جمد التفكير الفلسفي بعد اليونان أجيالا طوالا، حيث كانت الكلمة العليا للدين الذي بسط سلطته على القلوب والعقول. فلما أقبل عصر النهضة في أوروبا كان العقل قد بدأ يستيقظ عن طريق بعث الآداب والعلوم اليونانية والرومانية والإسلامية. ومن خلال المنجزات العلمية الكبيرة التي عرفها ذلك العصر، اكتملت أسباب اليقظة والجرأة، واستغرق العقل في حب الاستطلاع الحر، وازدادت الرغبة في العلم وحب الجمال، ونبذ العقائد المتعسفة. فشكلت إيطاليا وفلورنسا، مدينة آل ميديتشي، منطلق هذه الحركة، قبل أن تنضم إليها مدن أخرى في فرنسا، وإنجلترا، لتؤسس ما سوف يعرف بالنزعة الإنسية. والنزعة الإنسية، هي تلك المرحلة من تاريخ الإنسانية، حيث سيتركز التفكير على إعادة الاعتبار للإنسان، وإرجاعه إلى موطنه الأصلي مركزا للكون، وكائنا له كل القدرة على الحرية والفعل والإبداع والخلق، بعدما ضاع داخل البناء التراتبي الكوسمولوجي لدى اليونان، أو لصالح قوى لاهوتية أعتى منه، اعتبرت الإنسان مجرد حلقة ضعيفة، تثبت في نظام الكون الكبير، المرمم والبديع الصنع، ومن ثم فكل محاولة لتجاوز هذا الموضع، تعتبر تحديا للكون والإلهة، ما يوجب الحد والعقاب.
عندما يتم استحضار هذه الحقبة من التاريخ الإنساني، فغالبا ما يتم الحديث عن ليوناردو دافنشي، وجيوردانو برونو، ودانتي أليغيري، وإتيان لابويسي وغيرهم. إلا أنني في هذا المقال قد آثرت الحديث عن واحد من أهم رواد هذه النزعة، وهو الأديب والفيلسوف الإيطالي واللاهوتي جون بيك دولاميراندول، مؤسس النزعة الإنسية، الذي ظل اسمه مغيبا، وواضع لبناتها الأساسية التي سيتم البناء عليها، نحو الإعلاء من قيمة الإنسان وحريته وكرامته.
ولد بيك دولاميراندول سنة 1463 بمدينة مودينا الإيطالية، من أسرة ميسورة الحال. نشأ وتعرف على أهم المذاهب الفلسفية واللاهوتية التي تميز بها عصره: الأفلاطونية المحدثة، والسقراطية، والفلسفة السيكولائية (المدرسيّة)، والأديان، بما فيها اليهودية والإسلام. أما حياته، فقد تميزت بنوع من القصر والزخم، والتنقل الكثير. فقد تعرض للسجن، وعانى من الضيق، خصوصا من طرف السلطة الدينية، ممثلة في المؤسسة البابوية، التي كانت تتحكم بكل شيء آنذاك، حتى توفي في سنة 1494، وهو في عز الشباب، وهناك احتمال أن يكون مات مسموما، بسبب آرائه المثيرة للجدل.
تكمن أهمية جون بيك دولاميراندول، في مقال قصير نسبيا من ثلاثين صفحة بعنوان «مقال في الكرامة الإنسانية»، كان قد كتبه سنة 1486 وهو في سن الرابعة والعشرين، وترجمته أخيرا إلى اللغة العربية، آمنة عبد الحميد جبلاوي، وصدر عن مؤسسة الديوان للنشر.
في مقاله ذلك، المستمد من أسطورة أفلاطونية رائعة، هي أسطورة برومثيوس، يحاول جون بيك دولاميراندول، التأصيل للوجود الإنساني، بكل ما يتميز به هذا الإنسان من خصائص ومقومات الكرامة والحرية، في وقت كانت فيه النظرة السائدة إلى الإنسان غير دقيقة. لم يقبل جون بيك دولاميراندول، الفكرة القائلة بأن عظمة الإنسان تكمن في كونه حلقة وسطى بين المخلوقات، أي أنه أعلى من البهائم مرتبة وأدنى من الملائكة. فهذا التحديد في نظر بيك دولاميراندول لا يشرف الإنسان ولا يمنحه أي قيمة تذكر. وإذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية، لكانت الملائكة هي الأحق بالإعجاب، وذلك أمر بسيط، فهي أعلاه شأنا ورفعة.
