إحياء فكرة الشاعر الغنائي

انقسام كبير بين نخبوية الحداثة والثقافة الجماهيريّة

لوحة تمثل هوميروس، الشاعر الغنائي الأول
لوحة تمثل هوميروس، الشاعر الغنائي الأول
TT

إحياء فكرة الشاعر الغنائي

لوحة تمثل هوميروس، الشاعر الغنائي الأول
لوحة تمثل هوميروس، الشاعر الغنائي الأول

زلزال جدلي أحدثته الأكاديمية السويدية، بعد منحها المغني والشاعر والملحن الأميركي بوب ديلان جائزة نوبل للآداب لعام 2016، مثيرة بقرارها نقاشات حادة في الأوساط الثقافيّة بوصفها سطرت بذلك مفهومًا جديدًا للأدب كسر قوالب قديمة اعتبرت دوما أن الجائزة الأهم في مجالها تمنح فقط للروائيين أو كتاب القصص القصيرة أو الشعراء، التقليديين.
أعنف الهجمات التي تعرضت لها الأكاديميّة جاءت من الصحافة العربيّة التي أصيب معظم كتّابها بخيبة أمل صادمة على مستويين: الأول، سياسي يتهم ديلان نفسه، رغم الاعتراف بموهبته الفذّة، بالانحناء والتعايش مع المنظومة الثقافيّة الرسميّة الأميركيّة. والثاني، ثقافي يعتبر الاختيار غير مألوف، وغير مبرر، ونتاج مداولات خلف أبواب مغلقة أشبه ما تكون باجتماعات الكرادلة السرّية.
لكن القليلين ربما أدركوا أن الأكاديميّة بدت في ذلك أكثر تقدميّة وعصرنة وجرأة من النقاد والصحافيين الذين هاجموا خيارها الأخير، مقدمة نموذجًا يحتذى به في فهم تحولات الأزمنة خلال فترة «خلو العرش» هذه كما سماها زيجمونت باومان، وهي فترة تعطلت فيها الممارسات القديمة، وطرائق التعامل مع الوضع الإنساني وفهمنا للعالم، ولم تعد ذات صلة، بينما لم تولد في المقابل ممارسات جديدة قادرة على تقديم وجهة نقصدها كمجتمعات: لا في السياسة، ولا في الاقتصاد، ولا حتى في الأدب والثقافة. هذه المرحلة التي يسميها البعض «ما بعد الحداثة» تتسم، فيما تتسم به، برفض لهيمنة كلاسيكيات الحداثة على الجامعات والمتاحف والمعارض والمؤسسات، واستيعابها كجزء من النظام، وتحولها إلى نخبوية منعزلة في الأبراج، رغم عدائها الشكلي المعلن للفنون البرجوازية.
هذا «الانقسام العظيم»، كما يدعوه أندرياس هيوسن بين نخبوية الحداثة والثقافة الجماهيريّة، والخطاب الذي رافقه داعيًا للفصل بين الفن الرفيع والثقافة الشعبيّة، هو تمامًا ما أفرز ردات فعل شعبيّة من خلال فن البوب البريطاني / الأميركي بداية، ومن ثم ترفيعًا لاحقًا لمنتجات الموسيقى الشعبيّة الجديدة منذ الستينات، كان رواده بكل بساطة فنانون شعراء كسروا قوالب الكتابة والتلحين والموسيقى معا، وقدموا نصوصًا مغناة غير مألوفة في موسيقى البوب، عبروا فيها عن هموم جيل كامل، فأحيوا فكرة الشاعر الغنائي كما هي في جذورها الأولى، أيام هوميروس الإغريقي؛ وعلى رأس هؤلاء كان بوب ديلان والبيتلز.
