لقد أرسي السلطان العثماني سليمان «القانوني» الأرضية الثقافية والفكرية والإدارية والقانونية للدولة العثمانية الجديدة، كما تابعنا في الأسبوع الماضي. وقد اهتم أيضًا بالرونق غير العسكري لدولته، فانتشرت في عهده العمارة الحديثة والمجيدة التي نرى آثارها اليوم في إسطنبول وغيرها من المدن التركية. ثم إنه اهتم بنهضة التعليم، كما انتشرت في الأوساط العثمانية حركة الفكر والشعر. وكانت بين المنجزات العميقة الأثر صياغة «مدوّنة القوانين» التي جمعت القوانين المتناثرة، وأبرمت قوانينً جديدة حددت الحقوق والواجبات، وكفلت بشكل بدائي مفهوم «المواطَنة» داخل الدولة العثمانية، خصوصا بالنسبة لغير المسلمين، وهو الأمر الذي جعل الدولة العثمانية في الحقيقة ملاذًا لكثيرين من المضطهدين في أوروبا، وعلى رأسهم اليهود الذين عانوا من الطرد من إسبانيا في 1492 مع المسلمين، وقونن كذلك أوضاع الأقنان (العبيد)، فجعل من الدولة العثمانية وسيلة جذب لهذه الطبقة من الأوروبيين الذين حصلوا على حقوق لم يعرفوها في بلادهم قط.
مع ذلك، شهد عصر سليمان «القانوني» أيضًا، وبالقوة نفسها، حركة توسّع وحملات عسكرية كثيرة، فهو الذي أسس للدور الرئيس للدولة العثمانية في السياسة الأوروبية. وعلى الرغم من ظهور هذا الدور منذ وضع العثمانيون لأنفسهم موطئ قدم في القارة الأوروبية، فإن إسطنبول لم تتبوأ المكانة المكتملة بوصفها دولة عضوًا ومؤثرة وفاعلة في النظام السياسي الأوروبي بشكل كامل وصريح إلا في عهد سليمان. ويرجع ذلك في التقدير ليس فقط إلى التوسع العسكري في شرق ووسط أوروبا والبلقان، ولكن أيضًا لممارسة دوره الدبلوماسي الفعال على الساحة الأوروبية، كما لو كانت الدولة العثمانية جزءًا من منظومة العلاقات الدولية وتوازنات القوى من ناحية أخرى. وهي المكانة التي حظيت بها الدولة العثمانية بشكل غريب، سواءً وهي في أوج قوتها أو إبّان احتضارها؛ وهذا من مفارقات التاريخ.
لقد ركّز سليمان في بداية حكمه على الإصلاحات الداخلية، وأخذ ينظر ويتابع الأوضاع في أوروبا عن كثب، منتظرًا الفرصة المواتية لتوسيع ممالكه الأوروبية بشكل كبير، وليحقق ما لم يحققه السلاطين من قبله. وحقًا كانت الساحة الأوروبية مواتية تمامًا مع بداية حكمه لهذا التوسع، إذ كانت أوروبا تمرّ بمرحلة متغيرات واسعة النطاق، حيث كانت مناطق وسط وشرق أوروبا التي تقع على التماس العثماني خاضعة لحكم أو هيمنة الإمبراطور شارل الخامس، أقوى حكام الإمبراطورية الرومانية المقدسة المتحالفة مع إسبانيا بعد توحّدها عام 1492 تحت الرباط الكاثوليكي والملكي، ومعهما البابا بطبيعة الحال. وكان هذا الإمبراطور الطموح يسعى لفرض الهيمنة على القارة الأوروبية بأكملها، بينما كانت فرنسا تحت حكم فرنسيس الأول هي العائق الأساسي له في هذا الحلم. ولقد شعر فرنسيس أنه يقع بين قطبين موحدين ضده، وبالتالي، سعى - تطبيقًا لمبدأ توازن القوى – إلى عقد تحالف مباشر مع سليمان «القانوني».
