مبدأ الذاتية.. من الحداثة إلى التواصل

عُدّ مؤسس الأزمنة الحديثة الذي فُسر تفوق العالم على أساسه

مبدأ الذاتية.. من الحداثة إلى التواصل
TT

مبدأ الذاتية.. من الحداثة إلى التواصل

مبدأ الذاتية.. من الحداثة إلى التواصل

اعتبر مبدأ الذاتية، مؤسس الأزمنة الحديثة، وعلى أساسه، فسر تفوق العالم الحديث، باعتباره أيضًا، عالم الهشاشة والضعف. ويتجلى ذلك في الأزمات التي تعرض لها العالم ولا يزال يتعرض. لذلك وجدنا بلاندييه يقول: «إن الحداثة تقلق وتغري»، ولهذا السبب، جعل هيغل من تحديد مفهوم الحداثة، نقدًا لها ومنذ النشأة.

إن ما يميز الأزمنة الحديثة، هو الارتداد إلى الذات أو الذاتية، ويتضمن هذا، في نظر هابرماس، أربعة مدلولات، وهي كالتالي:
1 - الفردانية: في العالم المعاصر، يحق للفردانية المسرفة في خصوصيتها، أن تبرز طموحاتها.
2 - الحق في الانتقاد: يتطلب مبدأ العالم الحديث، أن يبدو ما يتوجب على كل فرد تقبله، في نظره هو، شيئًا له ما يبرره.
3 - استقلالية الفعل: يعود للأزمنة الحديثة الفضل في إرادتنا أن نكون مسؤولين عما نفعل.
4 - وأخيرًا الفلسفة المثالية ذاتها: يرى هيغل أن من منجزات الأزمنة الحديثة، أن تدرك الفلسفة الحديثة الفكرة التي تعي ذاتها.
لقد فرضت الذاتية في نظر هابرماس، الأحداث التاريخية الكبرى. فقد عملت على إماطة اللثام عن كل الأشكال السحرية والأسطورية التي كانت الطبيعة تتخذها في القرون الوسطى، بحيث بلورت الثقافة في كل أشكالها، وخلصتها من الشوائب القروسطية، واتجهت إلى اختزال الطبيعة في مجموعة قوانين ومعادلات رياضية. أما فيما يخص المفاهيم الأخلاقية، فقد عملت على التركيز على حرية الفرد واستقلاليته ومسؤوليته في اتخاذ قراراته. وجرى ذلك في إطار قانوني ينظم علاقته بالآخرين، أي توافق استقلالية الإرادة الذاتية مع القوانين العامة. وأخيرًا، نجد الفن الحديث، يكشف عن جوهره في الرومانسية على مستوى الشكل والمضمون، اللذين يتحددان بالاستبطان المطلق.
أمام هذا الواقع الثقافي ذي البعد الفلسفي، استطاع هابرماس أن يغير بنيته، «بالانتقال من النشاط الإنتاجي إلى النشاط التواصلي، إذ حصلت إعادة صياغة مفهوم العالم المعيش اعتمادًا على نظرية التواصل»، على اعتبار أن هابرماس، قام بتركيب جديد لنظرية الحداثة، استنادًا إلى نظرية للتواصل. فنظرية «النشاط التواصلي تقيم بالفعل، علاقة داخلية بين الممارسة الإبداعية والعقلنة، وتدرس المضمرات العقلانية التي تفترضها الممارسة التواصلية، وتسعف المضمون المعياري الملازم للنشاط الموجه نحو التفاهم، ليتوصل إلى مفهوم العقلانية التواصلية»، التي تذهب بعيدًا عن التناول النقدي الجمالي للحداثة، ويعتبر الانخراط الوجودي فيها، موحدًا ومسجونًا وموضوعًا تحت تصرف التقنية بشكل كلياني خاضع للسلطة. وبناء على ذلك، تستمد مضامين الحداثة من عقل مجسد في العملية التواصلية للممارسة الاجتماعية، التي تنطلق من مقولة النشاط التواصلي في علاقتها بمكونات العالم المعيش المحدد في نظر هابرماس: في الثقافة، والمجتمع، والشخص البشري. ويعتبر «الثقافة، تلك المعرفة المهيأة