يصوغ دولاميراندول تأمله حول الإنسان، فيحكي لنا قصة خلقه، ويعتبر بأن الله قد خلق العالم ونظمه وزينه، وخلق كل الكائنات ومنحها ماهية محددة ونهائية، ووجودا لا يتغير. إلا أنه في المقابل، تمنى أن يكون هناك كائن قادر على التأمل والتفكر في هذا البناء البديع الصنع، فلم يكن إلا الإنسان وحده القادر على الاضطلاع بهذه المهمة، على اعتبار أن كل الكائنات الأخرى عاجزة عن ذلك، لأنها مخلوقات مبرمجة مسبقا، ومحددة بالكامل، من خلال ماهية معينة ليس بإمكانها أن تحيد عنها. فقضى الله ألا يمنح الإنسان أي طبيعة نهائية، أو هبة محددة. لذلك وضعه في مركز العالم، وفي موقع يكون، من خلاله، قادرا على أن يحتل أي منزلة أو موقع يختاره انطلاقا من إرادته الحرة. فلم يكن الإنسان، لا من موقع الأرض ولا من موقع السماء، كي يتمكن بشرفه وحرية اختياره، من إعادة تشكيل ذاته كما يشاء، فكأنه يخلق نفسه، يبني ذاته أو يهدمها، ويدنو لمرتبة البهائم أو يسمو ليقارب الآلهة. فقوة الإنسان تكمن في كونه لا يتوفر على أي طبيعة نهائية، وبالتالي فهو تبعا لذلك حر، وحريته هذه، هي كرامته التي يسمو بها أعلى من الملائكة التي لا يمكن أن تكون إلا ملائكة.
يسترجع الفيلسوف الفرنسي، لوك فيري هذا المقال في كتابه: «قصة الفلسفة.. أجمل قصة في تاريخ الفلسفة»، الصادر عن دار التنوير للنشر 2015، من ترجمة محمود بن جماعة، محللا أبعادها الفلسفية العميقة، ومعتبرا أن دولاميراندول هو مؤسس النزعة الإنسانية الأول، وباعث إنسان عصر النهضة الجديد، الذي من خلاله سوف يولد الإنسان الحر، الذي سيستمر في البناء والتشييد، مؤمنا بذاته وقدراته على الفعل والصنع، وذلك لمجموعة من الاعتبارات، التي يمكن أن نسوقها فيما يلي:
أولا: أكد جون بيك دولاميراندول، على غياب طبيعة إنسانية، بمعنى أنه لا وجود لأي نظام طبيعي يكون الإنسان ملزما بالامتثال له. وهي فكرة سنجدها بعد ذلك عن روسو وكانط وسارتر، ما يعني أن بوسع الإنسان التخلص من كل محدد مسبق لأنه حر. ولأنه حر، فله حقوق لا بد من حمايتها، وله تاريخ هو ما حققته حريته من إنجازات في كل ميادين الحياة، مثل الفنون والعلوم والعادات.
ثانيا: جون بيك دولاميراندول، هو من سيصوغ، لأول مرة، بصراحة، الفكرة الحديثة عن الحرية. بمعنى القدرة على التخلص من القواعد، سواء كانت قواعد المجتمع أو الطبيعة. وهي الفكرة التي ستشق من بعده الفلسفة الحديثة، وحتى المعاصرة، باعتبارها المبدأ الأساسي، الذي لم تنفك الإنسانية تعتمد عليه منذ ذلك الحين.
ثالثا: أسس بيك دولاميراندول فكرة كرامة الإنسان، انطلاقا من إرادته الحرة. وهي الفكرة التي تضع الإنسان خارج الطبيعة. فكون الإنسان في المرتبة الوسطى، يجعله مثيرا للإعجاب، ويعطيه سمة مميزة هي الحرية، لا الحيوانات ولا حتى الملائكة، قادرة على التفاخر بها. فالملائكة ليست حرة، وهي لا تستطيع أن تفعل إلا الخير.
وكون الإنسان في المرتبة الوسطى يجعل منه كائنا تاريخيا قادرا على التخلص من الطبيعة، ليصنع بذاته وبحريته مصيره الخاص، ويشكل تاريخه. فالإنسان لا شيء. ومن هذا اللاشيء، يستطيع أن يصبح كل شيء، ويستطيع أن يبني شتى ضروب التاريخ والمصير المختلفة.
يضيف لوك فيري، أن هذه الإنسية، التي وضع لبناتها جيوفاني بيك دولاميراندول، ستعرف تاريخا طويلا مند عصر النهضة، وصولا إلى عصر الأنوار، مرورا بديكارت. وسيرسي كانط بعد ذلك، أسسها الأكثر صلابة. وأخيرا، سيجد هيغل وماركس قاعدة أكثر اتساعا، بأن ضما إليها تفكيرا عميقا في قوانين التاريخ الجمعي، حيث أسست إنسانية الإنسان، وكرامته الخاصة، وعظمته، وقدرته على بناء تاريخ من التجديد والتقدم.
عندما ننظر إلى الفكر الأوروبي الحديث، فإننا غالبا ما نصنفه إلى مراحل فكرية أو تاريخية معينة. فنقول عصر النهضة، وعصر الأنوار، والحداثة وما بعد الحداثة. ما قبل كانط وما بعده، أو ما قبل نيتشه وما بعده. وكأن الفكر عبارة عن جزر منفصلة، بينها من أسباب الاختلاف أكثر مما بينها من دواعي الائتلاف. إلا أن الجوهري في الفكر الأوروبي الحديث، بمختلف مراحله، هو التأسيس لإنسانية الإنسان ككائن يتمركز حوله العالم. صحيح بأن هذا الإنسان قد تعرض لضربات قاسمة من طرف فلسفات الشك التي حاولت النيل منه، إلا أنه يبقى مع ذلك قادرا على النهوض من جديد، والبحث عن المعنى والحياة الطيبة، حيث يثبت وجوده وإنسانيته.
* أستاذ فلسفة