ومع أن سليمان رحّب بمسعى فرنسيس، فإنه كان مدركًا أن الملك الفرنسي في النهاية لن يكون حليفًا استراتيجيًا، حتى مع التوقيع على اتفاقية دفاع مشترك. وفي أي حال، كان هناك استغلال متبادل ما دامت الجبهة مفتوحة مع العدو المشترك، شارل الخامس. وبالفعل، استفاد سليمان من هذا الوضع، فوجه قواته نحو البلقان مباشرة، وتوغل في صربيا حتى فرض الحصار على حاضرتها بلغراد التي دانت للدولة العثمانية، بعدما ترك سليمان مهمة فتحها إلى جيشه، وعاد إلى إسطنبول لمتابعة الأوضاع في الدولة، والتجهيز لبداية تطهير شرق المتوسط المتاخم له من المناوئين لدولته.
بعدها، توجه سليمان بقوة بحرية قوية نحو جزيرة رودوس عام 1522، وكانت هذه الجزيرة معقلاً للقراصنة الذين طالما هددوا التجارة العثمانية، وكانوا شوكة خطيرة للغاية في خاصرته السياسية، لا سيما أنها كانت تحت سيطرة «فرسان القديس يوحنا» الأشداء المتعصبين دينيًا. وقد أنزل الأسطول العثماني جيشه، وفرض سليمان الحصار على مدينة رودوس، عاصمة الجزيرة الصغيرة، التي استعصت عليه مؤقتًا لاستبسال المدافعين عنها لبعض الوقت، إذ فشلت محاولات سليمان اختراق أسوارها الشاهقة، كما فشلت معظم محاولات تلغيم تلك الأسوار، لكن المدافعين اضطروا في نهاية المطاف للاستسلام، وتوقيع صلح صيغ بشكل متسامح لتحفيز سكان المدينة والجزيرة للاستسلام. وبعد تأمين الجزيرة، عاد سليمان مرة أخرى ليجهز غزواته التالية، بعدما أمن شرق البحر المتوسط.
وفي تحركه العسكري التالي، عاد سليمان مرة أخرى لفتح الجبهة الأوروبية، وجرّها إلى صراع مفتوح مع الإمبراطور شارل الخامس، للتخفيف عن الضغط المفروض على حليفه الفرنسي. وكانت المجر هي ساحة الاقتتال، حيث استغل سليمان وجود خلافات داخلية في الإمبراطورية، وقرّر السيطرة على المجر، فعبر بقواته في 1525 نهر الدانوب، وقرّر حرق الجسور التي عبر منها الجيش، أسوة بما فعله طارق بن زياد عند فتح الأندلس، وتوغل للداخل حتى واجه القوات المجرية في معركة موهاتش الشهيرة التي انتهت بهزيمة ثقيلة للغاية للمجريين خلال أقل من ساعتين، واستولى على المجر.
غير أنه بمجرد انسحابه عائدًا إلى إسطنبول، عاد ملك المجر فرديناند مرة أخرى للمناوشة، لاستعادة عرشه بدعم من الإمبراطور، فاضطر سليمان لتجريد حملة جديدة أسفرت عن تنصيب الملك زيبوليا على عرش البلاد في مواجهة فرديناند الذي كان يدعمه الإمبراطور. ثم تحرك سليمان في العام نفسه لمحاصرة العاصمة الإمبراطورية فيينا، لتكون بوابته للدخول في غرب أوروبا. وفعلاً، حاصر الجيش العثماني فيينا، إلا أنه عجز عن فتحها لاستبسال حاميتها المكونة من عشرين ألف مقاتل ودخول الشتاء، ولذا اضطر لرفع الحصار. وكانت هذه الخطوة إيذانًا بفتح حوار مع الإمبراطور، لتوقيع اتفاق للسلام تم بمقتضاه تقسيم المجر بين حليفي الدولتين، وعودة سليمان مرة أخرى إلى إسطنبول. وثمة من يقول إنه لو فتح السلطان العثماني فيينا، فإن الخارطة السياسية الأوروبية كانت تغيّرت حتمًا، ولكان التاريخ قد اتخذ منعطفًا مختلفًا.
أما على جبهات الشرق، فكانت الخطوة التالية توجيه سليمان «القانوني» جيوشه في عام 1534 نحو الشرق لمواجهة الدولة الفارسية، وقد استطاع أن يستولى على شمال العراق، ثم فتح بغداد، وتوغل بعد ذلك شرقًا في إيران، واستطاع أن يحتل مدينة تبريز، لكنه اكتفى بذلك، وعاد بجيشه إلى إسطنبول حماية لخطوط اتصالاته التي كانت قد توسعت وطالت أكثر من اللزوم. لكنه قبل ذلك، تخلص من رئيس وزرائه وصديق عمره إبراهيم باشا الذي منحه الألقاب والأموال الطائلة، مع أن الرجل كان يرجوه ألا يفرط برفع مكانته، وذلك لأنه كان يخشى الوشايات وسوء المصير. بيد أن ثقة السلطان كانت عظيمة، قبل أن يجهز على رفيق عمره، بعدما اتخذ الرجل إثر فتحه تبريز لقب «السلطان»، وهو أمر كان متعارفًا عليه في بلاد فارس، باعتبار أنه حكم المدينة واحتلها. وفي هذا، ما كان إبراهيم يدري أنه تمادى، وعبر «الخطوط الحمراء». وبالطبع، كان لمنافسي إبراهيم دورهم في الوشاية به.
ولم يتأخر سليمان مجددًا في العودة إلى الساحة الأوروبية؛ هذه المرة بعد وفاة حليفه الملك زيبوليا، فدخل المجر، وأعاد العرش إلى ابنه الرضيع، ووضع المجر تحت السيطرة العثمانية المباشرة منعًا لأي مشكلات مستقبلية. ولقد آثر الإمبراطور ألا يطيل المواجهة مع العثمانيين، بعدما تفشت مشكلات الثورة البروتستانتية في أراضي الإمبراطورية، وكان في حاجة لمساحة ليوجه جيوشه لإخماد الثورة البروتستانتية. وبالفعل، تم توقيع اتفاقية عام 1547، وقع عليها الإمبراطور وملك فرنسا والبابا ودويلة البندقية (فينيتزيا)، وهو ما يعكس المكانة التي وصلت إليها الدولة العثمانية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من السياسة الأوروبية.
ولقد استغل سليمان «القانوني» كل هذه الظروف استغلالاً جيدًا، ووجه جهده نحو تقوية وضع الدولة في الأراضي الأوروبية التي كانت تحت سيطرته الكاملة. غير أن الهدنة منحته أيضًا الفرصة للإجهاز على الدولة الصفوية في إيران، من خلال الحملة الثانية التي انتهت بالاستيلاء على بعض المدن، وتبع هذه الحملة فتح الجبهة المجرية مرة أخرى لفشل اتفاقية 1547 بعد سنوات قليلة، ولكن جهده العسكري لم يكن حاسمًا. وشن سليمان حملته الثالثة على الصفويين بعدما تجرأوا عليه، واستولوا على مدينة أرضروم، في شرق الأناضول، فرد عليهم وهزمهم في بعض المعارك، ولكنه لم يستطع الاستيلاء على كل أراضي الدولة الصفوية، فآثر الطرفان السلام مرة أخرى، بعدما حصل سليمان على بعض أراضي إيران، وعلى رأسها مدينة تبريز، وأمّن هذه الجبهة.
وكانت آخر حملات سليمان في المجر في عام 1566، ولكن القدر لم يمهله، إذ توفي قبيل المعركة الفاصلة التي انتصرت فيها جيوشه. وفي ذلك اليوم، أخفى رئيس وزرائه خبر وفاته لحين تثبيت ابنه سليم الثاني على السلطنة. وبعدها، أعلن خبر وفاة أعظم سلاطين الدولة العثمانية على الإطلاق. وحقيقة الأمر أن الدولة العثمانية بدأت بعده مرحلة التحلل السياسي الممتد تدريجيًا، ولكن ليس قبل أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من المعادلة السياسية الأوروبية، بممتلكات في شرق ووسط أوروبا، وعلاقات ممتدة مع الدول المهمة في هذا المسرح.
ولئن كان سليمان القانوني قد ثبّت أقدام الدولة العثمانية أوروبيًا ضمن أمور أخرى، فإن كثرة من كتب التاريخ قد أغفلت حقيقة أساسية، وهي أن الدولة في عهده وصلت لمرحلة التشبع العسكري والسياسي، إذ لم تكن قادرة على استيعاب مزيد من التوسّع، خصوصًا في أوروبا.
من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية
من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة