل «ديور» منذ تأسيسها. هي الأخرى قدمت تشكيلة حالمة استوحتها من غابة مسحورة تسكنها الجنيات، واستغلت فيها كل إمكانيات «ديور» لتعبر عن حلمها من خلال أزياء عصرية ترقص على نغمات رومانسية. لكن الفرق بينهما شاسع، فماريا غراتزيا في أول الطريق ويلزمها بعض الوقت لتتشرب تاريخ وعراقة الدار وتُتقن لغتها الفرنسية، وهو ما يختلف بالنسبة لبيكيولي. فهو لم ينسلخ عن المحيط الذي يعرفه جيدا، وبالتالي كان من السهل عليه أن يقف شامخا على قدميه ولوحده، حسبما أكدته تشكيلة تقمص فيها دور نحات تارة ودور شاعر أو بائع أحلام تارة أخرى. كل ما فيها ضج بالحرفية والتعقيد المبسط، وعدم الارتباط بفترة زمنية، رغم أن أساطير اليونان كانت حاضرة فيها.
فقد أطلق على كل قطعة اسم شخصية من هذه الأساطير مثل إيروس، وإيكارو، وأبولو، أثينا وهلم جرا. فستان أثينا مثلا جاء على شكل معطف طويل من الكشمير باللون العاجي تخللته تطريزات خفيفة، بينما استعمل في فستان أبولو، إله الشمس، تقنية على شكل ضفائر مجدولة من الموسلين والتول دمج فيها ما لا يقل عن 15 درجة من اللون الأصفر. أما اللغة الشاعرية التي استعملها فتجسدت في خطوط منسدلة من الأكتاف إلى القدمين، أغلبها بألوان فاتحة وهادئة تصدمك ببساطتها الراقية، فيما جاء بعضها الآخر مطرزا بدقة وكأنه حديقة أزهار متفتحة بفضل تقنية الماكارمي التي تطلبت قرابة ألفي غرزة تقريبا.
وكأنه خاف على كل هذا الجهد من التلف وتعمد تغطيته بالتول الذي لعب دور ستارة خفيفة زادت القطعة جمالا. البليسيهات أيضا كانت قوية في بعض الاقتراحات وكانت تتحرك بحرية، لكن من دون أن تخرج عن الخط المرسوم لها.
لا شك أن هذا العرض بالذات كان مهما بالنسبة لبيير باولو بيكيولي، تماما مثل ما كان لماريا غراتزيا تشيوري. فكل الأعين كانت منصبة عليهما نظرا لشعبيتهما كشريكين عملا في «فالنتينو» لنحو 25 عاما، ونجحا أن يكونا خير خلف للمؤسس غارافاني فالنتينو الذي حضر العرض، وكان مثل كل الضيوف مشدوها. بينما قدمت تشيوري تشكيلة حالمة أقدامها في الأرض، وقدم بيكيولي تشكيلة حالمة تحلق في السماء بقوتها، وكانت كل ما نحتاجه لكي نتأكد من قوة الـ«هوت كوتير»، وأهميتها في الحاضر والمستقبل.



المحلات الشعبية تستعين بالنجوم لاستقطاب الزبائن

تُرسِخ تجربة العارضة كايت موس مع محلات «زارا» التغير الذي طرأ على عالم الموضة (زارا)
تُرسِخ تجربة العارضة كايت موس مع محلات «زارا» التغير الذي طرأ على عالم الموضة (زارا)
TT

المحلات الشعبية تستعين بالنجوم لاستقطاب الزبائن

تُرسِخ تجربة العارضة كايت موس مع محلات «زارا» التغير الذي طرأ على عالم الموضة (زارا)
تُرسِخ تجربة العارضة كايت موس مع محلات «زارا» التغير الذي طرأ على عالم الموضة (زارا)

إذا كنتِ مداومة على التسوق في محلات «زارا» لأسعارها ونوعية ما تطرحه، فإنكِ قد تتفاجئين أن تعاونها الأخير مع العارضة البريطانية المخضرمة كايت موس سيُكلَفكِ أكثر مما تعودت عليه. فهناك معطف قصير على شكل جاكيت من الجلد مثلاً يقدر سعره بـ999 دولاراً أميركياً، هذا عدا عن قطع أخرى تتراوح بين الـ200 و300 دولار.

تفوح من تصاميم كايت موس رائحة السبعينات (زارا)

ليست هذه المرة الأولى التي تخوض فيها كايت موس تجربة التصميم. كانت لها تجربة سابقة مع محلات «توب شوب» في بداية الألفية. لكنها المرة الأولى التي تتعاون فيها مع «زارا». ويبدو أن تعاون المحلات مع المشاهير سيزيد سخونة بالنظر إلى التحركات التي نتابعها منذ أكثر من عقد من الزمن. فعندما عيَنت دار «لوي فويتون» المنتج والمغني والفنان فاريل ويليامز مديراً إبداعياً لخطها الرجالي في شهر فبراير (شباط) من عام 2023، خلفاً لمصممها الراحل فرجيل أبلو؛ كان الخبر مثيراً للجدل والإعجاب في الوقت ذاته. الجدل لأنه لا يتمتع بأي مؤهلات أكاديمية؛ كونه لم يدرس فنون التصميم وتقنياته في معهد خاص ولا تدرب على يد مصمم مخضرم، والإعجاب لشجاعة هذه الخطوة، لا سيما أن دار «لوي فويتون» هي الدجاجة التي تبيض ذهباً لمجموعة «إل في إم إتش».

فاريل ويليامز مع فريق عمله يُحيّي ضيوفه بعد عرضه لربيع وصيف 2024 (أ.ف.ب)

بتعيينه مديراً إبداعياً بشكل رسمي، وصلت التعاونات بين بيوت الأزياء الكبيرة والنجوم المؤثرين إلى درجة غير مسبوقة. السبب الرئيسي بالنسبة لمجموعة «إل في إم إتش» أن جاذبية فاريل تكمن في نجوميته وعدد متابعيه والمعجبين بأسلوبه ونجاحه. فهي تتمتع بماكينة ضخمة وفريق عمل محترف يمكنها أن تُسخِرهما له، لتحقيق المطلوب.

صفقة «لوي فويتون» وفاريل ويليامز ليست الأولى وإن كانت الأكثر جرأة. سبقتها علاقة ناجحة بدأت في عام 2003 بين لاعب كرة السلة الأميركي الشهير مايكل جوردان وشركة «نايكي» أثمرت عدة منتجات لا تزال تثير الرغبة فيها وتحقق إيرادات عالية إلى الآن.

كان من الطبيعي أن تلفت هذه التعاونات شركات أخرى وأيضاً المحلات الشعبية، التي تعاني منذ فترة ركوداً، وتشجعها على خوض التجربة ذاتها. أملها أن تعمَّ الفائدة على الجميع: تحقق لها الأرباح باستقطاب شرائح أكبر من الزبائن، وطبعاً مردوداً مادياً لا يستهان به تحصل عليه النجمات أو عارضات الأزياء المتعاونات، فيما يفوز المستهلك بأزياء وإكسسوارات لا تفتقر للأناقة بأسعار متاحة للغالبية.

الجديد في هذه التعاونات أنها تطورت بشكل كبير. لم يعد يقتصر دور النجم فيها على أنه وجه يُمثلها، أو الظهور في حملات ترويجية، بل أصبح جزءاً من عملية الإبداع، بغضّ النظر عن إنْ كان يُتقن استعمال المقص والإبرة أم لا. المهم أن يكون له أسلوب مميز، ورؤية خاصة يُدلي بها لفريق عمل محترف يقوم بترجمتها على أرض الواقع. أما الأهم فهو أن تكون له شعبية في مجال تخصصه. حتى الآن يُعد التعاون بين شركة «نايكي» ولاعب السلة الشهير مايكل جوردان، الأنجح منذ عام 2003، ليصبح نموذجاً تحتذي به بقية العلامات التجارية والنجوم في الوقت ذاته. معظم النجوم حالياً يحلمون بتحقيق ما حققه جوردان، بعد أن أصبح رجل أعمال من الطراز الأول.

