برغسون: على العقل الإنساني أن ينتقل من الغلو في الغرور إلى الغلو في التواضع

جمع في فلسفته خليط المتغيرات التي أفرزتها الثورة العلمية في زمانه

برغسون: على العقل الإنساني أن ينتقل من الغلو في الغرور إلى الغلو في التواضع
TT

برغسون: على العقل الإنساني أن ينتقل من الغلو في الغرور إلى الغلو في التواضع

برغسون: على العقل الإنساني أن ينتقل من الغلو في الغرور إلى الغلو في التواضع

حينما نسمع اسم الفيلسوف «هنري برغسون»، نتذكر رجلا جند حياته ليكون ضد «النزعة المادية»، واستحواذ العلوم الفيزيائية ذات التوجه الميكانيكي، منذ القرن السابع عشر، على تصورات الإنسان الحديث. ونتذكر في الوقت نفسه، اشتغاله على إعادة الاعتبار للجوانب الروحية المفقودة، وإعلانه خيار «الحدس» باعتباره المعبر الحقيقي عن دفق الحياة وسيلانها، حيث جعل منه البديل عن التحليل والتفكيك العلمي المشوه للظواهر. فلنلق إذن نظرة على فلسفة هنري برغسون التي جمعت في داخلها كل خليط المتغيرات التي أفرزتها الثورة العلمية في زمانه.
كان برغسون، في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين، فيلسوف فرنسا «الرسمي» والمعبر عن هويتها وأصالتها. ولد في باريس عام 1859، وسيقضي نحبه فيها أيضا سنة 1941، درس بالمدرسة العليا للأساتذة، وحصل على شهادة التبريز في الفلسفة، ثم على الدكتوراه عام 1889، فعمل أستاذا للثانوي، لينصب أستاذا بـ«الكوليج دو فرانس». ثم جرى تعيينه، بعد ذلك، عضوا في الأكاديمية الفرنسية. كما حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1928، له الكثير من الكتب المترجمة إلى العربية، نذكر منها: «بحث في المعطيات المباشرة للوعي»، و«التطور الخلاق»، و«الطاقة الروحية»، و«منبعا الأخلاق والدين». تميز أسلوبه بالشاعرية والبلاغة الأخاذة، حيث كان يسعى، دائما، إلى نقل أفكاره إلى القارئ بأقل تكلفة، مبعدا إياه، ما أمكن، عن المفاهيم المجردة والجامدة. وهو ما يتماشى مع أطروحته العامة القائلة بـ«الديمومة» ودفق الحياة.
* عجز العقل عن إدراك الحياة ككل
في كتاب هنري برغسون: «l' évolution créatrice «الذي ترجمه جميل صليبا (انظر الطبعة المشتركة من طرف مجموعة الروائع الإنسانية ببيروت - واليونيسكو بباريس سنة 1981)، واختار له عنوان «التطور المبدع»، نجد فكرة أساسية هي مدار الكتاب، مفادها أن العقل قد أعد من أجل ضمان اندماجنا مع بيئتنا تماما. بعبارة أخرى، يؤكد برغسون عبر كتابه، ولمرات كثيرة، أن عقلنا هو نتاج الاحتكاك بالمادة الصلبة، وهو لا ينتصر إلا معها، ولا يقدر أبدا على إدراك الحياة ككل. فهو أمر لم يتدرب عليه منذ نشوئه الأول. فالعقل لن يكون في وطنه الحقيقي، إلا مع المواد الجامدة. فهي أول من تفاعل وتكيف معها، منذ ظهور الإنسان في العصور البدائية. فمعها تشكلت الأطر والمقولات العقلية الأساسية التي نشتغل بها كإرث إلى حد الساعة. فمنطقنا ومفاهيمنا، هي، في الأصل، منطق ومفاهيم الأشياء الصلبة. فتعاملنا منذ وجودنا الأول، مع أدوات العمل واحتكاكنا بها، هو من حدد لنا ملامح وشكل عقلنا. لهذا فالعقل يحقق نتائج مبهرة في مجال المادة، لكنه يعجز عن إعطاء تصور واضح عن طبيعة الحياة الحقيقية. وكيف يمكنه ذلك وهو، بحسب برغسون، مجرد جزء منها وفيض تابع لها؟ فهو ليس سوى مظهر من مظاهرها.
