الأزمة العميقة لدى تنظيمات التطرف العنيف

بين «لا تاريخية» التطرف و«أصالة» العلم الشرعي

أسامة ابن لادن زعيم «القاعدة» السابق (وسط) وإلى يمينه أيمن الظواهري الزعيم الحالي للتنظيم الإرهابي ومحمد عاطف (أبو حفص) المسؤول العسكري السابق الذي قتل نهاية عام 2001، في مؤتمر صحافي عقدوه في قندهار وأعلنوا فيه الحرب على الغرب عام 1998 (غيتي)
أسامة ابن لادن زعيم «القاعدة» السابق (وسط) وإلى يمينه أيمن الظواهري الزعيم الحالي للتنظيم الإرهابي ومحمد عاطف (أبو حفص) المسؤول العسكري السابق الذي قتل نهاية عام 2001، في مؤتمر صحافي عقدوه في قندهار وأعلنوا فيه الحرب على الغرب عام 1998 (غيتي)
TT

الأزمة العميقة لدى تنظيمات التطرف العنيف

أسامة ابن لادن زعيم «القاعدة» السابق (وسط) وإلى يمينه أيمن الظواهري الزعيم الحالي للتنظيم الإرهابي ومحمد عاطف (أبو حفص) المسؤول العسكري السابق الذي قتل نهاية عام 2001، في مؤتمر صحافي عقدوه في قندهار وأعلنوا فيه الحرب على الغرب عام 1998 (غيتي)
أسامة ابن لادن زعيم «القاعدة» السابق (وسط) وإلى يمينه أيمن الظواهري الزعيم الحالي للتنظيم الإرهابي ومحمد عاطف (أبو حفص) المسؤول العسكري السابق الذي قتل نهاية عام 2001، في مؤتمر صحافي عقدوه في قندهار وأعلنوا فيه الحرب على الغرب عام 1998 (غيتي)

في تقرير حديث لمركز مكافحة الإرهاب الأميركي، صدر في 8 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، نجد أن المرتبطين بالعلم الشرعي في صفوف مقاتلي تنظيم داعش - حسب عينة بلغت أكثر من 4 آلاف مقاتل - كانت أقل من 17.6 في المائة فقط، وهو ما يؤكد هشاشة هذه العلاقة بين تنظيمات التطرف ومسألة العلم الشرعي، والتمكن فيه. كذلك أثبتت تقارير أخرى، نشرت خلال الشهور الماضية، أن ما يقرب من 25 في المائة من المقاتلين الأجانب في «داعش» هم من المتحوّلين الجدد للإسلام الذين لم يتعرفوا على تراثات العلم الشرعي بشكل دقيق وعميق وتراكمي. ومن ثم، فإن حركات التطرّف العنيف ليست بحاجة إلى العلم الشرعي، بل كل ما تحتاجه حداثة الالتزام وجهالات العاطفة واللاتاريخية، وغياب الرسوخ في الفقه وأصوله والتاريخ وتحولاته. لكن رغم ذلك، تحاول حركات التطرّف دائمًا صناعة رموز لها، ووصف أمرائها وقادتها بـ«العلم» و«المشيخة» والمعرفة بالتراث، وهو ما تحتاجه فعليًا، كون التطرّف صراعًا في فضاء وحضور العلم الديني، وحفاظًا على عصب الولاء للتنظيم وأميره، مع أسئلة الأتباع دائمًا الذين يهجرونه إن لم يجدوا الإجابات.
يوظف التطرّف - المصروع بالواقع وأهدافه اللاتاريخية - العلم والتراث الشرعي، ولا ينطلق منهما، فالأول حالة غضب مستمر تبحث عن تبرير يناسبها، بينما العلم الشرعي حالة فهم وفق قواعد منضبطة. ولقد نشأت مختلف حركات التطرّف كخطابات أزمة، منفعلة ومتفاعلة دينيًا مع أزمات ليس غير، كما نوضح في المحطات الخمس التالية، مثالاً لا حصرًا:
1 - بعد سقوط الخلافة العثمانية، نشأت حركات الإسلام السياسي، مثل حركة الإخوان المسلمين عام 1928 على يد حسن البنا (توفي عام 1949).
