المخابرات الأميركية استخفت بالسادات ثم أشادت بحنكته ودهائه

تنبأت بفراغ في مصر بعد رحيل عبد الناصر... والأيام كشفت عكس ذلك

الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)
الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)
TT

المخابرات الأميركية استخفت بالسادات ثم أشادت بحنكته ودهائه

الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)
الرئيس المصري الأسبق أنور السادات مع نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974 في مصر (غيتي)

حظيت مصر بنصيب وافر من تقارير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، حيث تكرر ذكرها، في الوثائق التي أزيح عنها ستار السرية، أكثر من 16 ألف مرة، ازدادت تدريجيا من مرتين فقط عام 1941، إلى أن وصلت ذروتها عام 1975 منتصف عهد السادات، بتكرار بلغ نحو ألف مرة، ثم عادت إلى التناقص في أوائل عهد الرئيس مبارك، طبقا لنتائج محركات البحث. ومن غير المعروف ما إن كان الاهتمام قد عاد إلى وتيرته السابقة في التقارير التي لم يمر عليها 25 عاما؛ الفترة القانونية لإزالة ستار السرية عنها.
ومن أهم الفترات التي سلطت عليها التقارير الاستخبارية الضوء بالمعلومات والتحليل، فترة السنتين الأوليين من عهد السادات، حيث تضمن التقرير الأول المكتوب في اليوم التالي لوفاة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، استخفافا بخليفته وتشكيكا في قدرته على حكم مصر، ثم ما لبث الأمر أن تغير إلى إشادة بحنكة السادات أثناء مواجهته لمن أسماهم بمراكز القوى.