قبل عدة عقود، كان طرح اسم بوب ديلان بوصفه شاعرًا في الأوساط الأكاديمية المعنية بالأدب الحديث، يثير سخريّة حراس المعبد الذين يسارعون إلى التقليل من أهمية أعماله، ووصفها بالشعبيّة. لكن هذه الأجواء المتحجرة تغيّرت، في العالم الغربي على الأقل، ولاحظنا توسعًا غير مسبوق في تحديد مساحة ما يتم دراسته كأدب، من مجرد أعمال كلاسيكية في نطاقات الأدب الرفيع إلى آفاق التعبير الإنساني الأرحب عبر قنوات متنوعة: في الأفلام والإعلانات وقصص الخيال العلمي، وأيضًا بشكل شعر مغنى في موسيقى البوب.
من هذا المشهد، تبدو أعمال ديلان شديدة التميّز والأصالة؛ أسلوبه الاستثنائي في التعامل مع اللغة مكنه من إنتاج مجموعة قصائد مغناة لم يفعلها أحد قبله في اللغة الإنجليزية. وعلى الرغم من أنه اشتهر عالميًا بوصفه مغنيًا أساسًا، أدواته الموسيقى والغناء، فإن نصوصه التي بنى عليها أداءه كتبت بحذق وحساسية ومهارة محترفة، وفيها لعب بالكلمات على نحو يجعل من إحساسنا باللغة باعتبارها تعبيرا يتجاوز المعنى إلى شاعريّة التعبير بحد ذاته. لغة ديلان وحدت النص الحامل للمعنى والمعنى المحمول في نسق واحد، تأخذه الموسيقى إلى بعد جديد، وهو لذلك كثيرًا ما غيّر من نصوص قصائده وقت تقديمها مغناة أمام الجمهور.
فَهم قيمة ديلان يتطلب بالضرورة النظر إلى مجموع أعماله، لا أعمالا فرديّة محددة مهما كانت مبدعة بحد ذاتها. فهو في ألبومه «ذا تيمبيست» (٢٠١٢) مختلف بالكليّة عنه في «ذا فريويلن» (١٩٦٣)، وعن بقيّة الأعمال بينهما خلال مهنته الصاخبة التي استمرت لأكثر من نصف قرن. ورغم أن شهرته الفائقة جاءت من خلال عدد من الأغنيات المشهورة من ستينات القرن الماضي، التي تصادفت مع لحظات تحول ثقافي كبير في التاريخ الأميركي، فإن قيمته الحقيقيّة ستبقى دائمًا في ثوريته العالية التي أعادت تعريف ماهية الشعر لجيل أميركي وعالمي كامل، ومساهمته الكليّة في إعادة تعريف العمل الأدبي ذاته دون استعلاءٍ على المُتلقين، مما يجعله أكثر من مجرد رمز لجيل يتغيّر، ليصبح قيمة أدبيّة خالدة.
لا ينكر أحد بالطبع الخيبة الوجدانية التي أصيب بها جزء من عشاق أغنيات بوب ديلان العرب نتيجة مواقفه المنحازة للعدوان الإسرائيلي، ومهادنته للمنظومة الأميركية، وهو الذي كانت صورته في الستينات من القرن الماضي رمزًا لجيل أميركي متمرد رفض الحرب الظالمة على فيتنام، وكان يحلم بتغيير الكوكب، لكن ذلك لا ينقص مطلقًا من قيمة عمله من الناحية الأدبيّة المحضة، بوصفه أهم شاعر غنائي - أقله باللغة الإنجليزيّة - في القرن العشرين.
لعل أفضل وصف لمساهمة بوب ديلان في الأدب العالمي قد تكون تلك التي صدرت عن جائزة بوليتزر، عندما منحته تنويهًا خاصًا في عام ٢٠٠٨، وذلك «لتأثيره العميق على الموسيقى الشعبيّة والثقافة الأميركية، من خلال تكوينات كلمات أغانيه التي تمتلك قوة شعريّة استثنائيّة».
لا شك أن الأكاديميّة السويدية ذهبت آفاقا بعيدة في الجرأة فأعطت - بوب ديلان - هوميروس ما بعد الحداثة بعضًا مما يستحق من التقدير قبل أن يغيّبه النسيان.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».