من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية

من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية
TT

من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية

من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية

لقد أرسي السلطان العثماني سليمان «القانوني» الأرضية الثقافية والفكرية والإدارية والقانونية للدولة العثمانية الجديدة، كما تابعنا في الأسبوع الماضي. وقد اهتم أيضًا بالرونق غير العسكري لدولته، فانتشرت في عهده العمارة الحديثة والمجيدة التي نرى آثارها اليوم في إسطنبول وغيرها من المدن التركية. ثم إنه اهتم بنهضة التعليم، كما انتشرت في الأوساط العثمانية حركة الفكر والشعر. وكانت بين المنجزات العميقة الأثر صياغة «مدوّنة القوانين» التي جمعت القوانين المتناثرة، وأبرمت قوانينً جديدة حددت الحقوق والواجبات، وكفلت بشكل بدائي مفهوم «المواطَنة» داخل الدولة العثمانية، خصوصا بالنسبة لغير المسلمين، وهو الأمر الذي جعل الدولة العثمانية في الحقيقة ملاذًا لكثيرين من المضطهدين في أوروبا، وعلى رأسهم اليهود الذين عانوا من الطرد من إسبانيا في 1492 مع المسلمين، وقونن كذلك أوضاع الأقنان (العبيد)، فجعل من الدولة العثمانية وسيلة جذب لهذه الطبقة من الأوروبيين الذين حصلوا على حقوق لم يعرفوها في بلادهم قط.
مع ذلك، شهد عصر سليمان «القانوني» أيضًا، وبالقوة نفسها، حركة توسّع وحملات عسكرية كثيرة، فهو الذي أسس للدور الرئيس للدولة العثمانية في السياسة الأوروبية. وعلى الرغم من ظهور هذا الدور منذ وضع العثمانيون لأنفسهم موطئ قدم في القارة الأوروبية، فإن إسطنبول لم تتبوأ المكانة المكتملة بوصفها دولة عضوًا ومؤثرة وفاعلة في النظام السياسي الأوروبي بشكل كامل وصريح إلا في عهد سليمان. ويرجع ذلك في التقدير ليس فقط إلى التوسع العسكري في شرق ووسط أوروبا والبلقان، ولكن أيضًا لممارسة دوره الدبلوماسي الفعال على الساحة الأوروبية، كما لو كانت الدولة العثمانية جزءًا من منظومة العلاقات الدولية وتوازنات القوى من ناحية أخرى. وهي المكانة التي حظيت بها الدولة العثمانية بشكل غريب، سواءً وهي في أوج قوتها أو إبّان احتضارها؛ وهذا من مفارقات التاريخ.
لقد ركّز سليمان في بداية حكمه على الإصلاحات الداخلية، وأخذ ينظر ويتابع الأوضاع في أوروبا عن كثب، منتظرًا الفرصة المواتية لتوسيع ممالكه الأوروبية بشكل كبير، وليحقق ما لم يحققه السلاطين من قبله. وحقًا كانت الساحة الأوروبية مواتية تمامًا مع بداية حكمه لهذا التوسع، إذ كانت أوروبا تمرّ بمرحلة متغيرات واسعة النطاق، حيث كانت مناطق وسط وشرق أوروبا التي تقع على التماس العثماني خاضعة لحكم أو هيمنة الإمبراطور شارل الخامس، أقوى حكام الإمبراطورية الرومانية المقدسة المتحالفة مع إسبانيا بعد توحّدها عام 1492 تحت الرباط الكاثوليكي والملكي، ومعهما البابا بطبيعة الحال. وكان هذا الإمبراطور الطموح يسعى لفرض الهيمنة على القارة الأوروبية بأكملها، بينما كانت فرنسا تحت حكم فرنسيس الأول هي العائق الأساسي له في هذا الحلم. ولقد شعر فرنسيس أنه يقع بين قطبين موحدين ضده، وبالتالي، سعى - تطبيقًا لمبدأ توازن القوى – إلى عقد تحالف مباشر مع سليمان «القانوني».