يشبه برغسون العقل بحصاة حملتها موجة البحر، فإذا كان لا يمكن للحصاة أن ترسم ملامح الموجة، فبالمثل لا يمكن للعقل أن يرسم ملامح الحياة. فهو ليس إلا راسبا من الرواسب التي خلفتها حركة التطور خلال سيرها في طريقها. لهذا فهو غير مؤهل لإدراك تيار الحياة الذي أنجب العقل. فهو قاصر عن ذلك. ومن يقول العكس، كمن يقول بأن الجزء يساوي الكل.
يؤكد برغسون على أننا لسنا عقولا محضة في هذه الحياة، بل نحن عقول يحيط بها سديم غامض. فالحياة وهي تتطور، أنتجت لنا شعلة مضيئة هي العقل. لكن هذا العقل ملفوف بقوى غامضة لا يستطيع أن يكشفها بأدواته، لأنه، ببساطة، قد تشكل بإطارات صالحة للتعامل مع المواد الصلبة، وليس للتعبير عن مجمل الحياة، وإعطاء صورة واضحة عنها في كل ما فيها من تدفق وسيلان وديمومة. الأمر الذي دفع برغسون إلى الدعوة إلى ضرورة عدم الفصل، بين نظرية المعرفة ونظرية الحياة. فهما معا وبتضافر، يمكنهما إعطاء الصورة الكاملة للحياة.
إن العقل لا يصل بحسب برغسون، سوى إلى مظاهر الأشياء وسطحه، ولن يصل إلى عمقها أبدا. فهو حينما يشتغل في عالم المادة، يصول ويجول، ويشعر بالثقة الهائلة، بل يحقق نتائج مذهلة. لكن حينما يجرؤ على الذهاب أبعد من ذلك، ساعيا إلى استيعاب الحياة الباطنية، يتكدر صفوه ويفقد ثقته في ذاته، ويدخل في جو من عدم الراحة. لكن إذا كان العقل لا يقدر إلا على اقتحام العالم السطحي من الحياة، أي عالم الفينومين بتعبير كانط، وغير قادر على الغوص في عالم الباطن (النومين بتعبير كانط أيضا)، فهل يعني أن علينا التوقف عن فهم طبيعة الحياة، والاكتفاء بالنظرة الميكانيكية فقط، ونقلع عن العالم الباطني؟ يجيب برغسون، بأن الحياة لم تخلق عقولا هندسية فقط، بل طورت أيضا، دروبا شعورية أخرى. فماذا لو قربنا الشعور ومزجناه بالعقل؟ ألن نحصل على نظرة شاملة ولو سريعة الزوال؟ هنا تبدو لنا بوضوح، النزعة «الصوفية» عند فيلسوفنا برغسون.
إن العقل لا يدرك إلا الأشياء التي تدر عليه منفعة. لهذا فهو يشتغل بتحليل وتفكيك الظواهر للتحكم فيها. وهذا نابع من أصله المادي. إنه يقطع الأشياء إلى أجزاء لاستيعابها. لكن يقع في الزيف، حين يحاول أن يطبق المنهج نفسه على الحياة، التي تتسم بالديمومة والحركية والتتابع والاتصال، إذ لا يحصل سوى على صورة مشوهة ومزيفة. لهذا وجب، بحسب برغسون، اللجوء إلى الحدس، باعتباره تعاطفا واتصالا مباشرا بالعالم من دون تفتيت.
كان برغسون مؤمنا بالعلم. لكنه لم يكن يريد السقوط في عيوبه، وهي قتل الحياة وجعلها صماء عن طريق تقسيمه، وجعل اتصاله منفصلا. فقدر العلم هو تزييف الحقيقة، وعدم البلوغ إلى عمقها، الذي ما هو إلا تيار متدفق. فالعالم متصل الحلقات وليس مجزأ. فالتجزئة عمل صناعي، يقوم به العقل قصد السيطرة على الطبيعة السطحية. لكن لا ولن يصل، بحسب برغسون، إلى كنه العالم ومعناه.
إن العقل وهو يقوم بعمله يوظف عنده اللغة بوصفها أداته الرئيسة. لهذا فهي مثله عاجزة عن التعبير عن باطن الأشياء بأمانة كاملة. فمثلا، إذا أخذنا العالم الداخلي للإنسان، فإننا نجده يتميز بالحركية الدائبة، والسيلان غير المنقطع، والهيجان المستمر، والدينامية المتصلة. وعندما تأتي اللغة قصد إدراك هذا العالم، فإنها تشوهه وتفقده كل حركيته، لتجعل منه شيئا ساكنا وجامدا. فعندما أحاول مثلا، التعبير عن مكنوناتي، فسأكون مضطرا إلى فصلها بمنهج تحليلي، لأقول: أحاسيسي، أفكاري، عواطفي، نوازعي، انفعالاتي، أنا أحب أو أكره، أو أنا فرح أو أحزن. لكن الأصل، هو أن عالمي الداخلي وحدة كلية. فاللغة الخادمة للعقل، تجعل حياتي الباطنية، طبعا، مجرد لقطات خاطفة، على الرغم من أنها ليست كذلك في الحقيقة.
والأمر نفسه يقال عن الزمان. فاللغة تقتل تدفقه وتجمده، وتعزل عناصره عن بعضها البعض. فالماضي والحاضر والمستقبل هي، في الحقيقة، مكونات غير معزولة، وتتحرك بترابط واندماج شامل. إنها تيار دافق وجارف. لكن اللغة تحللها إلى أجزاء، وهو ما لا يعبر، طبعا، عن الحقيقة. لهذا نجد برغسون يقول: «الديمومة هي تقدم مستمر لماض يقضم المستقبل، ويتضخم بتقدمه إلى الأمام». بعبارة أخرى، لا وجود للحظة الراهنة إلا وهي منغمسة في الماضي. فالحاضر تدوس عليه ذكريات الماضي كجبل جليدي يتضخم، فيجعل اللحظة الموالية مختلفة تماما. وهو ما يفسر لنا إلحاح برغسون على فكرة تعذر الشعور بالحالة نفسها مرتين. فالماضي ليس ذكريات في درج معين، أو شيئا ندونه في سجل. طبعا لا. إنه تراكم تلقائي يشتغل بطريقة آلية، ويلاحقنا في كل لحظة، وينضم إلى الوعي الحاضر، ويزدحم عند بابه بكل ثقله، منجذبا إلى المستقبل الذي يقرض منه ويحتل حيزا على الدوام.
إن الحياة ليست ساكنة ومتجمدة ومنفصلة. بل هي متدفقة ومتحركة ومتصلة. أما حينما نقوم بفصل الحالات عن بعضها البعض، باستخدام العقل وأداته اللغة، فإننا وإن ربحنا الحقيقة السطحية، فنحن نخسر الحقيقة الباطنية.
نخلص إلى أن طموح الفيلسوف هنري برغسون، كان إعادة الاعتبار إلى الجوانب الروحية المغيبة، جراء انتشار النزعة الميكانيكية في العلم، وإبراز قصور العلم بنظرته التحليلية للعالم، وعدم قدرته على الوصول إلى حقيقة ديمومة الحياة، معلنا أن العقل الإنساني وجب أن ينتقل من الغلو في الغرور إلى الغلو في التواضع. وذلك لن يتأتى إلا إذا عمل جنبا إلى جنب مع الطاقات الروحية الخبيئة التي طريقها هو الحدس.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.