الستينات.. مرحلة النقاء الثوري الرومانسي

«هل قلت إنك تريد ثورة؟».. معرض في فيكتوريا وألبرت لندن

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

الستينات.. مرحلة النقاء الثوري الرومانسي

جانب من المعرض
جانب من المعرض

تعتبر فترة الستينات من القرن العشرين، وخاصة فترة الخمس سنوات 1966 - 1970 مرحلة تحوّل نوعي في ثقافة المجتمعات الغربيّة، وانعطافة مهمة في السياسة والاجتماع والثقافة الشعبيّة والفنون على مستوى العالم كلّه. كانت فرقة البيتلز البريطانية بالذات رمز تلك المرحلة، ليس في الموسيقى والغناء فحسب، بل وفي كافّة مناحي حياة جيل الشباب - الأوروبي أساسًا - في نمط رومانسي غاضب، ثوري النزعة، متحرر من القيود التي تربى عليها جيل آبائهم، لتكون ذروتها الثورة الطلابيّة في فرنسا 1968 التي أسقطت جمهوريّة ديغول. في تلك السنة، وانطلاقًا من جامعة السوربون بباريس ثم عبر فرنسا كلها، وألمانيا قبل أن تعبر الأطلسي. شهدت جامعات المدن الكبرى حركات احتجاجيّة واسعة غير مسبوقة، التحمت بالحركة المناهضة للحرب على فيتنام في جامعات الولايات المتحدة الأميركيّة، وتحولت في بعض الأحيان إلى أعمال عنف واسعة واشتباكات مع الشرطة والحرس الوطني وما لبثت أن انتقل صداها إلى بقيّة أنحاء العالم.
متحف فيكتوريا وألبرت اللندني - أكبر متحف للفنون الجميلة في العالم - يحتفل بهذه المرحلة التأسيسية من خلال معرض استعادي خاص يستمر حتى 26 فبراير (شباط) العام المقبل تحت عنوان «هل قلت إنّك تريد ثورة؟ تسجيلات وثوار 1966 - 1970».
ضم المعرض مئات القطع المتنوعة شديدة الطّرافة التي تعكس ثقافة وأجواء تلك المرحلة: بزّة رجل فضاء من وكالة الناسا تماثل تلك التي استخدمت من قبل الفريق الذي هبط على القمر، النسخة التجريبية من أول فأرة (ماوس) كومبيوتر، قائمة تسوّق كتبها طلاب ثائرون خلف أحد متاريس باريس 1968، عشرات الإسطوانات الفينيل للبيتلز وللرولينغ ستونز، وصحف اصفرت أوراقها من إصدارات تلك الفترة، ومئات غيرها من المواد التي تكشف كيف كانت تلك الأيام حافلة بالتحولات الصاخبة على مختلف الأصعدة. وقد حاول منظما المعرض باختياراتهما من هذه المواد الشديدة التنوع تصوير روح الشباب المثالي الثائر في فترة خمس سنوات حرجة غيّرت العالم، وما رافقها من عنف وصدامات قاسية أحيانًا. في بريطانيا مثلاً كانت عقوبة الإعدام بداية الستينات لا تزال تنفّذ، ويعمل بها في المحاكم، وكان قانونيًا تمامًا دفع رواتب أقل للنساء من الرّجال لأداء نفس الواجبات. لقد كانت الروح الموحّدة لكل ثورات الشباب هذه إدراك الجميع أن المنظومات الحاكمة في الغرب لا تمتلك بالضرورة كل الإجابات، وأنه لفرض التغيير لا بدّ أن تبدأ بنفسك وتتوحد مع الآخرين لمواجهة هياكل القوى المهيمنة على المجتمعات.
ويبدو المعرض الحالي قد استفاد من الكنوز الفنيّة الهائلة التي يمتلكها متحف فيكتوريا وألبرت لتقديم تمثيل أوسع عن مرحلة الستينات في التصميم والفن والأزياء والمطبوعات والمسرح والأعمال الهندسيّة مقارنة بالمعرض المماثل الذي قدّمه مركز بومبيدو في باريس، والذي سيستمر حتى الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل وبدا شديد التواضع مقارنة بمعرض لندن، هذا بالطبع مع استعارة بعض الأعمال الهامّة من مؤسسات ثقافية ومتاحف حول العالم.