وفاة ناصر... وأزمة خلافته
الوثيقة الأولى مؤرخة في 29 سبتمبر (أيلول) 1970، وجاءت على هيئة مذكرة معلوماتية تحت عنوان «وفاة ناصر... وأزمة خلافته»، وتضمنت المذكرة جملة من الأحكام والاستنتاجات، من بينها أن وفاة جمال عبد الناصر تركت فراغا في مصر من الصعب ملؤه. ثم تطرقت إلى نائبه أنور السادات بأنه سيتولى الرئاسة بشكل مؤقت؛ لأن هذا هو ما ينص عليه الدستور المصري قبل أن يتم اختيار رئيس.
ووصفت المذكرة السادات بأنه شخصية يحيط بها الغموض، وظل سنوات طويلة في عهد عبد الناصر يتولى مسؤوليات رمزية، وتقلد مناصب كثيرة منذ مشاركته مع ناصر في حركة الضباط الأحرار. لكن المذكرة تستحسن في السادات معاداته للشيوعية وتصفه بالشخصية الانتهازية وغير مرتبط بآيديولوجية معينة.
وبشأن الثقل السياسي للسادات، تزعم المذكرة أنه شخصية لا وزن لها في دوائر اتخاذ القرار، بل وتجزم أن رئاسته لن تدوم سوى فترة انتقالية قصيرة. لكن المعضلة حسب ما ورد في المذكرة هو عدم وجود أي شخص آخر قادر على ملء الفراغ الذي تركه عبد الناصر. ولهذا فقد رجح محللو «سي آي إيه» أن تكون القيادة جماعية في الفترة المقبلة بالتقاسم بين 3 أشخاص بصورة رئيسية، هم علي صبري وحسين الشافعي وأنور السادات. أما الأشخاص ذوو النفوذ في صنع القرار، فقد ورد في المذكرة اسم سامي شرف وزير الدولة لشؤون الرئاسة ومدير مكتب الرئيس للمعلومات سابقا، إلى جانب وزير الإرشاد القومي محمد هيكل، ووزير الداخلية شعراوي جمعة، وأمين هويدي مدير المخابرات العامة.
وطبقا لمعلومات المحللين الأميركيين في ذلك الوقت، فإن هؤلاء الأشخاص جميعا كانون يدينون بالولاء لجمال عبد الناصر، ولكنهم لا يدين بعضهم بالولاء لبعض، ويوجد بينهم تنافس وصراع مكبوت، توقع المحللون أن يخرج إلى السطح بعد انتهاء مفعول الحزن على عبد الناصر. وخلصت المذكرة إلى أن الجيش بقيادة الفريق فوزي سوف يلعب دور المرجح لكفة أي شخصية عندما يحين موعد المواجهة بين المتصارعين. وتطرقت المذكرة إلى قلق السوفيات على مصير علاقتهم مع مصر بعد رحيل عبد الناصر. ولكن الأغرب من ذلك هو القلق الإسرائيلي من المجهول بعد رحيل خصم عنيد لهم، رغم أن ساسة إسرائيل على المستوى الشخصي يشعرون بالرضا من رحيل ناصر.
وفي يوم السادس من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1970، أي بعد مرور أسبوع واحد فقط على وفاة عبد الناصر، قدمت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إيجازا للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عن الأوضاع في مصر، جاء في عنوانه أن مشكلة اختيار خليفة لعبد الناصر قد تم حلها، لكن مصر مقبلة على تغييرات إضافية وإعادة هيكلة لتركيبته القيادية. وتم إبلاغ الرئيس الأميركي بأن السادات اختير من قبل اللجنتين التنفيذية والمركزية للاتحاد الاشتراكي العربي. كما دعي أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان) لحضور جلسة المصادقة على اختيار السادات رئيسا.
وأعادت الوكالة في هذا التحليل التذكير بأن السادات لا يتمتع بالكاريزما التي يتمتع بها ناصر، معربة عن اعتقادها بأن احتمالات استمراره في الرئاسة ستعتمد إلى حد كبير على موقف عدد من رجال عبد الناصر، منهم شعراوي جمعة، وسامي شرف ومحمود رياض.
وبعد نحو 5 أسابيع من المذكرة الثانية، قدمت وكالة الاستخبارات المركزية لصناع القرار في واشنطن تحليلا جديدا عن تصور الوكالة لمستقبل مصر من دون عبد الناصر. وجاء في التحليل أن الأشخاص الذين يديرون مصر بعد وفاة عبد الناصر لم يثيروا إعجاب الشعب المصري حتى ذلك الحين، ولكنهم تمكنوا من السيطرة على الأوضاع. والمشكلة وفقا للتحليل المشار إليه أن المصريين اعتادوا على قيادة الفرد الواحد القوي، وليس لهم تجارب مع القيادة الجماعية.
لكن المحللين حاولوا إنصاف أنور السادات هذه المرة بالقول إن الانطباع الذي كان سائدا عنه بأنه سياسي غير فعال، بدأ يتغير على نحو مفاجئ بعد قبوله تحمل المسؤولية، مشيرين إلى أن السادات اتخذ قرارات تنبئ عن دهاء، في إشارة إلى تعيينه علي صبري وحسين الشافعي نائبين له، دون منحهما أي صلاحيات تذكر.
ورغم الخلافات بين قادة مصر الجدد والصراعات الخفية بينهم فإنهم، حسب معلومات الوكالة، متفقون على أمر واحد، وهو استبعاد زكريا محي الدين وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين، من أدي دور في الدولة المصرية. ولمح التحليل إلى أن الثلاثة وهم من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار ومن زملاء عبد الناصر في حركة يوليو (تموز)، يحاولون العودة إلى المعترك السياسي دون جدوى.
وتوقع المحللون أن يبقى صنع القرار بأيدي 8 أشخاص، هم أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي.

