أمين الريحاني: رواية تحمل قلق النهضة

تعليمه في أميركا لم ينسه جذوره العربية

الريحاني على جواد أهداه إياه الملك عبد العزيز  -  امين الريحاني
الريحاني على جواد أهداه إياه الملك عبد العزيز - امين الريحاني
TT

أمين الريحاني: رواية تحمل قلق النهضة

الريحاني على جواد أهداه إياه الملك عبد العزيز  -  امين الريحاني
الريحاني على جواد أهداه إياه الملك عبد العزيز - امين الريحاني

تكاد حياة الكاتب اللبناني أمين الريحاني ومؤلفاته تنقسم إلى قسمين رئيسين: قسم يهجس فيه الكاتب-الشاعر، وقسم يتحرك فيه الرحالة-المؤرخ. تبدو آثار الريحاني الكثيرة وكأنها تنفرج في هذين الاتجاهين بوضوح لكن دون أن يبتعد أي من الاتجاهين كثيرًا عن الآخر. فالجسور قوية وواضحة أيضًا. ذلك أن الكاتب الشاعر الذي شارك في تأسيس الأدب المهجري وعاش في الغربة كان دائم الهجس بالمشرق ومشكلاته وآماله، الهجس الذي حرك رحلاته وما ترك من آثار تاريخية. وكان في نشاطه وتفكيره في الاتجاهين ذا طموحات كبيرة لإحداث تغيير في عالم واجهه بمشكلات كبرى في طليعتها ضعف أمته وهوانها تحت محتل في السياسة وتراجعها أمام مهيمن في الحضارة، فكان سعيه الدائب لكيفية المشاركة في النهوض الذي يرفع من شأن العرب ويعيد لهم مجدهم، ليتحول بذلك إلى علم كبير من أعلام النهضة العربية التي واجه في سبيل تحقيقها الكثير مما جعله غير مرة وجهًا لوجه أمام سطوة القوة سواء أكانت سياسية أم ثقافية عامة. ولم يكن الريحاني في ذلك إلا عقل آخر من عقول تقول ما يمكن قوله حينًا وتتراجع أمام ما يصعب قوله حينًا آخر متوسلة في ذلك سبلاً في التأليف والكتابة تنتظمه مع من سبقه ومن تلاه.
في مقدمته لكتابه الشهير «ملوك العرب» الذي أتمه عام 1924 ونشره في عدة أجزاء ووصف فيه رحلاته في الجزيرة العربية، يقف الريحاني عند الانشطار في تكوينه التربوي والعلمي أولاً ثم في نشاطه الفكري والإبداعي والتأريخي ثانيًا. فقد نشأ الصبي على ثقافة تخوفه من العرب بوصفهم أجلافًا يخيفون وينبغي الابتعاد عنهم:
كنت في الثانية عشرة من عمري عندما سافرت للمرة الأولى إلى الولايات المتحدة. فلم أكن أعرف غير اليسير من اللغتين العربية والفرنسية، وما كان في ذهني من العرب وأخبارهم غير ما كانت تُسمعه الأمهات في لبنان صغارهن. هس، جا البدوي! والبدوي والأعرابي واحد إذا رامت الأم «بعبعًا» تخوف به أولادها.
هجرت وطني وفي صدري الخوف ممن أتكلم لغتهم والبغض لمن في عروقي شيء من دمهم. والبغض والخوف هما تؤما الجهل.
ثم نعرف من أمين أن ضحالة ثقافته في تلك الفترة المبكرة لم تحل بينه وبين أن يُلقّن أن فرنسا هي أكبر أمم الأرض وأن في العالم بلدًا يسمى أميركا تنافس غيرها في سيادة العالم. وجاء تعليمه في أميركا تأسيسيا للشاب الذي لم يستطع تناسي جذوره العربية، فاستطاع بذكائه وازدواجية ثقافته وتطلعاته أن يرى نقاط القوة والضعف سواء في الثقافات الغربية التي تعلمها أو الثقافة العربية التي ظل متصلاً بها. وفي مقدمته اختصار لذلك كله، لما أعجب به في الغرب وما لم يعجب به. أما كتابه «ملوك العرب» الذي يلي المقدمة ففيه نقد كثير لأمته العربية يوضح في المقدمة أسبابه ولكنه لا يعتذر له وإنما يشرحه ويؤكد أنه جاء بدافع الحب ونزعة النهوض.
لقد استطاع الريحاني مع اتساع ثقافته وتكرار رحلاته، لا سيما رحلته الرائدة إلى جزيرة العرب التي قابل فيها زعماءها وأبرزهم الملك عبد العزيز، أن يتغلب على مخاوفه تجاه العرب أو الأعراب من البادية، لكنه هل استطاع أن يتغلب على مخاوفه تجاه الثقافة العربية التي غلب عليها الإسلام؟ هل استطاع وهو المسيحي اللبناني المثقف أن يحقق ما لم يحققه من سبقه من مثقفي النهضة العرب، ليس المسيحيون منهم فحسب من أمثال فرح أنطون، وإنما حتى المسلمون مثل الطهطاوي والتونسي والكواكبي؟ الإجابة الطبيعية والحتمية هي أنه لم يستطع، ولم يكن ذلك سوى لكونه مثقفًا ومبدعًا حقيقيًا. فكل المخاوف تنتج عن الإنتاج الجاد الذي يضطر صاحبه للخروج على رأي الجماعة على نحو وبمقدار ما فلا يلقى سوى التهميش. لذلك فإن السؤال الذي ينبغي طرحه ليس عن وجود المخاوف من عدمها وإنما عن كيفية تجليها وكيفية مواجهتها.
