هؤلاء رسموا ملامح سياسة أوباما الشرق أوسطية

«العائلة» التي سيفتقدها «مطبخه السياسي» بعد نوفمبر المقبل

اوباما.. داخل البيت الأبيض
اوباما.. داخل البيت الأبيض
TT

هؤلاء رسموا ملامح سياسة أوباما الشرق أوسطية

اوباما.. داخل البيت الأبيض
اوباما.. داخل البيت الأبيض

يتسارع العد التنازلي لنهاية عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، هذه الأيام. وأمام خلفية الأوضاع المأساوية التي تشهدها عموم أراضي سوريا، وبوادر الكارثة التي يحذر منها كثيرون في شمال العراق إذا شاركت ميليشيا «الحشد الشعبي» في عملية طرد «داعش» من مدينة الموصل، و«مصادرة» ما يسمى «حزب الله» المرتبط لمدة تزيد على سنتين بطهران، قرار انتخاب رئيس جديد للبنان، ورفض المتمردين الحوثيين المستقوين بالدعم الإيراني كل المساعي الخليجية والدولية لإعادة الوفاق وتثبيت الشرعية في اليمن، نسلط في ما يلي الضوء على أفراد «مطبخ» سياسات الشرق في إدارة أوباما. مع العلم، أن الأولوية الأولى لأوباما كانت خلال السنوات الأربع الماضي عقد الاتفاق النووي مع إيران.
خلال الأسابيع الأخيرة دأب الرئيس الأميركي باراك أوباما على إعطاء مقابلات تهدف إلى تلميع صورة إرثه السياسي للتاريخ. وكان اللافت المكرّر في هذه المقابلات إشارة أوباما إلى «فريقه» الذي يعتبره أشبه بجزء من «عائلته»، الذي يقول بشيء من الحنين المسبق أنه لن يظل معه بعد مغادرته البيت الأبيض.
الحقيقة أن كل رئيس أميركي، أو على الأقل منذ الرئيس يوليسيس غرانت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان لديه عائلة من المستشارين الموثوقين المقربين، مهمتهم الإحاطة بالرئيس، وصدقه القول والمشورة، وحمايته من خصومه.. بل وأحيانًا من أصدقائه!
وبصفة عامة تضم هذه «العائلة» مجموعة من أصدقاء الرئيس ومساعديه الذين رافقوه من ولايته الأم. وحقًا، عندما جاء الرئيس جيمي كارتر إلى واشنطن فإنه جلب معه ثلة من أبناء ولايته جورجيا ذكّروا نخب العاصمة بريفيي الجنوب الأميركي الطارئين على المدن الكبرى العريقة. ولقد أقرّ أحد هؤلاء، هاميلتون جوردان، وهو أحد أقرب المقرّبين من كارتر ورئيس جهاز البيت الأبيض في عهده، في مذكراته بأنه مدين بتعلمه أصول استخدام الشوكة والسكين لزوجة السفير المصري خلال إحدى المآدب الرسمية.
وعندما جاء رونالد ريغان إلى واشنطن جلب معه أيضًا أصدقاءه ورفاقه من ولايته كاليفورنيا. وفي عهد ريغان، خاصة، ظهر تعبير «المطبخ الحكومي» وراج كثيرًا، وبخاصة أن الرئيس والممثل الهوليوودي السابق اعتاد مناقشة القضايا الكبرى على مائدة في المطبخ مع نفر من أصدقائه الخلّص. وسار الرئيس جورج بوش الابن على خطى ريغان ناقلاً معه إلى واشنطن زمرة من أبناء ولاية تكساس التي كان حاكمًا لها.