ومع أن سليمان رحّب بمسعى فرنسيس، فإنه كان مدركًا أن الملك الفرنسي في النهاية لن يكون حليفًا استراتيجيًا، حتى مع التوقيع على اتفاقية دفاع مشترك. وفي أي حال، كان هناك استغلال متبادل ما دامت الجبهة مفتوحة مع العدو المشترك، شارل الخامس. وبالفعل، استفاد سليمان من هذا الوضع، فوجه قواته نحو البلقان مباشرة، وتوغل في صربيا حتى فرض الحصار على حاضرتها بلغراد التي دانت للدولة العثمانية، بعدما ترك سليمان مهمة فتحها إلى جيشه، وعاد إلى إسطنبول لمتابعة الأوضاع في الدولة، والتجهيز لبداية تطهير شرق المتوسط المتاخم له من المناوئين لدولته.
بعدها، توجه سليمان بقوة بحرية قوية نحو جزيرة رودوس عام 1522، وكانت هذه الجزيرة معقلاً للقراصنة الذين طالما هددوا التجارة العثمانية، وكانوا شوكة خطيرة للغاية في خاصرته السياسية، لا سيما أنها كانت تحت سيطرة «فرسان القديس يوحنا» الأشداء المتعصبين دينيًا. وقد أنزل الأسطول العثماني جيشه، وفرض سليمان الحصار على مدينة رودوس، عاصمة الجزيرة الصغيرة، التي استعصت عليه مؤقتًا لاستبسال المدافعين عنها لبعض الوقت، إذ فشلت محاولات سليمان اختراق أسوارها الشاهقة، كما فشلت معظم محاولات تلغيم تلك الأسوار، لكن المدافعين اضطروا في نهاية المطاف للاستسلام، وتوقيع صلح صيغ بشكل متسامح لتحفيز سكان المدينة والجزيرة للاستسلام. وبعد تأمين الجزيرة، عاد سليمان مرة أخرى ليجهز غزواته التالية، بعدما أمن شرق البحر المتوسط.
وفي تحركه العسكري التالي، عاد سليمان مرة أخرى لفتح الجبهة الأوروبية، وجرّها إلى صراع مفتوح مع الإمبراطور شارل الخامس، للتخفيف عن الضغط المفروض على حليفه الفرنسي. وكانت المجر هي ساحة الاقتتال، حيث استغل سليمان وجود خلافات داخلية في الإمبراطورية، وقرّر السيطرة على المجر، فعبر بقواته في 1525 نهر الدانوب، وقرّر حرق الجسور التي عبر منها الجيش، أسوة بما فعله طارق بن زياد عند فتح الأندلس، وتوغل للداخل حتى واجه القوات المجرية في معركة موهاتش الشهيرة التي انتهت بهزيمة ثقيلة للغاية للمجريين خلال أقل من ساعتين، واستولى على المجر.
غير أنه بمجرد انسحابه عائدًا إلى إسطنبول، عاد ملك المجر فرديناند مرة أخرى للمناوشة، لاستعادة عرشه بدعم من الإمبراطور، فاضطر سليمان لتجريد حملة جديدة أسفرت عن تنصيب الملك زيبوليا على عرش البلاد في مواجهة فرديناند الذي كان يدعمه الإمبراطور. ثم تحرك سليمان في العام نفسه لمحاصرة العاصمة الإمبراطورية فيينا، لتكون بوابته للدخول في غرب أوروبا. وفعلاً، حاصر الجيش العثماني فيينا، إلا أنه عجز عن فتحها لاستبسال حاميتها المكونة من عشرين ألف مقاتل ودخول الشتاء، ولذا اضطر لرفع الحصار. وكانت هذه الخطوة إيذانًا بفتح حوار مع الإمبراطور، لتوقيع اتفاق للسلام تم بمقتضاه تقسيم المجر بين حليفي الدولتين، وعودة سليمان مرة أخرى إلى إسطنبول. وثمة من يقول إنه لو فتح السلطان العثماني فيينا، فإن الخارطة السياسية الأوروبية كانت تغيّرت حتمًا، ولكان التاريخ قد اتخذ منعطفًا مختلفًا.
أما على جبهات الشرق، فكانت الخطوة التالية توجيه سليمان «القانوني» جيوشه في عام 1534 نحو الشرق لمواجهة الدولة الفارسية، وقد استطاع أن يستولى على شمال العراق، ثم فتح بغداد، وتوغل بعد ذلك شرقًا في إيران، واستطاع أن يحتل مدينة تبريز، لكنه اكتفى بذلك، وعاد بجيشه إلى إسطنبول حماية لخطوط اتصالاته التي كانت قد توسعت وطالت أكثر من اللزوم. لكنه قبل ذلك، تخلص من رئيس وزرائه وصديق عمره إبراهيم باشا الذي منحه الألقاب والأموال الطائلة، مع أن الرجل كان يرجوه ألا يفرط برفع مكانته، وذلك لأنه كان يخشى الوشايات وسوء المصير. بيد أن ثقة السلطان كانت عظيمة، قبل أن يجهز على رفيق عمره، بعدما اتخذ الرجل إثر فتحه تبريز لقب «السلطان»، وهو أمر كان متعارفًا عليه في بلاد فارس، باعتبار أنه حكم المدينة واحتلها. وفي هذا، ما كان إبراهيم يدري أنه تمادى، وعبر «الخطوط الحمراء». وبالطبع، كان لمنافسي إبراهيم دورهم في الوشاية به.
ولم يتأخر سليمان مجددًا في العودة إلى الساحة الأوروبية؛ هذه المرة بعد وفاة حليفه الملك زيبوليا، فدخل المجر، وأعاد العرش إلى ابنه الرضيع، ووضع المجر تحت السيطرة العثمانية المباشرة منعًا لأي مشكلات مستقبلية. ولقد آثر الإمبراطور ألا يطيل المواجهة مع العثمانيين، بعدما تفشت مشكلات الثورة البروتستانتية في أراضي الإمبراطورية، وكان في حاجة لمساحة ليوجه جيوشه لإخماد الثورة البروتستانتية. وبالفعل، تم توقيع اتفاقية عام 1547، وقع عليها الإمبراطور وملك فرنسا والبابا ودويلة البندقية (فينيتزيا)، وهو ما يعكس المكانة التي وصلت إليها الدولة العثمانية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من السياسة الأوروبية.
ولقد استغل سليمان «القانوني» كل هذه الظروف استغلالاً جيدًا، ووجه جهده نحو تقوية وضع الدولة في الأراضي الأوروبية التي كانت تحت سيطرته الكاملة. غير أن الهدنة منحته أيضًا الفرصة للإجهاز على الدولة الصفوية في إيران، من خلال الحملة الثانية التي انتهت بالاستيلاء على بعض المدن، وتبع هذه الحملة فتح الجبهة المجرية مرة أخرى لفشل اتفاقية 1547 بعد سنوات قليلة، ولكن جهده العسكري لم يكن حاسمًا. وشن سليمان حملته الثالثة على الصفويين بعدما تجرأوا عليه، واستولوا على مدينة أرضروم، في شرق الأناضول، فرد عليهم وهزمهم في بعض المعارك، ولكنه لم يستطع الاستيلاء على كل أراضي الدولة الصفوية، فآثر الطرفان السلام مرة أخرى، بعدما حصل سليمان على بعض أراضي إيران، وعلى رأسها مدينة تبريز، وأمّن هذه الجبهة.
وكانت آخر حملات سليمان في المجر في عام 1566، ولكن القدر لم يمهله، إذ توفي قبيل المعركة الفاصلة التي انتصرت فيها جيوشه. وفي ذلك اليوم، أخفى رئيس وزرائه خبر وفاته لحين تثبيت ابنه سليم الثاني على السلطنة. وبعدها، أعلن خبر وفاة أعظم سلاطين الدولة العثمانية على الإطلاق. وحقيقة الأمر أن الدولة العثمانية بدأت بعده مرحلة التحلل السياسي الممتد تدريجيًا، ولكن ليس قبل أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من المعادلة السياسية الأوروبية، بممتلكات في شرق ووسط أوروبا، وعلاقات ممتدة مع الدول المهمة في هذا المسرح.
ولئن كان سليمان القانوني قد ثبّت أقدام الدولة العثمانية أوروبيًا ضمن أمور أخرى، فإن كثرة من كتب التاريخ قد أغفلت حقيقة أساسية، وهي أن الدولة في عهده وصلت لمرحلة التشبع العسكري والسياسي، إذ لم تكن قادرة على استيعاب مزيد من التوسّع، خصوصًا في أوروبا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.