من تصاميم فكتوريا بيكهام لمحلات «مانغو»... (مانغو)

المغنية ريهانا مثلاً تعاونت مع شركة «بوما». وقَّعت عقداً لمدة خمس سنوات جُدِّد العام الماضي، نظراً إلى النقلة التي حققتها للشركة الألمانية. فالشركة كانت تمر بمشكلات لسنوات وبدأ وهجها يخفت، لتأتي ريهانا وترد لها سحرها وأهميتها الثقافية في السوق العالمية.

المغنية ريتا أورا، أيضاً تطرح منذ بضعة مواسم، تصاميم باسمها لمحلات «بريمارك» الشعبية. هذا عدا عن التعاونات السنوية التي بدأتها محلات «إتش آند إم» مع مصممين كبار منذ أكثر من عقد ولم يخفت وهجها لحد الآن. بالعكس لا تزال تحقق للمتاجر السويدية الأرباح. محلات «مانغو» هي الأخرى اتَّبعت هذا التقليد وبدأت التعاون مع أسماء مهمة مثل فيكتوريا بيكهام، التي طرحت في شهر أبريل (نيسان) الماضي تشكيلة تحمل بصماتها، تزامناً مع مرور 40 عاماً على إطلاقها. قبلها، تعاونت العلامة مع كل من SIMONMILLER وكاميل شاريير وبيرنيل تيسبايك.

سترة مخملية مع كنزة من الحرير بياقة على شكل ربطة عنق مزيَّنة بالكشاكش وبنطلون واسع من الدنيم (ماركس آند سبنسر)

سيينا ميلر و«ماركس آند سبنسر»

من هذا المنظور، لم يكن إعلان متاجر «ماركس آند سبنسر» عن تعاونها الثاني مع سيينا ميلر، الممثلة البريطانية وأيقونة الموضة، جديداً أو مفاجئاً. مثل كايت موس، تشتهر بأسلوبها الخاص الذي عشقته مجلات الموضة وتداولته بشكل كبير منذ بداية ظهورها. فهي واحدة ممن كان لهن تأثير في نشر أسلوب «البوهو» في بداية الألفية، كما أن تشكيلتها الأولى في بداية العام الحالي، حققت نجاحاً شجع على إعادة الكرَّة.

فستان طويل من الساتان المزيَّن بثنيات عند محيط الخصر يسهم في نحت الجسم (ماركس آند سبنسر)

موسم الأعياد والحفلات

بينما تزامن طرح تشكيلة «مانغو + فيكتوريا بيكهام» مع مرور 40 عاماً على انطلاقة العلامة، فإن توقيت التشكيلة الثانية لسيينا ميلر التي طُرحت في الأسواق في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، أيضاً له دلالته، بحكم أننا على أبواب نهاية العام. فهذه تحتاج إلى أزياء وإكسسوارات أنيقة للحفلات. لم يكن الأمر صعباً على سيينا. فإلى جانب أنها تتمتع بأسلوب شخصي متميِز، فإنها تعرف كيف تحتفل بكل المناسبات بحكم شخصيتها المتفتحة على الحياة الاجتماعية.

