خيارات ترامب

يواجه تحديات صعبة بسياسات غامضة.. وألحق أميركا بمعسكر «الفوضويين والقوميين»

خيارات ترامب
TT

خيارات ترامب

خيارات ترامب

على الرغم من مرور أيام على فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، فإن «الزلزال السياسي» الذي صنعه الحدث لا يزال قويًا، وتداعياته تتفاعل داخل الولايات المتحدة وخارجها.
تعهد ترامب في خطاب الفوز بتوحيد الأميركيين ووعد بتجنب الصراعات مع العالم، ثم التقى في اليوم التالي الرئيس باراك أوباما مدشنًا المرحلة الانتقالية بكلام دبلوماسي «جديد»، لكن كل ذلك لم يمنع الأميركيين من الاستمرار في الخروج إلى الشوارع مرددين أن الرئيس المنتخب «لا يمثلني». وعلى غرار هذه المخاوف الداخلية، فإن القلق الدولي إزاء السياسات المحتمل انتهاجها من قبل ترامب لم يخمد. ويجمع كثير من المتابعين للشأن السياسي في الغرب، على أن ترامب، بفوزه بالرئاسة بعد حملة مثيرة للجدل تضمنت أفكارًا غريبة عن القيم الديمقراطية المألوفة، قد ألحق بلاده بمعسكر بلدان أوروبية أخرى تعرف أصوات «الفوضويين» و«القوميين» فيها تصاعدًا لافتًا، بما فيها بريطانيا التي صوتت العام الحالي لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي تحت تأثير الأفكار الفوضوية والقومية.
يحذر محللون من تحد أكبر يواجهه ترامب عندما يبدأ فترته الرئاسية في يناير (كانون الثاني) المقبل، هو كيفية حكم بلد مقسم إلى حد غير مسبوق بفعل الانتخابات الرئاسية. وقالت كسينيا ويكيت مديرة برنامج الولايات المتحدة والأميركتين بمعهد «تشاتهام هاوس» في لندن، إن ترامب «فاز بالرئاسة في بلد مقسم وبعملية اقتراعية مثيرة للارتياب، مما يجعل من الصعب عليه جدًا أن يحكم بفعالية». وتضيف إن ترامب «سيرث، عندما يبدأ الحكم في 20 يناير، عبئًا ثقيلاً، والتحديات المتشعبة التي ستواجهه سيكون من الصعب تجاوزها». وترى ويكيت أن ترامب سيكون «الآن مطالبًا باختيار طريقه؛ إما الحفاظ على رؤيته بعزل (خصومه) وحكم أقل من نصف المجتمع بقليل، أو محاولة ردم الهوة ويحكم الجميع».
وأمام هذا الوضع الداخلي الصعب، ربما يجد ترامب من الأنسب المضي قدمًا في الشعار الذي رفعه خلال حملته الانتخابية «أميركا تأتي أولاً»، وكان وجَّه عبره، فيما يبدو، رسالة إلى الخارج. وفي حال مضي ترامب في هذا الطريق (أميركا أولاً) فإن سياسته ستعصف بكثير من العواصم الأجنبية، بما فيها الدول الحليفة تقليديًا لواشنطن. من الصعب في الوقت الراهن، التكهن بملامح السياسة الخارجية لترامب، بالنظر لافتقاره للخبرة الكافية في هذا المجال. ولكن الرهان الأرجح الآن أنه حال توليه الرئاسة سوف يسعى للالتزام بما وعد به خلال حملته الرئاسية من التغيير الجذري في منهج الولايات المتحدة الحالي إزاء كل من روسيا، والشرق الأوسط، وأوروبا، وآسيا.
ويقول الكاتب الأميركي ديفيد إغناتيوس في هذا الصدد، إن «الصورة التي أخذها كبار المسؤولين في أكثر من 12 بلدًا تشي بأن ترامب رجل عديم الخبرة وغير موثوق فيه، وقد يندفع إلى تقويض التزامات وتحالفات الولايات المتحدة التقليدية». ويضيف إغناتيوس: «السياسة الخارجية لترامب، استنادا إلى تصريحاته المعلنة، سوف تجلب التركيز المكثف الواقعي على المصالح الوطنية الأميركية والرفض التام للتفاعلات الأميركية الخارجية المكلفة».
