لم تنفع تحذيرات مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان – العراق، لسلطات بغداد بشأن التداعيات التي يمكن أن تخلّفها إقالة خاله وزير المالية هوشيار زيباري. إذ صوّت البرلمان العراقي الذي سبق له قبل شهر تطبيق آلية جديدة في عمله الرقابي هي الاقتراع السرّي، كجزء من عملية خروجه من هيمنة زعامات الكتل، لصالح إقالة زيباري بغالبية 158 صوتا مقابل 77 وتحفظ 14 نائبا. ويذكر أن البرلمان كان قد أقال بالطريقة ذاتها وزير الدفاع خالد العبيدي برغم التعاطف الكبير الذي حظي به الوزير على صعيد الشارع العراقي.
مسعود بارزاني بعث في الواقع بعدة رسائل إلى الجهات السياسية في العراق، ومن بينها الحكومة العراقية الاتحادية، ومن بين من حمل رسائله إلى بغداد مسؤولون أميركيون كبار، وكان مضمون الرسائل أن زيباري بات «الشعرة الوحيدة التي تربطه ببغداد»، وبالأخص، بعد انفراط عقد التحالفات التقليدية بين القوى السياسية الكبيرة سواء ما كان يعرف حتى قبل سنتين بالتحالف الشيعي ـ الكردي أو «التحالف الكردستاني» نفسه. وكان هذا الأخير قد جعل من الأكراد وعلى مدى أكثر من عقد من سنوات ما بعد التغيير عام 2003 بيضة القبان في العملية السياسية في العراق.
غير أن بغداد التي تحوّلت إلى «بغدادات» بسبب تعدّد الجهات والمنظومات وقوى الضغط والنفوذ بات من الصعب التعامل معها بوصفها مصدر القرار الذي يمكن مخاطبته والحصول على إجابة واحدة عن أي قضية من القضايا. فـ«بغداد المالكي» (نوري المالكي رئيس الوزراء السابق وزعيم ائتلاف «دولة القانون») ليست «بغداد العبادي» (حيدر العبادي رئيس الوزراء الحالي والقيادي في «دولة القانون»). وهي حتمًا ليست «بغداد البرلمان» سواءً بشخص رئيسه سليم الجبوري – الذي اتهمه وزير المالية المقال زيباري بالتواطؤ مع المالكي لإسقاطه تمهيدا لإسقاط كل حكومة العبادي بمن فيها العبادي نفسه – أو بشخوص أعضاء البرلمان ممن باتوا يصارحون زعماء كتلهم بأنهم ما عادوا معهم إلا بالمعلن بينما في السر وعند حصول أي حالة بأنهم سيكونون مع أنفسهم أو خيار الشارع الذي بات مزاجه يرفض الطبقة السياسية الحالية.
وفي سياق الجدل بِشأن ما يمكن أن تخلفه عملية إقالة زيباري من منصب وزير المالية، بينما كان منهمكًا في مباحثات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض ميسرة للعراق، فإن زيباري نفسه خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده في أربيل بعد يوم واحد من سحب البرلمان الثقة منه اعتبر أن إقالته لن تضعف من وضع ابن شقيقته مسعود بارزاني، قبل وصفها بأنها «ذات أهداف سياسية بقصد الانتقام من شخص وزير المالية وإقليم كردستان». وأضاف الوزير المُقال: «مخطئ من يفسر إقالتي فشلاً للحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيس الإقليم مسعود بارزاني لأنه أكبر من كل ذلك». وتابع أن «الكثير من النواب تعهدوا بالوقوف إلى جانبنا لكن عندما جعلت إدارة البرلمان التصويت سرّيًّا نكث هؤلاء النواب بوعودهم وبان نفاقهم». ثم أوضح «أثبتنا لجميع الشعب العراقي أننا مع القانون بحضور جلسة الاستجواب والإجابة على كل الأسئلة بصراحة وبالأدلة التي تثبت موقفنا وبطريقة حضارية».
صراعات الليل والنهار
زيباري، الذي تجنب الحديث عن العبادي، وجه اتهامات واضحة وصريحة للمالكي وحتى الجبوري، برغم دوافع كل منهما للانتقام منه. وقال: «ائتلاف دولة القانون وشخص المالكي، الذي لا يعادي فقط إقليم كردستان بل حتى حكومة العبادي، يسعى لإقالة الوزراء بقصد إفشال الحكومة في ظل الحرب على داعش والأزمة الاقتصادية». وأردف «وفي الوقت الذي نسعى للحصول على القروض، عمل المالكي على سحب الثقة من وزير الدفاع وإبعاد وزير الداخلية وإقالة وزير المالية وجميع الوزارات الأخرى تباعًا». وشدّد زيباري على أننا «لا نزال ندعم رئيس الوزراء العبادي دون أن نطمع في المناصب».
وذهب زيباري إلى ما هو أبعد من ذلك حين قال: إن استهداف الحزب الديمقراطي الكردستاني من قبل ائتلاف «دولة القانون» ليس جديدًا، مشددًا على أن إقالته لن تضعف البارزاني. ثم اتهم رئيس البرلمان سليم الجبوري «بالتواطؤ مع ائتلاف دولة القانون»، مشيرا إلى وجود «مخطط يطبّق من قبل المالكي بدوافع الحقد والانتقام» لإفشال الحكومة الحالية «والجبوري متورط في هذه اللعبة»، وتابع: «مشروع المالكي يستخدم البرلمان ورئيسه لتحقيق أهداف غير مشروعة ولكن هذا المخطط سيقضي على الجبوري أيضا في النهاية».
وبينما يكاد يكون معروفا الدوافع التي يمكن أن تفسر موقف المالكي من زيباري - وتاليًا العبادي نفسه - فإنه طبقا لتفسير رئيس اللجنة القانونية في البرلمان العراقي والقيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني محسن السعدون، في تصريحه لـ«الشرق الأوسط» بشأن دوافع سليم الجبوري، أن «رئيس البرلمان ارتكب في الواقع سلسلة من الخروق القانونية بحق وزير المالية هوشيار زيباري، كانت الأخطر فيها هي طرحه موضوع التصويت على سحب الثقة في وقت توجد فيه دعوى مرفوعة من زيباري أمام المحكمة الاتحادية بشأن لا قانونية التصويت على عدم القناعة بأجوبته. وكانت المحكمة الاتحادية التي تعتبر قراراتها ملزمة كتابا رسميا بهذا الشأن، وهو ما يعني التريث بانتظار النتيجة».
ثم قال: إن «الجبوري ضحى بزيباري لموقف شخصي حيث توجد الآن دعوى مرفوعة ضده من قبل وزير الدفاع بشأن سرية التصويت في وقتها، وفي حال استجاب الجبوري لأن يكون التصويت علينا سوف يحرج أمام دعوى العبيدي، لذلك جاء إصراره على التصويت السري بحيث أصبح زيباري ضحية الأمر». ولكن قياديا في تحالف القوى العراقية أبلغ «الشرق الأوسط» - طالبا التكتم على اسمه - أن «الخلافات العميقة بين ائتلاف «متحدون» الذي يتزعمه أسامة النجيفي ورئيس البرلمان سليم الجبوري داخل «تحالف القوى العراقية» بدأت تنعكس على الأداء السنّي داخل العملية السياسية سواء كانت في البرلمان أو الحكومة». وأردف القيادي السني أن «التقاطع الحاد في المواقف كان قد تفجر في قضية سحب الثقة من وزير الدفاع خالد العبيدي، الذي يُعدّ مقربًا من النجيفي، وبالتالي الأكراد، حيث أعلن ائتلاف (متحدون) أنه سيعمل على إقالة سليم الجبوري داخل تحالف القوى وتقديم بديل له. بينما بات ائتلاف (دولة القانون) يعلن عن جهود مماثلة لإقالة العبادي وتقديم بديل له، الأمر الذي أدى إلى نوع من التباعد بين مواقف العبادي والجبوري، وحصل نوع من التلاقي بين المالكي والجبوري في حين بدأت المواقف تتقارب إلى حد ما بين العبادي والنجيفي وبارزاني. هذا يعني هناك خريطة تحالفات جديدة يمكن أن تلوح في الأفق حيث تدور في الواقع نقاشات وحراك سياسي ليل نهار بين الكثير من القوى تكشف عن مستويات عميقة من الخلافات بين طرف وتقارب بين أطراف أخرى».
الكردي.. المقبول عربيا
على مدى 11 سنة تبوأ هوشيار زيباري منصب وزير الخارجية في أخطر مرحلة من تاريخ العراق. وعلى مدى 80 سنة، كان العراق دولة شمولية، عروبية التوجه بمضمون سنّي واضح، قبل أن يسقط النظام السياسي القائم بفعل الغزو الأميركي، ليحل محله نظام جديد فشل في تقديم هوية وطنية جديدة باعتماد نظام المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية.
غير أنه بسبب فشله في الكثير من الملفات، وفي المقدمة منها ملف العلاقات العراقية ـ العربية عجز النظام السياسي الجديد عن تقديم وجه مقبول للسياسة الخارجية العراقية، فقدم الكردي هوشيار زيباري الذي تعامل معه العرب على مدى فترة توليه منصبه بكل ود واحترام سواء بسبب كفاءته الدبلوماسية والسياسية أو لقدراته الشخصية وتضلعه من اللغة العربية ومرونته التي أهلته لاستيعاب كل التناقضات.
