تقوم المؤسسة الثقافية الأميركية وهي أشبه بتحالف من صناعة السينما والتلفزيون والصحف الكبيرة وناشري الكتب والمعلنين بانتقاء روائي (أو روائية) مغمورين، من الطراز الذي يروج في أعماله لقيم الفردانية والضياع والاستهلاك والبحث عن الذات والخلاص الفردي المحض، ومن ثم العمل على نحو متوازٍ ومتكامل لصنع هالة ضخمة حول أعمالهم - بغض النظر عن قيمتها الأدبية بل ويفضل أن تكون من النوع العابر والرديء - بحيث لا يعد بإمكانك تجاهل ما يكتبون، فأنت تجد كتبهم في كل مكان، وتغرق أدوات التواصل الاجتماعي بمقتطفات أقوالهم الحكيمة، ثم تقرأ مراجعات إيجابية عنها في كل الصحف العريقة، وتقترحها لك أوبرا وينفري ككتاب للشهر في نادي القراءة (للبسطاء) الذي تديره على التلفزيون، وفي النهاية تتقدم هوليوود بالعمل للسينما والتلفزيون من بطولة نجم وسيم أو نجمة خارقة الجمال، ثم المزيد من المراجعات للفيلم تأخذ الناس الذين لم يشتروا الكتب أصلا لشرائها في طبعاتها الجديدة بعد أن تجاوزت مبيعاتها الملايين، وتشعر حينها أنك من الغباء بمكان إذا تجاهلت هذا العمل - الظاهرة. وتستمر القصة بعدها، لأن ملايين القراء - وبالذات النساء منهن - بانتظار أي عمل جديد للروائي أو الروائية النجمة! وهكذا يربح الجميع: هوليوود والصحف وتجار الكتب والمعلنون والكاتب نفسه. بالطبع دومًا على حسابك الشخصي، لكنك غالبًا لا تشعر بالأسف لأن الرواية (ثم الفيلم حتمًا) أعطتك شعورًا بتقمص أدوار الخلاص الفردي الجميلة، بينما حياتك اليومية تنوء تحت ضغوطات الديون والفواتير والأمان الوظيفي التي خلقتها المنظومة الرأسمالية ذاتها لنا.
هل مررتم من هنا من قبل؟ من منكم لم يسمع بباولو كويلو؟ دان براون؟ إليزابيث جيلبرت؟
الأخيرة باعت ملايين النسخ من مذكراتها الشخصية المزعومة التي صدرت قبل عشر سنوات (2006). «كل وصل وأحب» أو Eat، Pray، Love، التي تروي قصة هروب الروائيّة من علاقة زوجيّة صوّرتها لنا بأنها بلا أفق، فانطلقت في رحلة لاكتشاف الذات، عبر سفر لتجربة كل ما يمكن أن يكون مهمًا في الحياة: الأكل ومتع الحواس في إيطاليا، الصلاة والتأمل في الهند، ثم الغرام والحب في إندونيسيا (بالي). الدول الثلاثة المنتقاة بالصدفة تبدأ جميعًا في اللغة الإنجليزية بحرف الـ(I) وهو ذات الضمير المستخدم للتعبير عن الذات (أنا). تنتهي القصة الرومانسية عندما تتعرف الروائية على تاجر برازيلي - مطلّقٌ بدوره - وهما يستمتعان بأشعة الشمس على شواطئ بالي الساحرة، فيقعان بالغرام ويتذوقان طعم الحب المفقود قبل أن يتوجا القصة بزواج سعيد.
تدخلت ماكينة المؤسسة الثقافية الأميركية وصنعت من السيدة جيلبرت نجمة، وكتبت عن مذكراتها كل الصحف من «نيويورك تايمز» إلى صحف الأحياء، وعملت معها أوبرا وينفري المقابلة اللازمة لمزيد من الشهرة الساذجة، وأخيرًا قدمت هوليوود فيلمها تحت ذات الاسم في 2010، مستدعية النجمة النسائية الأهم على الشاشة الأميركية: ليس أقل من جوليا روبرتس شخصيًا. وهكذا أصبح «الأكل والصلاة والحب» ظاهرة ثقافية عالميّة، وتدفقت ملايين الدولارات على الجميع، وأصبحنا جميعًا بانتظار عمل السيدة جيلبرت الروائي الجديد.
صدّق ملايين النساء والرجال حول العالم قصة «الأكل والصلاة والحب»، وتقمص الألوف شخصية البطلة وهي تتمرد على علاقتها القديمة منطلقة إلى فضاءات أرحب. بل وصدر كتاب في الولايات المتحدة عن 47 قصة حقيقية لأناس تأثروا بالمذكرات فتركوا أزواجهن أو زوجاتهم وانطلقوا في رحلات مماثلة لاكتشاف الذات، حتى أن
بعض تجار السياحة نظموا رحلات تتطابق مساراتها مع رحلة البطلة عبر الدول الثلاث لعل وعسى. ولضمان استخراج أقصى العوائد من مشروع «الأكل والصلاة والحب»، أتحفتنا السيدة جيلبرت بكتابها التالي: «الالتزام: كيف حققت أنا المتشككة الصلح مع فكرة الزواج»، وهو بالطبع باع ملايين النسخ بدوره بناء على سمعة الكتاب الأول.
لم يجرؤ الكثيرون على انتقاد تهافت العمل من الناحية الأدبية، دع عنك مناقشة القيمة الفكريّة التي تجعلنا نشتري الكتاب (الكتب!) أو نشاهد الفيلم. لكن الحقيقة أن القصة رغم ادعائها بأنها رحلة في اكتشاف الذات، فهي لا شك تعود بنا لذات السرديّة الكلاسيكية التي تقدمها هوليوود عن حياة الرجال والنساء عامة. الرجال ينطلقون لاكتشاف ذواتهم ذاهبين في غياهب التجريب، مزينين بالنساء كإكسسوارات جانبية براقة لهم، بينما تنطلق النساء لاكتشاف ذواتهن من خلال البحث - حصريًا - عن الشريك المثالي. فالبطلة تترك حياتها المملة مع زوجها الأميركي لتتذوق لذائذ القلب والعقل والجسد عبر العالم لكنها في النهاية تحقق خلاصها بالزواج من رجل آخر.
لست بوارد انتقاد فكرة الخلاص الفردي واستحالتها في المجتمعات الرأسمالية، ولكن حتى الخلاص وفق «الأكل والصلاة والحب» فإنه يُقّدم في أجواء بذخ وسفر وإنفاق لا تقدر عليه أغلبية البشر، أي أنه مستحيل فعليًا، وهو مما يضع معظم النساء التعيسات تحت ضغوط إضافية لأن خطة الخلاص المطروحة لا يمكن تنفيذها لأسباب مادية محضة.
الأخطر عندي في القصة كان طرح فكرة الهروب من العلاقة الزوجية المتكلسة كحل. معظم العلاقات الزوجية في العالم الرأسمالي تعاني من مصاعب الحياة المادية التي تنعكس بشكل أو آخر على أداء الطرفين في العلاقة روحيًا وجسديًا وسيكولوجيًا وتنتهي إلى الشعور بالاختناق. على الأغلب أن هذا الشعور بالاختناق تجلبه على الزوجين (معًا) الرأسمالية لا الأفراد، الذين هم - جدلا - تزوجوا عن حب ولو عابر، وبالتالي حتى لو انتقلنا إلى علاقة جديدة (خيانة أو زواجًا جديدًا لا فرق) فستنتهي دائمًا عند نفس المكان: الاصطدام بضغوط الحياة والشعور بالاختناق. لقد حدث ذلك بحرفيته مع السيدة جيلبرت. زعيمة الهاربات إلى حب جديد أعلنت الشهر الماضي على موقعها على «فيسبوك» أنها بعد عقد من السنوات قد انتهت علاقتها مع زوجها البرازيلي الجديد، وأنها تقوم الآن بإجراءات طلاق ودي، وترجو معجبيها تركها في خصوصية تامة خلال هذا الوقت الصعب.
هكذا إذن هوى نجم - صنم آخر. لكن المنظومة الرأسمالية لن تتوقف كثيرا هنا، وستستمر في صناعة وتصعيد الروائيين - النجوم.
إنه مبدأ تعظيم الربح الذي يحكم منطق الأشياء في هذه المنظومة.
ولذا، فلننتظر معا نجما آخر جديدا، وكذبة بحجم عدة ملايين من الدولارات.
المؤسسة الثقافية الأميركية.. كيف تصنع نجومها؟
تقرأ مراجعات عنهم في صحف عريقة وتقترح كتبهم وينفري وتقدمها هوليوود
المؤسسة الثقافية الأميركية.. كيف تصنع نجومها؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة