في خطوة مفاجئة، وغير مفاجئة في آن واحد، أعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أمس أنه سيتخذ في اليوم الأول من ولايته الرئاسية قرارا بانسحاب بلاده من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادي»، وهو أحد الإجراءات الستة التي أعلن عنها في إطار اعتماد برنامج «أميركا أولا».
إعلان ترامب لا يبدو مفاجئا لمتابعيه خلال حملته الانتخابية، حيث اتسمت تلك الحملة بعدائية شديدة مع حركة التجارة الحرة، مستندا في رأيه إلى أن أميركا هي المتضرر الأكبر من حرية التجارة مع الدول الأخرى على غرار الصين بل وبعض الدول الأوروبية أيضا.
لكن تلك الخطوة كانت مفاجئة للمراقبين الذين كانوا يراهنون على تغير مواقف ترامب منذ لحظة إعلانه فائزا بالانتخابات، كون المعارك الانتخابية ربما تفرض حماسا بالغا يفضي إلى وعود لا تهدف إلا إلى تصفيق الجماهير وإلهاب حماسهم للتصويت له، لكنها لا تصلح كخطط اقتصادية لرئيس أكبر اقتصاد في العالم.
وتعد «الشراكة عبر المحيط الهادي» أكبر اتفاق تجاري إقليمي في العالم، والتي أقرت العام الماضي لكنها لم تدخل بعد حيز التنفيذ، وذلك في انتظار التصديق عليها من الكونغرس الأميركي، الذي أصبح في حوزة سيطرة الجناح الجمهوري، الذي يرفض بغالبيته الاتفاقية.. لكن كان هناك أمل في أن يمررها ترامب إذا تراجع عن وعوده الانتخابية.
وتضم الاتفاقية 12 دولة، هي بترتيب الأسماء الإنجليزية أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك وبيرو ونيوزيلندا وسنغافورة والولايات المتحدة وفيتنام. ويبلغ عدد سكان هذه الدول مجتمعة 800 مليون نسمة، وتغطي ما يقرب من 40 في المائة من الاقتصاد العالمي، ومن المفترض أن تقضي الشراكة - حال تنفيذها - على أكثر من 98 في المائة من الرسوم الجمركية في منطقة الشراكة، وإزالة الضرائب على الواردات.
وكدلالة على أهمية هذه الشراكة، قال الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما، خلال كلمته مطلع الأسبوع الحالي أمام قمة «أيبك» (منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي)، إنه يأمل في المضي قدما في خطوات تنفيذها، داعيا خليفته إلى عدم عرقلتها، كما دعا «الشركاء» الآخرين إلى التعامل مع ترامب.
دوافع ترامب
وبحسب ترامب، فقد أوضح أمس في تسجيل فيديو قصير «الإجراءات الستة» الأساسية التي سيتخذها في أول مائة يوم له في السلطة، مؤكدا أنها تعتمد كلها على «مبدأ أساسي: أميركا أولا».
وتتعلق هذه الإجراءات «بإصلاح» الطبقة السياسية، و«إعادة بناء الطبقة الوسطى»، و«جعل أميركا أفضل للجميع». كما قال ترامب الذي سيتولى مهامه رسميا في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل، إنه سيبدأ في اليوم الأول من رئاسته، إجراءات سحب الولايات المتحدة من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادي»، وبدلا منها يريد ترامب التفاوض حول اتفاقيات «ثنائية» يرى أنها «ستعيد الوظائف والصناعة إلى الأرض الأميركية».
فوائد الاتفاق لأميركا
ومن أبرز الملامح التي تضمنتها الاتفاقية لصالح الولايات المتحدة، بالإضافة إلى إلغاء التعريفة الجمركية على كل الصادرات الأميركية إلى الدول الأعضاء، فإن توفير أسواق جديدة وحيوية في منطقة آسيا والمحيط الهادي لعمال الولايات المتحدة والأعمال التجارية والمزارعين ومربي الماشية، من شأنه أن يزيد من معدل التوظيف، في حين سيتم إلغاء الضرائب على الواردات بنحو 59 في المائة في الولايات المتحدة.