من خلال التصريحات التي أطلقها ترامب خلال حملته الانتخابية، يرجح خبراء كثيرون توجهه لانتهاج سياسة خارجية مختلفة عن إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما. وكل الأنظار الآن مركزة على ما سيقوم به الرئيس الأميركي إزاء الاتفاق النووي الذي أبرمه المجتمع الدولي مع إيران، علما بأن ترامب كان قد وعد في خطاب له أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية في مارس (آذار) الماضي، بأن أولويته الرئيسية ستكون «تفكيك الاتفاق الكارثي مع إيران»، إلا أن ذلك التهديد يتعارض مع تصريح آخر له قال فيه إن من الصعب تمزيق الاتفاق النووي من دون مساعدة أوروبية.
ويعتقد على نطاق واسع أن من التداعيات الكبرى لوصول ترامب إلى البيت الأبيض تغير السياسة الأميركية تجاه قضايا النزاع في منطقة الشرق الأوسط، وأهمها الآن الأزمة السورية. وكان ترامب قد ركز مرارًا على أن أولويته في هذا النزاع هو دحر تنظيم داعش، بما أوحى أن المضي في مسارات دبلوماسية وعسكرية لإنهاء الأزمة عبر مرحلة انتقالية تقود لتنحي الأسد، لن يكون من أولوياته. وتتقاطع رؤية ترامب لوضع محاربة «داعش» أولوية، مع تصريحاته بخصوص تحسين علاقات الولايات المتحدة مع روسيا، وهو أمر يلاقي قلقًا واسعًا لدى قادة أوروبا.
وإضافة إلى هذه التوجهات الجديدة، يتوقع الخبراء، بروز نزعة «انعزالية» لدى إدارة ترامب المرتقبة وربما تخليها عن التزاماتها مع حلفائها في الغرب. ويقول فابيان زوليغ من «مركز السياسة الأوروبية»، وهو معهد أبحاث في بروكسل، إن «إدارة ترامب ستعزز النزعات الانعزالية في الولايات المتحدة»، لافتًا إلى تراجع قوة واشنطن أصلا بسبب المنافسة من دول ناشئة على غرار الصين. ودليلاً على الصدمة، أدى الإعلان عن فوز ترامب، إلى سلسلة من ردود الفعل السريعة في أوروبا ضمنها تصريحات لرئيس مجلس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك الذي قال، من باب التمني فيما يبدو، إن واشنطن «ليس لديها بكل بساطة أي خيار آخر» سوى مواصلة التعاون بشكل وثيق مع أوروبا. وأضاف توسك وهو رئيس وزراء بولندي سابق: «لا أعتقد أن بإمكان أي بلد يزعم بأنه قوي البقاء معزولاً».
لكن كلام توسك لم يُخفِ وجود قلق إزاء التزامات إدارة ترامب المرتقبة بأمن أوروبا وربما حتى بالتزاماتها مع حلف شمال الأطلسي. ووسط هذا الغموض، يفضل البعض في الاتحاد الأوروبي (بينهم 22 من 28 دولة في الأطلسي) أن يرى فرصة للمضي قدما في النقاش الدائر حول أمن أوروبي أكثر استقلالية في مجال الدفاع والأمن. وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الأربعاء، إن «الولايات المتحدة لن تتولى الاهتمام بأمننا، إنها مسؤولية أوروبا. نحن بحاجة إلى اتحاد أمني». وتعد برلين إحدى العواصم التي تجري نقاشًا بهذا الصدد مع باريس وروما ومدريد. ويشارك الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في هذا الرأي بوضوح، إذ قال أمس: «من المهم جدًا أن يكون الأوروبيون، في هذه الظروف الجديدة، واضحين في الرغبة للعمل معًا» وخصوصا من أجل السيطرة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ومكافحة الإرهاب. وبدوره، قال دبلوماسي أوروبي، إن النتيجة المفاجئة للانتخابات الأميركية من شأنها أن تعمل على تطوير موقف الأكثر ترددا، في شرق أوروبا، حيال فكرة الدفاع الأوروبي.