حركة تصحيحية وحليف جديد لأميركا
وفي الرابع عشر من مايو (أيار) عام 1971، أي قبل حركة «15 مايو» التصحيحية، التي أطاح السادات فيها بخصومه، كانت الاستخبارات الأميركية بوسائلها الخاصة ترصد وتراقب ما يحدث، ولهذا فقد ضمنت الملف اليومي المعروض على الرئيس تلخيصا للوضع في مصر، حتى تلك اللحظة. وأبلغت الوكالة الرئيس نيكسون بالاستقالات الجماعية التي قدمها للسادات وزير الداخلية شعراوي جمعة، ووزير شؤون رئاسة الجمهورية سامي شرف، ووزير الحربية محمد فوزي، احتجاجا منهم على إقالة نائب الرئيس علي صبري من منصبه في الثاني من مايو 1971. ووصف الإيجاز شعراوي جمعة وسامي شرف بأنهما أقوى شخصيتين في مصر نفوذا في تلك الأثناء. وأوضح الإيجاز أن المستقيلين لا يمكن وصفهم باليساريين؛ لأن هذا الوصف لا ينطبق عليهم تماما، ولكن الأمر المؤكد هو أنهم لا يدينون بالولاء للرئيس السادات. واستنتجت الوكالة أن السادات يسعى للتخلص من هؤلاء؛ لأنهم في موقع المنافسة الندية لسلطته، إضافة إلى أن السادات سيكون مطلق اليد في التفاوض مع إسرائيل، بعد أن كان علي صبري ومجموعته يعارضون علنا التفاوض معها. وأشار الإيجاز إلى أن السادات قد عين بالفعل محافظ الإسكندرية ممدوح سالم وزيرا للداخلية، وهو مؤهل للمهمة التي اختير لها بديلا لشعراوي جمعة. كما عين السادات رئيس الأركان محمد صادق وزيرا للحربية بديلا للفريق فوزي، وأشارت المعلومات المقدمة للرئيس الأميركي أن صادق يحظى بنفوذ ودعم في الجيش أوسع مما كان يحوزه سلفه.
ولفتت الوكالة في الإيجاز المشار إليه، إلى أن درجة الثقة العالية التي بدت على السادات وهو يتخذ هذه القرارات، تنم عن أنه قد نسق مع قيادات معينة في القوات المسلحة المصرية، وأن تلك القيادات شجعته على الإقدام على إقالة صبري وقبول استقالات زملائه لاحقا. ولمزيد من الاطمئنان فإن السادات قد سارع بتعيين البديل لفوزي، لضمان قدر أكبر من ولاء الجيش للرئاسة.
وعلى الصعيد المدني، أشارت الوكالة في إيجازها للرئيس الأميركي، إلى أن السادات يعد لإذاعة بيان عبر راديو القاهرة، تعتقد الوكالة أن صياغته تمت بطريقة تسعى لتحقيق هدف استقطاب التعاطف الشعبي، عن طريق الإيحاء بأن بعض المعزولين كانوا متورطين في «التآمر لفرض الوصاية والهيمنة على الشعب عن طريق القمع والإرهاب». وأوضح الإيجاز أن بيان السادات سيتم إذاعته بعد ساعات.
كما أوضح الإيجاز للرئيس نيكسون، أن السادات يحتاج لكل دعم يستطيع الحصول عليه؛ لأن خصومه يستندون على علاقتهم السابقة مع جمال عبد الناصر، فضلا عن أنهم تمكنوا خلال سنوات خدمتهم مع ناصر من تشكيل دوائر نفوذ خاصة بهم. وتوالت بعد ذلك التقارير التي تشيد بحنكة السادات ودهائه وتعترف بأنه استطاع ملء الفراغ الذي خلفه عبد الناصر، ولو أن ذلك تم بطريقته الخاصة.

عن الوثائق السرية
* لأن وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) تزيل أسماء مصادرها وبعض المعلومات التي قد تكشف عنهم من الوثائق المفترض أن السرية قد أزيحت عنها، فإن الوثائق المنشورة عن أي بلد لا تكشف بالضرورة عن معلومات جديدة على مواطني ذلك البلد، ولكن قيمتها التاريخية لا تقدر بثمن؛ لأنها توثق لأهم الأحداث أولا بأول، في حال تم جمعها وترجمة المهم منها بالتسلسل الزمني في أصل الوثائق. ولأن عمل الوكالة لا يقتصر على جمع المعلومات وعرضها على أصحاب القرار، بل يضاف إليه التحليل، فإن ذلك يفيد في معرفة رؤية الوكالة فيما يتعلق بالأحداث المحلية والصراعات كجهة محايدة، يهمها أن تقدم معلومات حقيقية لصانع القرار الأميركي بطريقة مبسطة، لكونه غير ملم على الأرجح بأوضاع البلد المعني أو متابع لأحداثه مثل أبناء ذلك البلد.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.