وصدرت الولايات المتحدة إلى بلدان الاتفاقية بنحو 56 مليار دولار من منتجات الماكينات في 2014. كما ستلغي الاتفاقية الضرائب على الصادرات الأميركية من السيارات ومنتجاتها بنحو 70 في المائة، حيث صدرت الولايات المتحدة منتجات سيارات بنحو 89 مليار دولار في 2014، فعلى سبيل المثال تواجه محركات السيارات المصنعة في ميتشغان ضرائب تقدر بنحو 55 في المائة، وبفضل الاتفاقية ستتقلص إلى «صفر».
وستلغي الضرائب على منتجات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الأميركية والتي كانت تصل إلى 35 في المائة، وصدرت الولايات المتحدة ما قيمته 36 مليار دولار إلى بلدان الاتفاقية في 2014، والتي تشمل على سبيل المثال الهواتف الذكية والمعدات وأجهزة التوجيه وأجهزة الكومبيوتر.
كما ستلغي الاتفاقية على ضرائب صادرات أميركا من المحاصيل الزراعية والتي كانت تبلغ أكثر من 50 في المائة، أما الألبان فاليابان على سبيل المثال لديها تعريفة جمركية على مصنعات الألبان الأميركية كالجبن وخلافه بنحو 40 في المائة وصدرت الولايات المتحدة بما قيمته 3.6 مليار دولار من الألبان ومشتقاتها لدول الاتفاقية الـ11 في 2014.
فوائد «الشركاء»
ومن أبرز ملامح الاتفاقية لصالح الدول الأخرى، أنه للمرة الأولى منذ 20 عاما منحت اليابان إعفاءات جمركية على السكر، كما ألغت كندا التعريفية الجمركية، إضافة إلى التخلص من الرسوم الجمركية على القمح والشعير في المكسيك وكندا. وكذلك القضاء على التعريفات الجمركية على المشتقات النفطية، مثل البيوتينات والبروبان والغاز الطبيعي المسال في فيتنام، والإلغاء الفوري للتعريفة الجمركية على الحديد والنحاس والنيكل في بيرو. بالإضافة إلى إلغاء التعريفية الجمركية على الأدوية والآلات والأجهزة الميكانيكية والكهربائية وقطع غيار السيارات في المكسيك، وفيتنام.
ما مصدر قوة الاتفاقية؟
وبصرف النظر عن سهولة الوصول إلى السوق المشتركة بين دول الاتفاقية، فإن الشراكة عبر المحيط الهادي، تخلق مجموعة واحدة من قواعد التجارة والاستثمار بين أعضائها، مما يجعلها أسهل وأبسط الشركات التجارية في العالم. وتلغي الاتفاقية الرسوم الجمركية على 18 ألف منتج، بما في ذلك لحوم البقر ومنتجات الألبان والحبوب والسكر والبستنة والمأكولات البحرية والمواد الأولية للصناعة وغيرها، كما تتناول الاتفاقية قضايا التجارة والاستثمار الحديثة مثل المنافسة والتجارة الإلكترونية ومكافحة الفساد والمساواة بين قطاع الأعمال الخاص والشركات المملوكة للدولة.
آثار طويلة المدى
ومع انسحاب ترامب من الاتفاقية، قدم الرئيس المنتخب انعكاسات كبيرة على المدى الطويل لاستراتيجية الولايات المتحدة الموصوفة بـ«القوة الناعمة»، وكان منها الانخراط في آسيا ومنطقة المحيط الهادي.
وكان كثير من قادة المنطقة وافقوا بشكل غير رسمي على هامش مؤتمر التعاون الاقتصادي لدول آسيا المحيط الهادي، بضرورة المضي قدما للتصديق على الاتفاقية بين 11 دولة المتبقية.
وأدى إعلان ترامب إلى تهديد الاتفاقية وتجدد الاهتمام في المنطقة التي تقودها الصين تجاريا، وتسعى أن تكون منطقة تجارة حرة من خلال هيكل جديد للتجارة والتكامل الاقتصادي في المنطقة.