مدخل معرض «هل قلت أنّك تريد ثورة؟» بدا وكأنّه استعادة لشارع كارنابي: القلب التجاري لحي سوهو اللّندني في أجواء 1966 الشديدة التقلّب، ثم استعراض لثقافة الهبيين الواسعة الانتشار في 1967، ورصد لتأثير انتشار المواد المخدرة والعقاقير المسببة للهلوسة على الموسيقى والأزياء والحياة الاجتماعيّة للشباب البريطاني. يغطي المعرض الأجواء السياسية المصاحبة لهذه التحولات الثقافية والاجتماعيّة مثل ثورة الطلاب الفرنسيين بداية في 1968، وحركة الحقوق المدنيّة في الولايات المتحدة، والحراكات المناهضة للحرب كما حركات حقوق النساء والمثليين، وذلك من خلال صور وبوسترات وأفلام ومواد مختلفة.
وفي المعرض نماذج من أزياء مضيفات طيران (البان آم)الأميركي من تلك المرحلة، سواء في نسختها المدنيّة أو تلك العسكريّة التي ارتدينها في الرحلات المخصصة لنقل منتسبي الجيش الأميركي إلى فيتنام.
هناك أيضًا مجموعات من الصور لكرنفالات موسيقيّة ضمت أعدادًا هائلة من الشباب وقتها، وأخيرًا نماذج تعبر عن مجتمعات بديلة سواء واقعيّة أو خيالية في ظل هوس شديد في تلك المرحلة باستكشاف طرق أكثر تحررًا للعيش من المدن الحديثة المكتظة وغير الإنسانيّة. أيضًا، هناك عدد من فيديوهات ثمينة - بعضها نادر - تسجّل حفلات وأحداث فاصلة تعرض على أحد حوائط المعرض.
ولاستحضار الأجواء الكليّة للمرحلة الهامة، نسمع موسيقى البيتلز أو تسجيلا لخطاب مدوٍ لمارتن لوثر كينغ في لميكروفونات الخاصة التي يحملها الّزوار بينما هم يتجولون في الأرجاء، ودائمًا بحسب المجسات التي تقرأ حركتهم وتقرر المناخ الصوتي المناسب ليصاحب العمل البصري بحيث تكتمل تجربة الحواس صوتيًا أيضًا.
يلاحظ في الأعمال المعروضة عمومًا تمحورها حول لندن ونيويورك وسان فرانسيسكو، مع إشارات محدودة لمدن وأماكن أخرى لا شك هي عاشت بدورها في أجواء التحولات. الستينات في العالم العربي مثلاً كانت أيام السد العالي، والثورة الجزائريّة وانطلاق العمل الفدائي الفلسطيني وغيرها، وكلّها أحداث كان لها صدى عالمي في السياسة والثقافة والاجتماع، ولم يوفها المعرض حقها.
مع ذلك، فقد نجح بشكل كبير في تقديم استعراض متكامل للثقافة الشعبيّة للمرحلة من خلال اختيار ذكي لتشكيلة المواد المعروضة، كذلك من خلال الإضاءة على تأثيرات نتاج تلك المرحلة على أيامنا المعاصرة ليس فقط في السياسة والثقافة وإنما في شؤون البيئة وأنظمة العيش البديلة والتكنولوجيا الرّقميّة. وهو حصل على تقريض من النقاد في الصحف البريطانيّة والأميركيّة رغم أن بعضهم وإن أبدى إعجابه بالمعرض إلا أنه كانت له شكوك بالدّوافع والمحتوى الثقافي لثورات تلك المرحلة.
جدير بالذّكر أنه وعلى هامش المعرض سينظم متحف فيكتوريا وألبرت في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل مؤتمرًا دوليًا ليوم واحد لاستكشاف كيف كانت تلك الأيام الحافلة بالتغيير في نهاية الستينات أساسيّة في تشكيل حياتنا المعاصرة وسيصار فيه إلى مناقشة الاستجابات الثقافية المضادة للثقافة الرقمّية، الآيديولوجيا في السياسة، استخدام العقاقير المسببة للهلوسة وقضايا البيئة وغيرها من قبل مجموعة مختارة من الأكاديميين والأدباء والصحافيين والخبراء المعنيين بالثقافة الشعبيّة. كما وصدر عن المعرض كتاب مجلّد بطبعة فاخرة في 320 صفحة يحمل ذات اسم المعرض، ويضم نماذج ممثلة لمرحلة الستينات من التصميمات والمفروشات والأزياء واللوحات والمهرجانات والبوسترات وصورًا للشخصيات والأحداث التي طبعت الستينات بطابعها.
اللطيف أنه لوحظ إقبال واسع على المعرض في أيامه الأولى من قبل جيل كبار السن الذين عاصر بعضهم أحداث الستينات الكبرى. المعرض بالنسبة لهؤلاء كان بمثابة رحلة في الزمن إلى أيام الشباب، لكنه أيضًا بدا قادرًا على استقطاب الجيل الجديد، الذي يبدو أنه أيضًا مثل جيل الستينات العجوز يرى تلك المرحلة بوصفها مرحلة النقاء الثوري الرومانسي.



ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»
TT

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

ثلاثية الحب والحرب والفقر في «سنوات النمش»

بعد تطواف روائي بين تونس في «باب الليل»، وسوريا في «حذاء فلليني»، يعود الروائي المصري وحيد الطويلة في روايته الأحدث: «سنوات النمش»، إلى عالمه الأثير في القرية المصرية، تلك التي عايَن بعض جوانبها في روايات سابقة، مثل «أحمر خفيف» و«الحب بمن حضر»، وفي كل مرة يقدم هذه القرية من منظور مغاير، مكتشفاً جانباً جديداً من قوانينها وجمالياتها، وقواعدها الصارمة ظاهرياً. هذه القواعد والتقاليد نفسها التي لا يتوقف أهل القرية عن انتهاكها سراً، في تواطؤ ضمني مفضوح يعرفه الجميع، لكنهم لا يجرؤون على الإفصاح عنه وإعلانه.

«سنوات النمش» (الصادرة عن «دار المحرر») يشير عنوانها إلى البقع التي تعكِّر البياض، أو اللون الأصلي، فكأن الراوي يرصد السنوات التي كانت مليئة بالبقع في حياته وحياة قريته وناسها، وتدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا، شمال القاهرة، عبر راوٍ طفل يسرد الأحداث كلها بعينيه ورؤيته؛ فهو راوٍ مراقِب ومشارِك ومتورِّط؛ إما في الأحداث بشكل مباشر، أو بتعاطفه مع حدث هنا أو هناك، حتى ما وقع قبل ولادته، ويظل يكبر مع الأحداث متابعاً هذه القرية البعيدة عن سيطرة الحكومات المتعاقبة واهتماماتها، أو كما يعتبرها أهلها «على شمال الدنيا»، وأنها ليست موجودة على الخريطة؛ فهي قرية غارقة في الجهل والمرض والخرافة.

زمنياً، يغطي فضاء الرواية المساحة منذ الأربعينات تقريباً، وحتى نهاية القرن العشرين، حين نرى الراوي الطفل وقد صار شيخاً كبيراً يزور المعالم الأثرية في الأقصر مع ابنتيه الشابتين، ويغني مع المغنين الشعبيين. وطوال هذه الفترة ترصد الرواية تحولات هذه القرية منذ العهد الملكي، حين كانت براري لا يسكنها سوى اللصوص وقُطّاع الطرق؛ إذ كانت اللصوصية المهنة الأشهر التي تتباهى بها عائلات القرية، مروراً بثورة يوليو (تموز) وزعامة جمال عبد الناصر، وصولاً لمرحلة الرئيس الأسبق أنور السادات، وانعكاس هذه التحولات السياسية الكبيرة على القرية وقاطنيها.

رواية الطفل للأحداث منحت السرد قدرة كبيرة على الفضح والتعرية، وكشف علاقات الحب الخفية، وما ينتج عنها أحياناً من صراعات، يكون الحب سببها الحقيقي المضمر، الذي يعلمه الجميع، لكن كل أطراف الصراع تدّعي أسباباً أخرى معلنة.