ومن الأمور المقلقة حقًا لبعض حلفاء الولايات المتحدة في العالم ما هدد به ترامب خلال حملته الانتخابية بعدم الدفاع عن هذه الدول الحليفة بشكل تلقائي. وتبدو دول البلطيق في مقدمة هذه الدول التي ينتابها القلق في حال تعرضت لهجوم روسي على غرار الضم الروسي لمنطقة القرم (غير البعيدة عنها) قبل عامين. وكان ترامب قد قال في تصريحات لصحيفة «نيويورك تايمز» في يوليو (تموز) الماضي إنه لن يكون ملزمًا في حال وصل إلى الرئاسة بمساعدة ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا إلا إذا قدمت إسهامات مالية كافية لحلف شمال الأطلسي. وهدد ترامب أيضًا، بإغلاق كثير من القواعد العسكرية غير الضرورية، قائلاً إنه يطالب الدول التي تحتضن قواعد عسكرية أميركية أن تدفع أموالا مقابل حمايتها، مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية. كما وعد ترامب بخفض الالتزام الأميركي في حلف شمال الأطلسي، وقال إنه سيطلب من الأوروبيين مضاعفة مساهماتهم في ميزانية الأطلسي.
ويبدي ترامب، من خلال تصريحاته خلال الحملة، سياسة عدوانية تجاه الصين، فهو يعتقد أن الصين هي عدو الولايات المتحدة الأول، وتسلب منها مليارات الدولارات وليس روسيا. كما أنه يطالب الصين بوضع حد لتهور الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بحكم الروابط القوية بين بكين وبيونغ يانغ.
وتبقى رؤية ترامب لمنظمة الأمم المتحدة، في صلب المخاوف الدولية من سياسات جديدة سيقدم عليها الساكن الجديد في البيت الأبيض، ويهدد بها النظام الدولي الحالي. وكان ترامب قد وصف، خلال كلمته الشهيرة في مارس الماضي، الأمم المتحدة، بأنها هيئة ضعيفة لا تتمتع بالكفاءة، واعتبر أن هذه المنظمة «ليست صديقة للديمقراطية ولا للحرية ولا حتى للولايات المتحدة الأميركية». وهدد حينها بالانسحاب من الاتفاق الدولي لمكافحة تغير المناخ، وهو حجر زاوية في إنجازات الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بان كي مون. وعلق بان بعد فوز ترامب قائلاً، إن «الناس في كل مكان يتطلعون إلى الولايات المتحدة لاستخدام قوتها الكبيرة للإسهام في الرقي بالإنسانية والعمل من أجل الصالح العام». وقال دبلوماسي كبير في مجلس الأمن الدولي، طلب عدم نشر اسمه، إن سياسة ترامب الخارجية حتى الآن «ليست متماسكة» وإن انتصاره لا يبشر بالخير فيما يتعلق بكفاءة المجلس في المستقبل. وقال الدبلوماسي: «الافتراض هو أن (إدارة ترامب) ستكون أقل تواصلا مع الأمم المتحدة من إدارة (الرئيس باراك) أوباما والتي كانت أكثر التزاما بالعمل للتوصل لحلول جماعية من إدارات أميركية أخرى».
وتحدث عدد من دبلوماسيي الأمم المتحدة عن افتقار ترامب للوضوح بشأن سياسته الخارجية. وحذر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد بن رعد الحسين الشهر الماضي من أن العالم سيكون في خطر إذا انتُخب ترامب رئيسا. وقال المتحدث باسمه إن الأمير زيد سيواصل التحدث بصوت مرتفع بشأن أي سياسات أو ممارسات لترامب تقوض أو تنتهك حقوق الإنسان. ولخص دبلوماسي غربي، طلب عدم نشر اسمه، تأثير فوز ترامب على الأمم المتحدة بقوله: «أعتقد أن التأثير سيستمر لفترة طويلة».



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.