ثم إن زيباري هو من بين قلة قليلة من وزراء الخارجية في العراق، وفي كل العهود، تمكن من البقاء في منصبه على مدى أكثر من عقد من السنوات. وعلى الرغم من كل المشاكل والأزمات بين العراق (تحت قيادته الشيعية القريبة من إيران إبان حكم المالكي) ومحيطه العربي، بقي زيباري أكثر الوجوه مقبولية لدى العرب الأمر الذي انعكس على الجو العام للعلاقة العربية ـ العراقية التي وجدت في زيباري عنصر توازن في معادلة كانت ولا تزال أكثر اختلالا وهشاشة.
وحيال ما بدا «ورطة» متبادلة بين عراق 1920 - 2003 وعراق السنوات الـ13 الأخيرة لعب زيباري على عنصر المفارقة الحاد هذا، فقدّم نفسه للعرب وجها دائم الابتسام ولسانًا متمكنًا من لغة الضاد، حتى بدا للأمين الأسبق للجامعة العربية الدبلوماسي المصري المخضرم عمرو موسى أن عدّ زيباري أفضل من يمكن أن يخلفه في منصب الأمانة العامة للجامعة العربية.
الهوية الملتبسة للعراق الجديد، الموزّع الولاءات بين الطوائف والأعراق، بدت شديدة الوضوح بالنسبة لزيباري الذي شهد له الجميع بالنجاح كوزير للخارجية رغم ما قيل عن مأخذ تتعلق بـ«تكريد» الدبلوماسية العراقية، بالإضافة إلى عدم التحرش بالكثير من رموزها القدامى سواء في المركز أم في البعثات الدبلوماسية في الخارج.
زيباري الذي عاصر الحاكم المدني الأميركي بول بريمر وعهد «مجلس الحكم» الهش وأربعة رؤساء وزارات (إياد علاوي وإبراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي) مدمن وزارات سيادية. إذ ما أن انتهت مهامه وزيرا للخارجية حتى انتقل إلى وزارة سيادية أخرى هي المالية. وفي حين يرى كثيرون أن الفضل في رسوخ قدم هوشيار زيباري في العملية السياسية في العراق يعود إلى علاقة القرابة التي تربطه بآل البارزاني فإن آخرين يرون أن زيباري الذي كان أحد أقطاب المعارضة العراقية في الخارج ضد نظام صدام حسين تكفي مؤهلاته الشخصية لكي يتبوأ أرفع المناصب.
ولقد كان زيباري يعتبر أنه هو من أخرج العراق من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وألغى نحو 80 في المائة من ديون العراق، وهو ما كان يعده رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إنجازا له شخصيا. ولذا ما أن تسلم منصب المالية حتى وجد نفسه محاصرا من «دولة القانون» وهذا ما جعله يحمّل المالكي مسؤولية استجوابه. بينما سحب العبادي نفسه تمامًا مما يمكن أن يترتب من أزمة على هذا الصعيد، عندما أجرى من نيويورك اتصالا هاتفيا برئيس البرلمان الجبوري طالبا تأجيل سحب الثقة من زيباري. لكن الجبوري لم يعد العبادي بشيء.
سيرة شخصية موجزة
- اسمه الكامل هوشيار محمود محمد زيباري.
- ولد في بلدة عقرة بمحافظة نينوى في شمال العراق، يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) 1953. أي أنه في الثانية والستين من العمر.
- هو خال مسعود بارزاني رئيس «إقليم كردستان – العراق» الذاتي الحكم.
- تخرج في الجامعة الأردنية بالعاصمة الأردنية عمّان ببكالوريوس في العلوم السياسية عام 1976. ثم حصل على الماجستير في علم الاجتماع والتنمية من جامعة إيسكس في جنوب شرقي بريطانيا عام 1979.
- تولّى عضوية اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني عام 1979. وتولى منصب ممثل الحزب في أوروبا ثم مدير مكتب إدارة مكتب العلاقات الدولية بين 1988 و2003.
- انتخب عضوًا في المجلس التنفيذي للمؤتمر العراقي (المعارض) عام 1992. ثم انتخب عضوا في المجلس الرئاسي للمؤتمر عام 1999.
- عيّن وزيرا للخارجية في الحكومة التي شكلها «مجلس الحكم» عام 2003 بعد إسقاط نظام صدام حسين، واحتفظ بحقيبة الخارجية في الحكومات المتعاقبة حتى 11 يوليو (تموز) 2014.
- أسندت إليه حقيبة وزارة المالية بين 8 سبتمبر (أيلول) 2014 و21 سبتمبر 2016.