ودون تصديق الولايات المتحدة، فإن الاتفاق يصعب أن يدخل حيز التنفيذ، فيجب أن يصدق على الاتفاقية ما لا يقل عن 6 أعضاء لتدخل الاتفاقية حيز التنفيذ أو ما يمثل 85 في المائة من حجم الكتلة الاقتصادية للمجموعة.
وبما أن الولايات المتحدة تعد أكبر اقتصاد في الكتلة، وهو ما يمثل 60 في المائة من إجمالي حجم الكتلة الاقتصادية للمجموعة، فيرى بعض الاقتصاديين إنه دون توقيع الولايات المتحدة على الاتفاقية فإنها إما ستفقد من قيمتها وإما ستنهار من الأساس.
ويرى رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي أن «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي لن يكون لها معنى من دون الولايات المتحدة»، معلقا أن الدول الـ12 الموقعة للاتفاقية التجارية لم تبحث في إمكانية خروج الأميركيين بعدما كانوا من أشد المدافعين عن هذه المعاهدة في عهد باراك أوباما. وصرح آبي بأنه «من المستحيل إعادة التفاوض حول الاتفاقية، ففي هذه الحالة سيؤدي ذلك إلى زعزعة التوازن الأساسي للمصالح».
الصين أكبر المستفيدين من انهيار الاتفاقية
وأكد أوباما مرارا أن الشراكة عبر المحيط الهادي بمثابة الإطار الذي يسمح للولايات المتحدة بكتابة قواعد التجارة في المنطقة، بدلا من ترك الصين للقيام بذلك، وقد عزز هذا التركيز على أهمية الاتفاق بين الولايات المتحدة وحلفائها ضد الصين. وانتهزت الصين الفرصة التي سنحت وقدمت على هامش مؤتمر التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي، نموذجا لاتفاقية تجارة حرة «الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة»، وهي اتفاق تجاري إقليمي يضم 19 دولة ويشمل الصين وكمبوديا والهند وإندونيسيا ولاوس وميانمار والفلبين وكوريا الجنوبية وتايلاند، فضلا عن أعضاء شراكة المحيط الهادي، أستراليا وبروناي واليابان وماليزيا ونيوزيلندا وسنغافورة وفيتنام؛ من دون الولايات المتحدة.
ويمثل مقترح الصين ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مع ما يقرب من نصف سكان العالم، الأمر الذي يجعل الاتفاقية «مغرية» خاصة مع الوصول إلى أسواق الاقتصادات الكبرى مثل اليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية وأستراليا وإندونيسيا. في حين يبدو أن مقترح الصين كقالب سياسي أسهل للتفاوض لحكومات البلدان مقارنة مع الشراكة عبر المحيط الهادي، كما سيكون من السهل المضي قدما كإطار أكثر قبولا لدمج كامل آسيا والمحيط الهادي مع قواعد التجارة المشتركة، نظرا للتنوع الاقتصادي في المنطقة والتعايش بين الاقتصادات المتقدمة ذات الدخل المرتفع (أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا)، مع البلدان متوسطة الدخل العليا والدنيا (الصين وإندونيسيا وماليزيا وتايلاند والفلبين).
ومن المتوقع أن تضغط الصين على وضع نهاية مبكرة لمقترحها، بصرف النظر من «الوصول الحر» إلى أسواق البلدان التي لم يكن لديها اتفاقيات تجارة حرة ثنائية من قبل مثل اليابان والهند، الأمر الذي سيؤدي إلى محادثات مجدية من شأنها أن تسمح بإنشاء مكانة للصين كصانع قرار في المنطقة، مما سيفعل دورها لتغطية الولايات المتحدة باعتبارها الجهة المنظمة والأكثر فاعلية من النظام الاقتصادي الإقليمي.
لكن أكبر التحديات التي ستواجهها الصين في رحلتها المقبلة، أنها لا تمتلك للنفوذ السياسي الذي تمتلكه الولايات المتحدة على دول آسيا المحيط الهادي، فلا تزال هناك صعوبات مع بعض البلدان كاليابان وفيتنام والهند، الأمر الذي يزيد صعوبة وضوح اتفاق تجاري حر قبل وجود حلول سياسية.