وتعليقاً على هذا الموضوع، أعربت الممثلة عن سعادتها بالنجاح الذي حققته قائلةً: «أحببت العمل على التشكيلة الأولى ويملؤني الحماس لخوض التجربة مرة أخرى. فالتشكيلة الثانية تتسم بطابع مفعم بالمرح والأجواء الاحتفالية، إذ تضم قطعاً أنيقة بخطوط واضحة وأخرى مزينة بالفرو الاصطناعي، بالإضافة إلى فساتين الحفلات والتصاميم المزينة بالطبعات والنقشات الجريئة والإكسسوارات التي يسهل تنسيق بعضها مع بعض، إلى جانب سراويل الدنيم المفضلة لديّ التي تأتي ضمن لونين مختلفين».

فستان ماركس سهرة طويل من الحرير بأطراف مزينة بالدانتيل (ماركس آند سبنسر)

دمج بين الفينتاج والبوهو

تشمل التشكيلة وهي مخصصة للحفلات 23 قطعة، تستمد إلهامها من أسلوب سيينا الخاص في التنسيق إضافةً إلى أزياء مزينة بالترتر استوحتها من قطع «فينتاج» تمتلكها وجمَعتها عبر السنوات من أسواق «بورتوبيلو» في لندن، استعملت فيها هنا أقمشة كلاسيكية بملمس فاخر. لكن معظمها يتسم بقصَّات انسيابية تستحضر أسلوب «البوهو» الذي اشتهرت به.

مثلاً يبرز فستان طويل من الحرير ومزيَّن بأطراف من الدانتيل من بين القطع المفضلة لدى سيينا، في إشارةٍ إلى ميلها إلى كل ما هو «فينتاج»، كما يبرز فستانٌ بقصة قصيرة مزين بنقشة الشيفرون والترتر اللامع، وهو تصميمٌ يجسد تأثرها بأزياء الشخصية الخيالية التي ابتكرها المغني الراحل ديفيد بوي باسم «زيجي ستاردست» في ذلك الوقت.

طُرحت مجموعة من الإكسسوارات بألوان متنوعة لتكمل الأزياء وتضفي إطلالة متناسقة على صاحبتها (ماركس آند سبنسر)

إلى جانب الفساتين المنسابة، لم يتم تجاهُل شريحة تميل إلى دمج القطع المنفصلة بأسلوب يتماشى مع ذوقها وحياتها. لهؤلاء طُرحت مجموعة من الإكسسوارات والقطع المخصصة للحفلات، مثل كنزة من الدانتيل وبنطلونات واسعة بالأبيض والأسود، هذا عدا عن السترات المفصلة وقمصان الحرير التي يمكن تنسيقها بسهولة لحضور أي مناسبة مع أحذية وصنادل من الساتان بألوان شهية.

أرقام المبيعات تقول إن الإقبال على تشكيلات أيقونات الموضة جيد، بدليل أن ما طرحته كايت موس لمحلات «زارا» منذ أسابيع يشهد إقبالاً مدهشاً؛ كونه يتزامن أيضاً مع قرب حلول أعياد رأس السنة. ما نجحت فيه موس وميلر أنهما ركَزا على بيع أسلوبهما الخاص. رائحة السبعينات والـ«بوهو» يفوح منها، إلا أنها تتوجه إلى شابة في مقتبل العمر، سواء تعلق الأمر بفستان سهرة طويل أو جاكيت «توكسيدو» أو بنطلون واسع أو حذاء من الجلد.

رغم ما لهذه التعاونات من إيجابيات على كل الأطراف إلا أنها لا تخلو من بعض المطبات، عندما يكون النجم مثيراً للجدل. ليس أدلَّ على هذا من علاقة «أديداس» وعلامة «ييزي» لكيني ويست وما تعرضت له من هجوم بسبب تصريحات هذا الأخير، واتهامه بمعاداة السامية. لكن بالنسبة إلى ريهانا وفيكتوريا بيكهام وسيينا ميلر وكايت موس ومثيلاتهن، فإن الأمر مضمون، لعدم وجود أي تصريحات سياسية لهن أو مواقف قد تثير حفيظة أحد. كل اهتمامهن منصبٌّ على الأناقة وبيع الجمال.