الرواية التي أصدرها الريحاني عام 1911 بعنوان «كتاب خالد» كانت أول رواية معروفة حتى الآن لكاتب عربي باللغة الإنجليزية. لكن أهميتها ليست هنا فقط وإنما أيضًا فيما حملته الرواية من مضامين أو توجهات وأفكار تتصل مباشرة بطموحات الريحاني الإبداعية والفكرية من ناحية، وبمخاوفه عند التعبير عن تلك الطموحات من ناحية أخرى. في تلك الرواية، التي بقيت في لغتها الأصلية خمسة وسبعين عامًا، أي إنها لم تترجم إلا عام 1986، نجد الكثير مما عبر عنه الريحاني في أعمال أخرى وما ترجمه عمليًا في رحلاته وما دفعه إليها وحمله منها من انطباعات حول تلك الرحلات. فخالد، الشاب العربي الذي ذهب إلى أميركا وعاش فيها مع الجالية العربية ثم عاد إلى الوطن العربي فيما بعد، يحمل الكثير من ملامح الريحاني إلى الحد الذي يجعل الرواية تتكئ على السيرة الذاتية أو تتحول إلى سيرة في جانب كبير منها. ولعل الأصوب أن نقول إنها السيناريو الذي تخيله الريحاني لنفسه وهو المهموم بوطنه ونهوضه وكيفية تحقيق ذلك النهوض.
غير أن في الرواية كلامًا كثيرًا يصعب تصور التعبير عنه بحرية في البلاد العربية، وذلك الكلام هو ما يقوله خالد أو يقوله عنه «محرر» الكاتب أو «محققه». ولعل البدء في مناقشة الصعوبة المشار إليها تكون بالنظر في وجود ذلك المحرر أو المحقق. «كتاب خالد» رواية يقدمها المؤلف (الريحاني) على أساس أنها مخطوطة عثر عليها في المكتبة الخديوية بالقاهرة أثناء وجوده في تلك المكتبة. فالكتاب الذي بين أيدينا ناتج عن قيام المؤلف أو الكاتب بتحقيق تلك المخطوطة التي تركها شاب اسمه خالد، ما يعني ربط أجزائها بعضها ببعض وتوضيح غامضها والتعليق عليها. فنحن إذن أمام كتاب عن كتاب، كتاب الريحاني عن كتاب ضمني. وبالطبع فإن الحيلة ليست جديدة، فالريحاني لم يرد أن تنسب الرواية إليه مباشرة - وكأن كتابتها بالإنجليزية لم يكن كافيًا - فعمد إلى ما عمد إليه من قبله آخرون لعل أشهرهم الإسباني سرفانتيس في «دون كيخوته» حين نسبها إلى «مؤلف» عربي. ولعل الهدف من ذلك أوضح من أن يطول فيه النقاش، فهو باختصار شديد رغبة في تفادي النتائج التي يمكن أن يؤدي إليها نشر الكتاب ليقع اللوم - على افتراض أن لومًا سيقع - ليس على أمين الريحاني وإنما على الشاب خالد. ما فعله الريحاني هو تعريف الناس بما كتبه ذلك الشاب «الفيلسوف والشاعر والمجرم»، حسب وصفه لنفسه في الصفحات الأولى من الكتاب، بما يقتضيه ذلك من رتق الفتوق وإصلاح الأخطاء وتوضيح الغوامض.
هذا بالطبع يستثير السؤال: ما الذي خشي الريحاني من أن يلام عليه في «كتاب خالد»؟ الإجابة أن ذلك قد لا يكون كثيرًا، لكن منه ما هو مهم وجدير بالاعتبار. لنأخذ في البدء كيفية تقديم الريحاني لخالد:
لأنه يمكننا أن نبين أن خالد هذا، رغم كونه ينتمي إلى أهالي آسيا، وهي
أرض الأنبياء، ومع أنه يخبئ عنا أصله ومنشأه على غرار ما يفعله الأنبياء، فهو قد ولد ونشأ وترعرع هناك، حتى أنه ضرب بعنف مثل سائر رفاقه وخلانه.
حين تكشف الرواية عن مدى القرب بين خالد وأمين الريحاني، فإن وصف النبوة لن ينسحب على خالد وحده، فالريحاني لم يَقِل عن رفيقه جبران في دعوى النبوة، بل لم يختلف عن كثير من المبدعين الذين لم يروا أنفسهم أقل من الأنبياء رسالة أو مكانة وإن لم يعلنوا ذلك صراحة. ومن أولئك من كان الريحاني معجبا بهم بقوة وأشار إلى بعضهم في مقدمة كتابه «ملوك العرب»: الإنجليزي كارلايل والأميركي إيميرسون ثم الألماني نيتشه، وقبل هؤلاء في الثقافات الغربية الشاعران الرومانسيان وليم بليك وشيلي. وقبل هؤلاء جميعًا وبعدهم المتصوفة في الشرق والغرب وعدد كبير من الشعراء العرب كالمتنبي الذي شبه نفسه بعيسى وصالح من الأنبياء.
لقد ترك الرجل الذي عرف بفيلسوف الفريكة إرثًا ضخمًا ليست روايته «كتاب خالد» سوى الجزء الأقل شهرة في خضمه. ولكنه في المشتهر من أعماله وغير المشتهر هو نفسه المتعدد العطاء والذي جمع الشرق والغرب على النحو الذي يندر مثاله في الثقافة العربية المعاصرة.



ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»
TT

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

بعد تطواف روائي بين تونس في «باب الليل»، وسوريا في «حذاء فلليني»، يعود الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الأحدث: «سنوات النمش»، إلى عالمه الأثير في القرية المصرية، تلك التي عايَن بعض جوانبها في روايات سابقة، مثل «أحمر خفيف» و«الحب بمن حضر»، وفي كل مرة يقدم هذه القرية من منظور مغاير، مكتشفاً جانباً جديداً من قوانينها وجمالياتها، وقواعدها الصارمة ظاهرياً. هذه القواعد والتقاليد نفسها التي لا يتوقف أهل القرية عن انتهاكها سراً، في تواطؤ ضمني مفضوح يعرفه الجميع، لكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عنه وإعلانه.

«سنوات النمش» (الصادرة عن «دار المحرر») يشير عنوانها إلى البقع التي تعكِّر البياض، أو اللون الأصلي، فكأن الراوي يرصد السنوات التي كانت مليئة بالبقع في حياته وحياة قريته وناسها، وتدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا، شمال القاهرة، عبر راوٍ طفل يسرد الأحداث كلها بعينيه ورؤيته؛ فهو راوٍ مراقِب ومشارِك ومتورِّط؛ إما في الأحداث بشكل مباشر، أو بتعاطفه مع حدث هنا أو هناك، حتى ما وقع قبل ولادته، ويظل يكبر مع الأحداث متابعاً هذه القرية البعيدة عن سيطرة الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، أو كما يعتبرها أهلها «على شمال الدنيا»، وأنها ليست موجودة على الخريطة؛ فهي قرية غارقة في الجهل والمرض والخرافة.

زمنياً، يغطي فضاء الرواية المساحة منذ الأربعينات تقريباً، وحتى نهاية القرن العشرين، حين نرى الراوي الطفل وقد صار شيخاً كبيراً يزور المعالم الأثرية في الأقصر مع ابنتيه الشابتين، ويغني مع المغنين الشعبيين. وطوال هذه الفترة ترصد الرواية تحولات هذه القرية منذ العهد الملكي، حين كانت براري لا يسكنها سوى اللصوص وقُطّاع الطرق؛ إذ كانت اللصوصية المهنة الأشهر التي تتباهى بها عائلات القرية، مروراً بثورة يوليو (تموز) وزعامة جمال عبد الناصر، وصولاً لمرحلة الرئيس الأسبق أنور السادات، وانعكاس هذه التحولات السياسية الكبيرة على القرية وقاطنيها.

رواية الطفل للأحداث منحت السرد قدرة كبيرة على الفضح والتعرية، وكشف علاقات الحب الخفية، وما ينتج عنها أحياناً من صراعات، يكون الحب سببها الحقيقي المضمر، الذي يعلمه الجميع، لكن كل أطراف الصراع تدّعي أسباباً أخرى معلنة.

هذه القدرة الطفولية على الفضح منحت السرد قدراً كبيراً من السخرية والكوميديا، فالفضح بطبيعته له سمت كرنفالي ساخر وكوميدي، أقرب إلى المسخرة؛ فمن يبدو في الظاهر وقوراً نرى (بعين الطفل المندهش) باطنه المتهتِّك المحتجب عن الجميع.

قدرة الراوي الطفل على الفضح والتعرية، تطال حتى أخته، كاشفاً عن مدى عشقها للتحكُّم والتسلُّط؛ إذ يمنحها القدر فرصة لممارسة ميولها السلطوية الكامنة فيها، عبر زواجها من ضابط طيب يستجيب لكل طلباتها، فتجد الفرصة سانحة لتمارس أدواره الرسمية في غيابه، فتعطي هي الأوامر للعساكر، وتتواصل مع مديرية الأمن نيابة عنه، كاشفة عن جانبها المتسلِّط الكامن فيها، الذي ما يني يجد نافذة صغيرة لينشط، معلناً وجوده وتمدُّده، حتى إنها تنتظر عودة زوجها الخاضع لسطوتها حباً فيها، لتمارس عليه سطوتها، وتمسك بالميكروفون كأنها ديكتاتور يخطب في شعبه الخاضع، ويكون هو كل جمهورها ورعيتها.

ثمة جانب آخر، تفضحه الحكاية، أو الحكايات التي تترى في تتابع مدهش، وهو الجانب الذكوري المسيطر على هذا العالم القروي البسيط، ممثلاً في استئثار الرجل بالمواريث، ومنع الميراث عن المرأة، فضلاً عن رفض كثير من الرجال أن تتزوج شقيقاتهم، ويكون المعلن أن هذا الرفض بسبب عدم خروج الميراث لرجل غريب، لكن السبب المضمر هو رفض الرجل أن يطأ رجل غريب شقيقته. لكن رغم هذه الذكورية المهيمنة، ثمة تمثيلات على التمرُّد النسوي لكسر هذه القواعد الذكورية المتصلبة، مثل العمة فريال، العزباء التي تصدم الجميع، وتخترق الأعراف والمواضعات الاجتماعية، وتعلن رغبتها في الزواج ثانية، بعد طلاقها من زوجها اللص، ولا تكتفي بإعلان هذه الرغبة التي تنتهك السائد، بل تمعن في التحدي، ولا تكف عن البحث بنفسها عن عريس.

يعتمد الراوي على صيغة الحكي الشعبي الشفاهي؛ فتبدو الرواية كلها وكأنها سلسلة محكيات يرويها الطفل (بعدما كبر) فيستدعي حياته وعلاقاته وما رآه وسمعه في القرية وعنها وعن شخوصها طوال طفولتها، بطريقة أقرب إلى جلسات السمر واستدعاء الذكريات بشكل شفاهي، دون أن يحكمه رابط واضح، فالحكايات تتناسل، دون التزام بتتابع زمني دقيق؛ فقد تأتي حكاية حديثة عن الأب، ثم تتلوها حكاية عن الجد، ثم حكاية عن أحد أصدقاء الطفولة، وحكاية أخرى عن إحدى العمات، فحلقات الحكي تتداخل وتتابع بلا تخطيط مسبق، وتتمثل شفاهية الحكي في أن الراوي قد ينسى بعض الذكريات، وسرعان ما يتذكرها، مثلما يقول في أحد المواضع: «كنت وأبي على الطريق، لا أتذكر إلى أين... لا، لا، تذكرت الآن، كنا في نهاية فقرة من فقرات الشتاء المتقطعة، يغزونا المطر ثم يتوقف ليومين»... هذه الآلية في إعلان النسيان والاستدراك بالتذكر، آلية شفاهية بامتياز. فضلاً عن بدء التذكر بالأجواء والطقس والمطر، وكأن الراوي يعيد تذكر المشهد كاملاً بصرياً، وأنه يحدث الآن أمام عينيه؛ فالحكاية لا تكتمل إلا بتذكُّر تفاصيلها كاملة، بأجوائها، وبتعبيرات الوجوه أحياناً؛ فهو دائماً يرسم مشاهد بصرية مكتملة، ليضع المتلقي الضمني، في قلب الحدث والحكاية.

حكاية القرية، أو مجموع الحكايات الصغيرة التي تشكل عبر تضافرها حكايتها ككل (بما فيها من علاقات حب وصراعات عائلية، وثارات وفقر وحفاء، وطموحات وانكسارات للشخوص الأفراد من آحاد الناس) لا تنفصل عن حكايات أكبر، فحكايتها محض دائرة صغرى، تحتويها دوائر أكبر، منها حكاية الوطن وتحولاته السياسية، من ملكية، إلى نظام جمهوري وأحلام القومية العربية، وتعلّق الأب بزعامة عبد الناصر، ثم مرحلة الانفتاح، وهناك أيضاً دائرة الحروب، بدءاً من الاحتلال الإنجليزي وآثاره الممثلة في بعض الطرق والكباري التي شُيّدت في ظل حكم الاحتلال، ثم حرب فلسطين، ونكسة 67، وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73؛ فهذه دائرة أخرى تلقي بظلال تحولاتها على دائرة حكاية القرية. ثمة دائرة عربية لا تنفصل عن الدوائر الأصغر، تتجلى أحيان عبر سفر أحد أقارب الطفل الراوي إلى الشام وإقامته في لبنان فترة طويلة، ثم فراره منها قبل الحرب الأهلية، وعودته إلى قريته/ وقوقعته؛ إذ تنكمش أحلام أبناء القرية، في استعارة لانكماش الأحلام العربية الكبرى تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية والقومية، وعودة كل شخص للانزواء والتقوقع في قريته/ طائفته/ قوميته، حتى لو لم يكن متناغماً معها، بعد تبدُّد حلم اندماج الجميع في كلٍّ جامع.

ثمة ملمح آخر يتصل بكسر تخييلية الحكاية، وإيجاد صلة بها بالوقع المعيش؛ فالرواية رغم كونها بالأساس عملاً تخييلياً، فإنها المؤلف يتعمد (كعادته) خلق وشائج تربطها بالواقع السياسي والثقافي والفني، كما فعل في «جنازة جديدة لعماد حمدي» التي جعل اسم بطلها على اسم النجم السينمائي الشهير، أو «حذاء فلليني» التي تحيل للمخرج الإيطالي الشهير، فإنه (هنا) في «سنوات النمش» يجعل اسم أحد أبطال الرواية «القذافي»، وهو شخصية نرجسية بامتياز في روايته، ويعاني جنون عظمة واضحاً، ويجعل اسم شقيقه «العكش»، في إشارة للاسم الذي أطلقه المصريون على إعلامي شهير، إضافة إلى حيلة أخرى؛ فقد أراد والد الراوي إنشاء مدرسة في القرية، واشترطت عليه الدولة وجود 30 طالباً لإطلاقها، فلم يجد سوى 23 طفلاً، فاضطر لتزوير شهادة ميلاد لطفل متخيَّل باسم وهمي، فجعل اسم هذا الطفل غير الموجود «خيري شلبي». وبالطبع لا يخفى أن هذه ليست مصادفة، بل أقرب إلى تحية لاسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، ابن قرية بالمحافظة نفسها، كما أن الإحالات لأسماء واقعية شهيرة توجِّه القارئ إلى أن العمل الروائي المتخيَّل غير منقطع الصلة بالعالم والواقع من حوله؛ فهو تمثيل لهما، وترتبط به بدرجة ما، رغم اعتماد المنطق السردي على الاسترسال الحكائي، الذي يفيد من تقنيات الحكي التراثية في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث امتزاج الواقعي بالغرائبي، وتناسل الحكايات من بعضها، مشكلة في النهاية من هذه الطبقات الحكائية حكاية كبرى، أشبه بجدارية ضخمة، تؤرخ لقرية مصرية «على شمال السما» ظلّت عقودا رازحة تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.