هذه القدرة الطفولية على الفضح منحت السرد قدراً كبيراً من السخرية والكوميديا، فالفضح بطبيعته له سمت كرنفالي ساخر وكوميدي، أقرب إلى المسخرة؛ فمن يبدو في الظاهر وقوراً نرى (بعين الطفل المندهش) باطنه المتهتِّك المحتجب عن الجميع.

قدرة الراوي الطفل على الفضح والتعرية، تطال حتى أخته، كاشفاً عن مدى عشقها للتحكُّم والتسلُّط؛ إذ يمنحها القدر فرصة لممارسة ميولها السلطوية الكامنة فيها، عبر زواجها من ضابط طيب يستجيب لكل طلباتها، فتجد الفرصة سانحة لتمارس أدواره الرسمية في غيابه، فتعطي هي الأوامر للعساكر، وتتواصل مع مديرية الأمن نيابة عنه، كاشفة عن جانبها المتسلِّط الكامن فيها، الذي ما يني يجد نافذة صغيرة لينشط، معلناً وجوده وتمدُّده، حتى إنها تنتظر عودة زوجها الخاضع لسطوتها حباً فيها، لتمارس عليه سطوتها، وتمسك بالميكروفون كأنها ديكتاتور يخطب في شعبه الخاضع، ويكون هو كل جمهورها ورعيتها.

ثمة جانب آخر، تفضحه الحكاية، أو الحكايات التي تترى في تتابع مدهش، وهو الجانب الذكوري المسيطر على هذا العالم القروي البسيط، ممثلاً في استئثار الرجل بالمواريث، ومنع الميراث عن المرأة، فضلاً عن رفض كثير من الرجال أن تتزوج شقيقاتهم، ويكون المعلن أن هذا الرفض بسبب عدم خروج الميراث لرجل غريب، لكن السبب المضمر هو رفض الرجل أن يطأ رجل غريب شقيقته. لكن رغم هذه الذكورية المهيمنة، ثمة تمثيلات على التمرُّد النسوي لكسر هذه القواعد الذكورية المتصلبة، مثل العمة فريال، العزباء التي تصدم الجميع، وتخترق الأعراف والمواضعات الاجتماعية، وتعلن رغبتها في الزواج ثانية، بعد طلاقها من زوجها اللص، ولا تكتفي بإعلان هذه الرغبة التي تنتهك السائد، بل تمعن في التحدي، ولا تكف عن البحث بنفسها عن عريس.

يعتمد الراوي على صيغة الحكي الشعبي الشفاهي؛ فتبدو الرواية كلها وكأنها سلسلة محكيات يرويها الطفل (بعدما كبر) فيستدعي حياته وعلاقاته وما رآه وسمعه في القرية وعنها وعن شخوصها طوال طفولتها، بطريقة أقرب إلى جلسات السمر واستدعاء الذكريات بشكل شفاهي، دون أن يحكمه رابط واضح، فالحكايات تتناسل، دون التزام بتتابع زمني دقيق؛ فقد تأتي حكاية حديثة عن الأب، ثم تتلوها حكاية عن الجد، ثم حكاية عن أحد أصدقاء الطفولة، وحكاية أخرى عن إحدى العمات، فحلقات الحكي تتداخل وتتابع بلا تخطيط مسبق، وتتمثل شفاهية الحكي في أن الراوي قد ينسى بعض الذكريات، وسرعان ما يتذكرها، مثلما يقول في أحد المواضع: «كنت وأبي على الطريق، لا أتذكر إلى أين... لا، لا، تذكرت الآن، كنا في نهاية فقرة من فقرات الشتاء المتقطعة، يغزونا المطر ثم يتوقف ليومين»... هذه الآلية في إعلان النسيان والاستدراك بالتذكر، آلية شفاهية بامتياز. فضلاً عن بدء التذكر بالأجواء والطقس والمطر، وكأن الراوي يعيد تذكر المشهد كاملاً بصرياً، وأنه يحدث الآن أمام عينيه؛ فالحكاية لا تكتمل إلا بتذكُّر تفاصيلها كاملة، بأجوائها، وبتعبيرات الوجوه أحياناً؛ فهو دائماً يرسم مشاهد بصرية مكتملة، ليضع المتلقي الضمني، في قلب الحدث والحكاية.

حكاية القرية، أو مجموع الحكايات الصغيرة التي تشكل عبر تضافرها حكايتها ككل (بما فيها من علاقات حب وصراعات عائلية، وثارات وفقر وحفاء، وطموحات وانكسارات للشخوص الأفراد من آحاد الناس) لا تنفصل عن حكايات أكبر، فحكايتها محض دائرة صغرى، تحتويها دوائر أكبر، منها حكاية الوطن وتحولاته السياسية، من ملكية، إلى نظام جمهوري وأحلام القومية العربية، وتعلّق الأب بزعامة عبد الناصر، ثم مرحلة الانفتاح، وهناك أيضاً دائرة الحروب، بدءاً من الاحتلال الإنجليزي وآثاره الممثلة في بعض الطرق والكباري التي شُيّدت في ظل حكم الاحتلال، ثم حرب فلسطين، ونكسة 67، وصولاً إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73؛ فهذه دائرة أخرى تلقي بظلال تحولاتها على دائرة حكاية القرية. ثمة دائرة عربية لا تنفصل عن الدوائر الأصغر، تتجلى أحيان عبر سفر أحد أقارب الطفل الراوي إلى الشام وإقامته في لبنان فترة طويلة، ثم فراره منها قبل الحرب الأهلية، وعودته إلى قريته/ وقوقعته؛ إذ تنكمش أحلام أبناء القرية، في استعارة لانكماش الأحلام العربية الكبرى تحت وطأة الحروب والنزاعات الطائفية والقومية، وعودة كل شخص للانزواء والتقوقع في قريته/ طائفته/ قوميته، حتى لو لم يكن متناغماً معها، بعد تبدُّد حلم اندماج الجميع في كلٍّ جامع.

ثمة ملمح آخر يتصل بكسر تخييلية الحكاية، وإيجاد صلة بها بالوقع المعيش؛ فالرواية رغم كونها بالأساس عملاً تخييلياً، فإنها المؤلف يتعمد (كعادته) خلق وشائج تربطها بالواقع السياسي والثقافي والفني، كما فعل في «جنازة جديدة لعماد حمدي» التي جعل اسم بطلها على اسم النجم السينمائي الشهير، أو «حذاء فلليني» التي تحيل للمخرج الإيطالي الشهير، فإنه (هنا) في «سنوات النمش» يجعل اسم أحد أبطال الرواية «القذافي»، وهو شخصية نرجسية بامتياز في روايته، ويعاني جنون عظمة واضحاً، ويجعل اسم شقيقه «العكش»، في إشارة للاسم الذي أطلقه المصريون على إعلامي شهير، إضافة إلى حيلة أخرى؛ فقد أراد والد الراوي إنشاء مدرسة في القرية، واشترطت عليه الدولة وجود 30 طالباً لإطلاقها، فلم يجد سوى 23 طفلاً، فاضطر لتزوير شهادة ميلاد لطفل متخيَّل باسم وهمي، فجعل اسم هذا الطفل غير الموجود «خيري شلبي». وبالطبع لا يخفى أن هذه ليست مصادفة، بل أقرب إلى تحية لاسم الروائي الكبير الراحل خيري شلبي، ابن قرية بالمحافظة نفسها، كما أن الإحالات لأسماء واقعية شهيرة توجِّه القارئ إلى أن العمل الروائي المتخيَّل غير منقطع الصلة بالعالم والواقع من حوله؛ فهو تمثيل لهما، وترتبط به بدرجة ما، رغم اعتماد المنطق السردي على الاسترسال الحكائي، الذي يفيد من تقنيات الحكي التراثية في «ألف ليلة وليلة»؛ حيث امتزاج الواقعي بالغرائبي، وتناسل الحكايات من بعضها، مشكلة في النهاية من هذه الطبقات الحكائية حكاية كبرى، أشبه بجدارية ضخمة، تؤرخ لقرية مصرية «على شمال السما» ظلّت عقودا رازحة تحت وطأة الفقر والجهل والمرض.