مطبخ أوباما السياسي
بناءً عليه، لا غرابة إذن أن يجلب باراك أوباما معه إلى العاصمة الأميركية «مطبخه الحكومي» الخاص. ولكن من هم أفراد هذه «العائلة» التي يجلس أفرادها في هذا «المطبخ»؟
بداية، قبل استعراض الأسماء، لا بد من التطرق إلى بعض النقاط التي تؤكد أن «مطبخ» أوباما يختلف عن «مطابخ» سابقيه.
النقطة الأولى أنه في كل «المطابخ» السابقة كان المقرّبون يتمتعون ببعض الخبرة في المواقع السياسي الحكومية، على الأقل، على مستوى الولايات. وحتى أولئك الذين افتقروا إلى الخبرة الحكومية فإنهم تمتعوا بخبرات في عالمي المال والأعمال التجارية. غير أن «مطبخ» أوباما - كما سنرى - ضم أفرادًا يفتقرون فعليًا إلى الخبرتين السياسية والمالية - التجارية.
النقطة الثانية، أنه في كل «المطابخ» السابقة كان السواد الأعظم من المقرّبين رجالاً ومعظمهم من ذوي المناصب والتخصصات التقليدية والإدارية الراقية. أما في حالة أوباما فإننا رأينا الغالبية من النساء.
النقطة الثالثة، أن غالبية أفراد «المطابخ» السابقة من البيض المتحدرين من أصول أوروبية مسيحية، لكن في حالة أوباما ضمت «العائلة» عددًا كبيرًا من ممثلي الأقليات العرقية، ولا سيما من المتحدّرين من أصول أفريقية. وعكَس اختيار هؤلاء المستشارين المقرّبين إيمان أوباما بما ورد في كتابه «الأمل الجريء»، إذ يقول إن «استهدافًا مكثفًا للعرق الأبيض يشكل ثقلا كبيرًا يمنع مثاليات المسؤولية الفردية والجماعية من أن تجنح وتغرق في خضم اليأس».
أيضًا، كما ورد في كتابيه، حسم أوباما نهائيًا - وكان في العشرينات من العمر - مسألة ما إذا «كان أميركيًا أسود أو أبيض»، واختار في النهاية الجانب الأسود في هويته العرقية.
النقطة الرابعة أن «المطابخ الحكومية» السابقة لرئاسة أوباما برزت فيها تعددية معينة على صعيد مستوى التعليم والحساسيات السياسية للإرادة. ولكن وفق رؤية أوباما، جاء معظم المقرّبين منه من خلفيات حقوقية (قانونية) ومع ميول واضحة إلى يسار الوسط تعود إلى مرحلة شبابهم. ومع أن أوباما كتب في «الأمل الجريء» العبارة التالية: «كنت أرجو لو كان في هذه البلاد عدد أقل من المحامين وعدد أكبر من المهندسين»، فإن فريق المقرّبين منه خلا تمامًا من المهندسين والاقتصاديين.

حساباته.. مع الحزب
مما لا شك فيه، أن أوباما ما كان في بداية عهده واثقا من نفسه، وذلك في ضوء تواضع تجربته السياسية وإدراكه أنه رغم فوزه بالرئاسة فإنه لم يستطع الإمساك كليًا بمقدرات مؤسسة الحزب الديمقراطي. ولذا اختار أن يكون متعاونًا يمد اليد إلى مختلف أجنحة الحزب، بدليل اختياره جوزيف بايدن نائبا له مدركًا افتقار سيناتور ولاية ديلاوير السابق إلى «الكاريزما» والحيوية، اللتين كان من الممكن أن تهددا مكانته الرئاسية.
أيضًا عيّن أوباما منافسته السابقة هيلاري كلينتون وزيرة للخارجية بهدف «شراء الوقت» الكافي لفك مفاصل الماكينة الحزبية التي بناها زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون خلال فترتين رئاسيتين. ثم اختار روبرت غايتس، مدير «السي آي إيه» الباهت السابق وأحد رجال مرحلة حكم الجمهوريين في عهد بوش وزيرا للدفاع. وتيموثي غايتنر، أحد المحسوبين سابقًا على شلة بوش، وزيرا للمالية.
ولكن بعد مضي ثماني سنوات، يتأكد أن الرئيس لم يرد أبدا جعل أي من هؤلاء جزءًا من بطانته.. أو «عائلته»، أو يعطيهم أي قدر من النفوذ.