2 - نشأت التنظيمات الراديكالية في مصر وبعض بلدان المنطقة تأثرًا بثورة إيران الخمينية عام 1979، وانفعالاً غاضبًا بتوقيع معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل عام 1978.
3 - ظهرت «القاعدة» بعد احتلال العراق للكويت عام 1990، بعدما وجدت زخمها ورافدها الأول من تجربة «الجهاد» الأفغاني، ومواجهة شيوعية الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي.
4 - ظهرت فروع «القاعدة» بقوة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، وكذلك بعد حرب العراق عام 2003، وسقوط نظام صدام حسين، والاحتلال الأميركي للعراق.
5 - صعدت حركات التطرف العنيف وصولاً إلى «الحالة الداعشية» الراهنة بعد الانتفاضات العربية عام 2011، واتخذت زخمها خاصة من الأزمة والثورة السورية المستمرة.
* انتقاء للتراث يفتقد الضبط المنهجي
بعيدا عن آليات الانتقاء والاقتطاع - وأحيانًا التدليس - في اقتباس النصوص تنزيلاً على الأحكام، وقصدية وغائية النقل عند الإسلامويين المتطرفين، ليخدم منظومتهم الفكرية في صلابتها وصراعها مع خصومها، نظن أن الأزمة أعمق من هذه الآليات الوظيفية. إنها أزمة نشأة ومرجعية، فهي جماعات مأزومة نشأت من مخاضات الواقع وأزماته أولاً، ورد فعل عليه التقط إجابة شاردة هنا أو هناك، أكثر منها حركة علمية أو تعليمية أو توعوية يبدو العلم وخدمته أو تدوينه غايتها، كما كان شأن بعض مدارس التراث.
من هنا، يبدو التراث مباحًا عندهم للالتقاط والانتقاء بلا ضبط منهجي، وليس عجيبًا أن يكون استلهام كثير من هؤلاء لتصوراتهم حول «الخلافة» من عهد الملك الفارسي أردشير، ومقولته الأشهر «الدين أس الملك»، أو من مقولات المتكلمين عن الخلافة والإمامة. ولا يحرجهم التقاؤهم مع ما سبق أن طرحه بعض الغلاة من الخوارج في تكفير المخالف والمعين، أو قتال الطائفة الممتنعة، رغم أن أحدهم يحسم مثلاً بأن محمد الفاتح ليس القائد المقصود بفتح القسطنطينية، لا لشيء غير لأنه أشعري وحنفي ليس على مذهبهم، لكن يستلهمه آخر حين يريد تنشيط الذاكرة. وليس غريبًا أن يكون الكاتب اليساري المعروف الدكتور رفعت السعيد مصدرًا رئيسًا عند أيمن الظواهري في كتابه «الحصاد المر» الذي في طبعته الأخيرة، بغية التقارب والاحتواء بعد وصولها للسلطة، وتعاطفًا معها بعد سقوطها.
* هالة الرمز الشرعي وغيابه عند «داعش»
أقر تنظيم «القاعدة في العراق» عام 2010، في وثيقة حملت عنوان «الاستراتيجية الثانية لاستعادة دولة العراق الإسلامية»، ما كان واضحًا في كتاب «التبرئة» لأيمن الظواهري، زعيم «القاعدة». ووردت أسماء كثيرة... من الباكستاني نظام الدين شامري حتى الشيخ أحمد محمد شاكر، رغم أن ما استلهمه منه مخصوص بحرب الإنجليز في القناة حينها، وصولاً لأمثال أبي عبيدة وأبي منذر الشنقيطي وعبد الآخر حماد وغيرهم من كتاب الراديكاليين. وانتقد الظواهري شخصيًا في أمور كثيرة وصلت لحد التزوير والتزييف لكتابه «الجامع» عام 1993.
على النسق نفسه (صناعة الرمز وهالته)، حاول منظرو «داعش» تسويق «أبو بكر البغدادي»، عامي 2014 و2015، على أنه عالم وفقيه، ويحمل درجة العالمية أو الدكتوراه في الفقه، رغم أنه حصل عليها في مجال آخر غير الفقه واستنباط الأحكام. ذلك أنه حسب بيانات الجامعة المستنصرية في العراق، حصل «أبو بكر البغدادي» (اسمه الحقيقي إبراهيم عواد البدري السامرائي) على درجة الدكتوراه عن أطروحة بعنوان «اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة الشاطبية بتصنيف الشيخ العالم العلامة أبي عبد الله جمال الدين» من كلية اللغة العربية بالجامعة المستنصرية في العراق عام 2007. وكان قد تخرج في جامعة صدام للعلوم الإسلامية عام 1999، لكن أكبر شرعيي «داعش» السابق تركي البنعلي - الذي أقصي في يونيو (حزيران) الماضي - في ترجمته لخليفته أراد أن يجعل دكتوراه البغدادي في الفقه حتى يروّج لنا جواز الفتيا والحكم له، وليست في العلوم القرآنية، وهو صاحب أول كتاب في الدعوة لبيعته، وهي رسالته «مد الأيادي لبيعة البغدادي» التي صدرت قبل إعلان الخلافة نفسها في 29 يونيو 2014.
ولقد كرّر البنعلي مثل هذا التهويل والتدليس في ترجمة الدواعش للراحل «أبو محمد العدناني»، المقتول في أغسطس (آب) 2016، حين وصفه بالعلم الشرعي والفقه والموسوعية، وأنه درس حتى على «أبو بكر البغدادي» نفسه! لكن دون علامة واحدة تبعث لك من كلامهم يقينًا يفسد الثابت من أن الرجل لم يتلق أي تعليم شرعي أو غير شرعي في مكان، حيث لم يكمل تعليمه ابتداء.
* خطباء لا يتحملون العلماء
ضجت هذه الجماعات دائمًا بعلماء ومفكرين انضموا لها في البداية، ثم غادروها بلا رجعة أو بنقد ظاهر أو مبطن، كون التنظيم لا يعادي التجديد والتفكير العلمي والتأصيل الشرعي فحسب، ولكنه يقوم بالأساس على مبدأ «السمع والطاعة»، والاعتقاد في «كاريزمية» الأمير والإمام المرشد للجماعة والمجتمع. ويتحد الكل في واحد والكثرة في الفرد استبدادًا لا صوت يعلو فيه على صوت الصراع والهدف.
ونذكر في سياق جماعة الإخوان من هؤلاء المنشقين المبكرين الشيخ الراحل المعروف طنطاوي جوهري والشيخ البهي الخولي ومحمد الغزالي والسيد سابق والباقوري وعبد الحليم أبو شقة وغيرهم. كما نذكر في سياقات جماعات ما يسمى بـ«الجهاد القطري والمعولم» الاسم الأكبر بينها، عبد القادر بن عبد العزيز، الذي انتهى به الحال للعزلة والنقد لها والاعتراض على أمرائها صمتًا وكمدًا، وهو أول من وضع أدبيات لتنظيمات التطرف العنيف القطري والمعولم، وآخر من وضع مؤلفات ذات اعتبار وجهد يمكن رصده في هذا الاتجاه.
وإن نُسب آخرون، شأن الشيخ الدكتور عمر عبد الرحمن، للعلم والأزهر، فإنه اشتهر خطيبًا، وكانت كتيباته خطبًا كتلك التي كانت تفرغ من شرائط الكاسيت وخطب الجمعة لعدد من الخطباء المشهورين، بما فيها شهادته المشهورة في مقتل الرئيس السادات التي عرفت بـ«كلمة حق». وقبلها كانت رسالة «الفريضة الغائبة» للمهندس عبد السلام فرج الذي كانت هامشًا شارحًا مغلوطًا لنص مصحف وفتوى مقتبسة خطأ لفتوى التتار المعروفة لابن تيمية، ليس غير.
وفي سبيل تجاوز أزمة غياب الرمز المنتمي، وسلب شرعية الآخر غير المنتمي، توظف حركات وجماعات التطرف آليتين رئيستين:
الأولى، حصر مريديها في شيوخها: من نماذج هذه الدعوة للحصر كان كتاب الظواهري «الحصاد المر للإخوان المسلمين»، في طبعته الأولى. وكذلك كتاب «التبرئة» الذي كان أكثر وضوحًا وحسمًا في حصر مرجعيات «الجهاد» في شيوخه الموجودين بميدانه والمنتمين لتنظيماته، دون البعيدين عنه من أصحاب المراجعات أو غير أصحاب المراجعات في السجون أو غيرها، حصرًا للرفد الفكري والمعنوي فيه وفيمن يتبعه فقط. واتساقًا مع هذه الدعوة للحصر والتشويه للآخرين، كتاب المدعو الراحل «أبو بكر ناجي» بعنوان «الخونة»... وهو نفسه صاحب كتاب «إدارة التوحش» الذي يصف كل مخالفيه من الإسلاميين ومن غير التنظيمات بالخيانة، والذي يقول في مقدمته مبررًا مدخل الخيانة والتخوين الذي استخدمه «الخيانة ظاهرة كونية موجودة في كل التجمعات البشرية، حتى الفئة المؤمنة المجاهدة على مر العصور وُجِدَ بها دائمًا فريقٌ من الخونة يضمحل أثرهم كلما كانت هذه الفئة على بينةٍ من أمرها، متيقظة متوكلة على ربها، آخذة بالأسباب المشروعة لمواجهة هؤلاء الخونة، فهم من أقدار ولوازم الطريق إلى الله». ثم يضيف عن الخيانة داخل هذه الجماعات «إن مواجهة المجموعات الصغيرة وأفراد الخونة داخل الفئة المجاهدة بما يناسب الوضع والحال، فيجب كذلك مواجهة التجمعات الكبيرة داخل إطار الأمة، فإن خطرها لا يقل عن خطر الأفراد داخل الفئة المؤمنة، لا سيما إذا كانت تجمعات الخونة محسوبةً هذه المرة على رافدٍ نظيفِ الفكرِ في الأمة، وهو: الرافد السني، بل الحركة الإسلامية داخل الجانب السني من الأمة، فالخطر هنا متضاعف». هكذا، كانت الخيانة عنوان كل من يختلف مع صاحب «إدارة التوحش».
الثانية، تخوين وترهيب المختلفين معها: أما الآلية الثانية، فهي نزع الشرعية وتشويه العلماء المخالفين، وباستثناء الراحل حمود العقلاء الشعيبي الذي أيد تفجيرات «الحادي عشر من سبتمبر» في أميركا، لم يثن زعيم «القاعدة» ومؤسسها الراحل أسامة بن لادن على أي من علماء السعودية المعاصرين له.
ولقد وقفت «القاعدة» وحركات التطرف العنيف عشرات الكتب على نقد خصومها من العلماء الكبار والمفكرين المعترضين على نهجها، إذ كتب «أبو محمد المقدسي» في عقد التسعينات من القرن الماضي رسالة انتقد فيها مرجعيات دينية معروفة، ووصف «أبو قتادة الفلسطيني» أمثال الشيخ الألباني بـ«مرجئة العصر» في رسالة له تحمل هذا العنوان، وغير هذا كثير من السباب والشتائم التي نزلت بشيوخ «القاعدة» من «أبنائهم» في «داعش» فيما بعد، إذ وصفوهم بـ«أبناء إيران»، ورموهم بـ«الردة» والكذب، وغيرها من أوصاف سبق أن وصفوا بها المؤسسات الدينية ورجالات العلم الشرعي في السابق... استخفافًا واستهزاءً.
إنها آيديولوجيا زائفة شأن كل آيديولوجيا في كل علم تصنع وعيًا زائفًا به لكنها ليست هو، وإن التمست لغته وقاموسه أحيانًا.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.