والجاهزة التي تستمد منها الذوات الفاعلة في النشاط التواصلي، التأويلات ذات الطابع الإجمالي فرضيًا، وذلك بالبحث عن التفاهم حول شيء معين موجود في العالم والمجتمع. تلك الأنظمة المشروعة التي تستمد منها ذوات النشاط التواصلي، التضامن المؤسس على الانتماءات الجماعية المنتجة للعلاقات بين الناس. في حين أن الشخصية، وهو هنا لفظ تقني، يعني الإمكانات التي بفضلها تكتسبُ ذاتٌ ما قدراتها على الكلام والفعل، وبالتالي على المشاركة في عمليات التفاهم بين الذوات داخل سياق يختلف في كل مرة». لذلك، فإنه في الوقت الذي يتعقلن فيه العالم المعيش، فإن الذوات الفاعلة في النشاط التواصلي مضطرة لبذل جهود إضافية لضمان الاتفاق والتفاهم. وإذا تأملنا عن كثب، الشروط الضرورية التي ينبغي أن تتوافر من أجل أن نتفاهم، فيما بيننا، على شيء من الأشياء، فإننا «نكتشف وجود مسلمات ضمنية عملية محتومة، ذات مضمون معياري ضابط». هذا يعني أنه قبل أن ندخل في أي نوع من أنواع المناقشة أو المحاججة، بما فيها الكلام اليومي العادي الحالي بين طرفين، فإننا نفترض مسبقًا، وباتفاق الطرفين، أننا مسؤولون. أي أن أفراد العالم المعيش، ينطلقون من تقاليد ثقافية مشتركة، مصاغة في نسيج الأفعال التواصلية، التي تنجز اعتمادًا على التأويل المشكل من طرفهم، والمبني على أخلاق تواصلية، للاتفاق على الحقيقة المبرهن عليها داخل تنظيم مؤسسي للمناقشة العمومية. لذلك، فهابرماس، «يرفض كل إجماع معطى سلفًا، أو مؤسسًا على سلطة تحيل دومًا إلى التراث، ويفترض تدخلات برهانية عقلانية، في سياق تواصلي ينبذ المسبقات، ويشجع على إبراز تشكيلات خطابية للإرادة». إن وسيلة اللغة وغاية الفهم، مرتبطتان، داخليًا، ولا يمكننا أن نفصلهما عن بعضهما، كما نفصل، عادة، بين الوسائل والغايات. ولا يمكننا أن نفسر ما هي اللغة من دون اللجوء إلى فكرة الفهم والإدراك.
وعمومًا، إذا كانت الحداثة في جوهرها، تعني الابتعاد عن التقليد وإعادة إنتاج الماضي، وتتضمن في عملياتها وحركاتها، الأزمة وإمكانات تخطيها في الآن نفسه، فإن مشروع هابرماس الفلسفي، ارتبط، منذ عصر الأنوار إلى الآن، بالتنظيم المؤسسي للمجتمع، المرتبط بتوجهات الدولة السياسية، في عمليات التنظيم والعقلنة والتحديث، وما تطرحه من قضايا فكرية واجتماعية على العالم المعيش وعلى مستوى مختلف القيم، تستدعي النقد وإعادة النقد. وهذا ما يجعلها في نظر هابرماس، مشروعًا غير مكتمل، يحتاج إلى عقل تواصلي لممارسة هذا النقد. وبالتالي، تجاوز النزعات التي تريد أن تنفيها. لذلك يُطرح علينا سؤال أخير: ماذا نعني بنظرية التواصل عند هابرماس؟
التواصل في نظر هابرماس، هو علاقة حوارية بين فئات المجتمع المتعددة والمتباينة آيديولوجيًا وطبقيًا، وذلك عن طريق استخدام القوة المفرضة عقلانيًا، هذه القوة المتضمنة بالضرورة في أفعال النطق اللغوية. يضاف إلى ذلك، أن الفعل التواصلي، لا يمكن أن نستبدل به ممارسات من نوع آخر، أيًا كان السياق والظروف. فعملية التفاهم اللغوي، لا يمكن أن تحل محلها كيفما شئنا، آليات أخرى لتنسيق الأعمال. ولتوضيح هذا الكلام، يقول هابرماس: «إذا ما أردنا أن نربي أطفالنا أو نعلم طلابنا أو نحاول إنعاش الروابط الاجتماعية بطريقة مشتركة، فإننا لا نستطيع أن نرفض الدخول في هذه الممارسة ذاتها (أي الممارسة التواصلية اللغوية). وهذا يدل على أنه خلال الفعل التواصلي، ومن خلاله وحده، تجري عملية الانصهار الاجتماعي، وانتقال الإرث الثقافي من جيل إلى جيل، ودمج الفرد في المجتمع أو جعله حيوانًا اجتماعيًا».
والواقع في نظر هابرماس، أن الفعل التواصلي لا يمكن أن يتحرك كما يحلو له هكذا في الفراغ، وإنما هو بحاجة إلى عالم معيش يقدم له الخلفية والقاعدة الارتكازية. إذ لو كانت هذه المسلمات الضمنية المشتركة، محدودة كليًا، لما التقينا في العالم المعيش إلا بالأفعال الاستراتيجية لا التواصلية. لكنه يلاحظ في المجتمعات الحديثة، وجود كثير من العوالم المعيشة المختلفة، وكل وجود فردي هو بحد ذاته عالم ومشروع فريد من نوعه. فالنزعة الفردية والنزعة الشمولية، وجهان لعملة واحدة منذ هيغل. فلا يمكن وجود فردانية من دون شمولية معيارية ضابطة. لذلك، فإن مفهوم التفاهم، يحيل عند هابرماس إلى اتفاق مبرر عقليًا، تتوصل إليه مجموعة من المشاركين في التفاعل، المبني على ادعاءات الصلاحية القابلة للنقد والمشاركة، اعتمادًا على معايير أخلاقية، يسميها هابرماس «أخلاقيات التواصل»، أي أن للتواصل معايير أخلاقية تنظم الأفكار والادعاءات، من خلال المناقشة، عن طريق تقديم مجموعة من البراهين والحجج المرتبطة منهجيًا. يقول هابرماس إن «قوة برهان ما تقاس، داخل سياق معين، بصحة الحجج. وهذه الصحة تظهر من بين ما تظهر فيه، في قدرة تعبير معين على إقناع المشاركين في المناقشة، وعلى تبرير قبول ادعاء ما للصلاحية».
إن الحداثة الغربية، على الرغم من نزوعها المعلن نحو الكونية، وجعلها العالم عبارة عن «قرية» صغيرة تتفاعل فيها كل الثقافات والحضارات والأجناس واللغات، فإنها اصطدمت بأشكال حضارية وثقافية لدى شعوب لم تستسغ الحداثة بعد. هذا التفاعل أو التنابذ بين المرجعيات الإنسانية، جعل التفكير في التواصل، هو أصلاً تفكيرا في الحداثة، باعتباره تتويجًا للعقلانية. وهذه الأخيرة، تقتضي عمليات تحديث العقلنة وعقلنة التحديث، وإلى وضع شروط مجتمع ممكن «ما دام التفكير في التواصل، في شكله البرهاني، هو في العمق، تفكير فيما هو مجتمعي». وبالتالي تجاوز هابرماس النقد الجذري للعقل الذي دشنه نيتشه وهايدغر والفلاسفة الفرنسيون.
وعمومًا، فإن فلسفة هابرماس، تسهم في تغيير منطلقات الفكر الفلسفي، وأسلوب النظر إلى اللغة، والزمن، والمجتمع، والانتقال من التفكير الموجه نحو الغاية، الذي تؤطره العقلانية الأداتية، إلى التفكير الموجه نحو التفاهم، الذي تحدده العقلانية التواصلية. لذلك فإن الاتفاق اللغوي التواصلي، يتعين أن يحل محل السلطة المسنودة من طرف التصورات التقليدية نتيجة المناقشة المستمرة، التي تعبر عن التحرر والنضج والاستقلال، بحيث تبعد النظرية التواصلية العقلانية عند هابرماس، من كل يوتوبيا، وتجعلها أكثر ارتباطًا بالواقع.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!