ميشيل.. وفاليري جاريت
من هم إذن أفراد «عائلة» أوباما السياسية التي سيفتقدها عندما يغادر الرئاسة؟
على رأس القائمة تأتي زوجته ميشيل. الشخصية اللامعة النافذة التي تألقت بوصفها «سيدة أولى» وحظيت باحترام عظيم أسهم كثيرًا في إكساب رئاسته احترامًا واسعًا. وخلال مقابلة أجريتها مع القس جيسي جاكسون، في منتجع إيفيان الفرنسي، قال الناشط والمرشح الرئاسي الديمقراطي السابق الذي كان له الفضل في تعريف أوباما على زوجة المستقبل، إن ميشيل هي «حامية» هوية أوباما «السوداء». وبعد مرور ثماني سنوات تؤكد ميشيل أوباما أكثر أهميتها، بجانب تذكيره بمعاناة الأميركيين السود، وهي معاناة لم يعرفها أجداد زوجها من شعب اللوو في أفريقيا.
بعد الزوجة اللامعة، ضمن كبار المؤثرين داخل «العائلة»، المحامية فاليري جاريت، المولودة في مدينة شيراز عاصمة فارس بجنوب إيران، عندما كان والداها الأسودان يعملان في أحد مستشفيات المدينة. ولقد أصبحت جاريت صديقة شخصية لميشيل أوباما إثر موافقتها على طلب توظيفها في بلدية مدينة شيكاغو حيث كانتا تعيشان. وتنسجم جاريت تمامًا مع البعد الكوزموبوليتاني العالمي لـ«العائلة» التي تشكل «المطبخ السياسي» لأوباما، وهذا ليس فقط بسبب مولدها في إيران، بل لنشوئها هناك وإجادتها اللغتين الفارسية والفرنسية نتيجة ظروف حياتها لفترات غير قصيرة خارج الولايات المتحدة مع ذويها. أما منصب جاريت الفعلي فمحاط بشيء من الغموض المثير، إذ إنها رئيسة مكتب التواصل والشؤون «بين الحكومية»، والمستشار الخاص للرئيس.
لكن فاليري جاريت في واقع الأمر أكثر تأثيرًا بكثير مما يوحي منصباها. وكان من مؤشرات أهميتها في «مطبخ» إدارة أوباما قيادتها مسيرة ما يعرف بـ«مشروع إيران» الذي همّش معه سيد البيت الأبيض كلاً من مجلس الأمن الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية والكونغرس الأميركي، بل وحتى البرلمان الإيراني، للخروج بصفقة «الاتفاق النووي» مع إيران، التي لم يوقعها أحد ولم تخضع لأي مسار تشريعي.
ولإرسال رسالة صداقة إلى إيران، مارست جاريت نفوذها أيضًا لبناء شبكة تضم مسؤولين أميركيين وإيرانيين وعاملين داخل البيت الأبيض، بالإضافة إلى المساعدة في الترويج لـ«اللوبي الإيراني» الذي أسس في واشنطن إبان رئاسة محمود أحمدي نجاد بهدف تلميع صورة إيران في الولايات المتحدة.

رايس وباور
بعد جاريت، من حيث الأهمية في «المطبخ الحكومي» تأتي سوزان إليزابيث رايس، المحامية السوداء، التي مع أنها ولدت في العاصمة واشنطن، فإنها مثل باراك أوباما وفاليري جاريت، لديها جذور وصلات عائلية خارج الولايات المتحدة، في هذه الحالة في جامايكا. ولقد كانت رايس وما زالت من مستشاري أوباما المفضلين للشؤون الخارجية منذ أطلق حملة ترشحه للرئاسة عام 2008. بعد ذلك تولت منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي، ثم السفير في الأمم المتحدة، ثم عادت رئيسة لمجلس الأمن القومي.
ثم تأتي ضمن «العائلة» و«مطبخها الحكومي» سامانثا باور، وهي محامية أخرى، وتتقاسم مع أوباما وجاريت ورايس البعد «العالمي» لخلفيتها العائلية. فهي من مواليد آيرلندا لعائلة آيرلندية كاثوليكية. ولقد عملت في الصحافة، وضمن فريق السياسة الخارجية التابع للبيت الأبيض، وهي اليوم السفيرة في الأمم المتحدة. ووفق الكتب التي ألفتها باور، فإنها تتشارك مع الرئيس منظور «العائلة» ومبادئها وأولوياتها في مجال العلاقات الخارجية، وعلى رأسها أن الولايات المتحدة كانت غالبًا قوى متغطرسة متسلطة على المسرح العالمي ومتجاهلة للمصالح المشروعة للدول الأخرى، ومن ثم، يتوجب على واشنطن - في عهد أوباما - أن تمارس الانكفاء وتحاول التعويض عن الأضرار التي ألحقتها بتلك الدول عبر العقود.

الأزمة السورية
وحقًا، كان هذا الاعتقاد المنظومي والمفهومي الراسخ مسؤولاً بدرجة كبيرة، حتى عن محاولة إدارة أوباما فهم طبيعة الأزمة السورية منذ تفجرت في العام 2011. وبالمناسبة، خلال عام 2012 أتيحت فرصة لإنهاء الأزمة السورية عبر مساومات يجري التفاوض عليها مع بشار الأسد من خلال وسطاء سوريين ولبنانيين، يتنحى بموجها رأس النظام جانبا من دون أن يستقيل، ومن ثم يتاح تشكيل سلطة انتقالية تعمل على رعاية مصالحة وطنية وإجراء انتخابات تعددية حرة.
واللافت أن مجموعة المولجين بملف سوريا في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الأميركية أيدت هذه المبادرة التي كان من الممكن أن تنجح أو لا تنجح. لكن أوباما قرر رفض المبادرة معلنًا: «على الأسد الرحيل»، مع أنه رفض أيضًا أي خطوات تجبر حاكم دمشق على ذلك. في صميم ما حدث كان «الثلاثي» النسوي جاريت ورايس وباور.

الآخرون النافذون
«العائلة» تضم أيضًا رجلين نافذين إلا أن نفوذهما أقل من «ثلاثي» السيدات السابق الذكر، وهما جايك سوليفان وبن رودز.
سوليفان (40 سنة) محام من أصل آيرلندي ضمن فريق نائب الرئيس جو بايدن مستشارا لشؤون الأمن القومي وهو موقع قرّبه من الدائرة الصغرى المحيطة بالرئيس وأدخله بالتالي «العائلة». أيضًا عمل سوليفان في مرحلة من مسيرته مع هيلاري كلينتون إبان حملتها الرئاسية عام 2008. ورشحه كثيرون لمنصب رئيس جهاز مجلس الأمن القومي في حال فازت هيلاري يومذاك ودخلت البيت الأبيض.
بعدها لفت سوليفان نظر فاليري جاريت لدى مشاركته في مفاوضات مسقط السرّيّة مع إيران، إبان حكم أحمدي نجاد في طهران. وتبعًا للدكتور علي أكبر صالحي وزير الخارجية الإيراني يومذاك، كان على سوليفان تقديم التنازلات بسخاء. ومما قاله صالحي في هذا الصدد: «عندما أبلغنا المرشد الأعلى بما يعرضه الأميركيون علينا في مسقط فوجئ ولم يصدق».
وأخيرًا، هناك بن رودز (39 سنة) نائب رئيس مجلس الأمن القومي لشؤون الاتصالات الاستراتيجية. وهو حسب اعترافه، روائي فاشل، لكنه حاول إعادة كتابة تاريخه عبر محاولة خداع الإعلام الأميركي بما بات يعرف بـ«الصفقة النووية» مع إيران. ولقد بدأ رودز مسيرة صعوده عندما جرى تعيينه ضمن كتّاب خطب أوباما عام 2007 مع بدء الأخير إعداد نفسه للترشح للرئاسة في العام التالي. ويقول عنه من التقوا به خلال زيارة قام بها إلى لندن عام 2009 إنه رجل مزهو بنفسه بصورة مفرطة.
إلا أن أوباما منح رودز فرصة ذهبية لتعزيز هذا الزهو عندما كلفه بكتابة خطابه الشهير في العاصمة المصرية القاهرة الذي عرف بـ«خطاب القاهرة». وبالفعل، صال رودز وجال في هذا الخطاب، موظفًا تعابيره الإنشائية الروائية لتمرير رسالة إلى القوى الإسلامية في مصر، جوهرها أن واشنطن قررت التخلي عن حليفها القديم الرئيس حسني مبارك، وستكون مستعدة للتعاون مع حكومة على رأسها «الإخوان المسلمون».
وحتى اليوم، يُتهَّم رودز بأنه الشخص الذي أقنع أوباما بـ«طعن مبارك في الظهر»، مع أن في هذا الاتهام مبالغة في تصوير حقيقة نفوذ رودز، ذلك أن القرار الحاسم وراء تغيير واشنطن سياستها بعيدًا عن حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط والتوجه نحو تحالف وهمي مع إيران كانت خلفه فاليري جاريت وسوزان رايس، وبادر أوباما بسرعة إلى اعتماده.
أخيرًا، فضلاً عمّن ذُكرت أسماؤهم، يقف بجوار «العائلة» عدد من «المصفقين»، أبرزهم رئيس جهاز البيت الأبيض دينيس ماكدوناه، الذي تمكن أحيانًا من لفت نظر الرئيس إلى الحقائق خارج شرنقة «العائلة». وبيتر لافوي، كبير مديري مجلس الأمن القومي، الذي أدلى بدلوه في شؤون الهند وباكستان. وروبرت مالي، الأميركي - المصري الأصل، وهو محام وأكاديمي ذو خلفية ملوّنة جدًا تحكم نظرته إلى السياسة العالمية «صورة عقد الستينات» من القرن الماضي، وفيها يرى أن أميركا كانت قوة للشر أكثر منها للخير.
هذه هي «العائلة» التي سيفتقدها الرئيس أوباما والتي أسهمت إسهامًا كبيرًا في أوضاع الشرق الأوسط الراهنة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.