الغابون.. إرث بونغو

صراع سياسي في بلد تعددي تفاقمه الحساسيات الشخصية

الغابون.. إرث بونغو
TT

الغابون.. إرث بونغو

الغابون.. إرث بونغو

استقلت الغابون عن فرنسا عام 1960. إلا أنها ظلت دومًا الحديقة الخلفية للأنظمة الحاكمة في فرنسا، خاصة بعد اكتشاف مخزون نفطي هائل قبالة سواحل المستعمرة السابقة. وجاء نفط الغابون ليحل محل النفط الجزائري الذي خرج عام 1962 من قبضة الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول الساعي نحو جعل فرنسا قوة عظمى، وهو أمر ما كان ليتحقق من دون سد حاجياتها من الطاقة.
وفعلاً، استفادت الغابون طيلة العقود الماضية من دعم فرنسي كبير، لتضمن بذلك أكبر قدر ممكن من الاستقرار في محيط إقليمي مضطرب. فالقوات الفرنسية لم تتأخر في التدخل لإفشال أول انقلاب عسكري عام 1964 وقع ضد أول رئيس للبلاد ليون مبا. كذلك ضمنت باريس انتقال السلطة بشكل سلس عام 1967 بعد وفاة مبا إلى الرئيس السابق عمر بونغو، ولم يكن خافيًا على أحد أن علي بونغو هو مرشح فرنسا في الانتخابات الرئاسية التي أجريت بعد وفاة والده عمر بونغو عام 2009.
ولكن الغابون التي تدخل الموت مرتين لإحداث التغيير الرئاسي فيها، تقف اليوم عند نقطة حاسمة من تاريخها السياسي، فهنالك رجلان تربيا في حضن نظام الرئيس السابق الراحل عمر بونغو، يعلن كل منهما فوزه بالانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم السبت 27 أغسطس (آب) الماضي. وبينما يراهن علي بونغو، الرئيس الفائز بولاية جديدة، على قوة القانون والأمن، لا يتردد زعيم المعارضة جان بينغ في الاستناد إلى الشارع. أما فرنسا فقد أعلنت على لسان وزير خارجيتها أنها لن تنحاز لأي من الرجلين، فيما يبدو أن الصراع على إرث الراحل عمر بونغو سيهز واحدًا من أكثر البلدان الأفريقية استقرارًا.
انتشرت الحواجز الأمنية في شوارع ليبريفيل، عاصمة دولة الغابون. جنود يتحركون بحذر في الساعات الأولى من الصباح، وسيارات الشرطة تجوب بعض الأحياء، فيما ينشغل عدد من المواطنين بالبحث عن مواصلات بدت حركتها ضعيفة منذ الانتخابات التي أدخلت البلاد في موجة من العنف. تحولت بعض الشوارع إلى ساحة معركة بين عناصر الأمن ومئات الشباب الغاضبين، كانوا يرفضون إعادة انتخاب الرئيس علي بونغو لولاية رئاسية ثانية مدتها سبع سنوات، ستمد عمر حكم عائلته لأكثر من نصف قرن.
حالة من الانقسام تعيشها البلاد منذ أسابيع، ما بين الرئيس المنتهية ولايته علي بونغو (57 سنة)، وزعيم المعارضة جان بينغ (73 سنة)، بعدما تنافسا في حملة انتخابية شرسة غلب عليها الصراع الشخصي وغابت عنها البرامج الانتخابية، وتخللتها أعمال عنف واتهامات للحكومة بالانحياز للرئيس المنتهية ولايته.
استبق مرشح المعارضة الأحداث وأعلن فوزه بالانتخابات قبل أن تعلن النتائج النهائية، إذ قال أمام أنصاره مساء الأحد 28 أغسطس (آب) الماضي «لقد فزت بالانتخابات وأنتظر من علي بونغو أن يتصل بي للتهنئة». ولكن هذا الاتصال لم يتحقق لأن بونغو أعلن النصر هو الآخر يوم الأربعاء الموالي؛ وهكذا عاشت البلاد عدة ساعات منقسمة ما بين «رئيسين»، يضغط كل منهما على اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، فقد بدا واضحًا أن النتيجة التي ستعلنها – مهما كانت – ستدخل البلاد في أزمة حقيقية.
وبعد أيام من الترقب الحذر أعلنت اللجنة فوز بونغو بنسبة 49.80 في المائة من الأصوات، مقابل 48.23 في المائة لمرشح المعارضة، أي أن الفارق بين الرجلين لا يزيد على 5594 صوتًا فقط. ومن ثم، أشعلت هذه النتائج الشارع في الغابون، حيث خرج مئات الشبان الغاضبين ووضعوا الحواجز على الشوارع الكبيرة، كما أحرقوا مبنى البرلمان في العاصمة. وأسفرت الصدامات بين الأمن والمحتجين – حسب تقارير غير رسمية – عن سقوط سبعة قتلى ومئات المعتقلين. وتعيد هذه الأحداث إلى أذهان الغابونيين ما شهدته بلادهم من صدامات عنيفة عام 2009 بعد انتخاب علي بونغو.
* «جزيرة استقرار»
كثيرًا ما وصفت الغابون بأنها «جزيرة استقرار»، رغم كونها تقع في منطقة ملتهبة بالحروب، وذلك ما تعيده فلورنس بيرنولت، أستاذة التاريخ الأفريقي في الجامعات الأميركية، إلى اليد الفرنسية الحاضرة بقوة. وتقول الباحثة «منذ استقلالها، لم تغادر الغابون فلك القوة الاستعمارية السابقة، هناك علاقات اقتصادية متينة جدًا، وحضور عسكري فرنسي داخل الأراضي الغابونية».
وعلى غرار الكثير من المستعمرات الفرنسية في غرب ووسط أفريقيا، حصلت الغابون على استقلالها بشكل تدريجي، وسلّمتها فرنسا لنخبة تضمن ولاءها المطلق، حتى أن الرئيس ليون مبا الذي حكم البلاد سبع سنوات بعد الاستقلال، كان محاطًا بمستشارين فرنسيين يتولون تسيير البلاد ووضع أسس الدولة الحديثة، ولكن في الحقيقة كان هؤلاء المستشارون مرتبطين بشكل مباشر مع الخلية المكلّفة بالشؤون الأفريقية في قصر الإليزيه.
وحقًا أظهر الرئيس ليون مبا خلال فترة حكمه ولاء مطلقًا لفرنسا. إذ كان يرى فيها الضامن لاستمرار حكمه، خاصة بعد انقلاب 1964 الذي أفشلته القوات الفرنسية. بيد أن مبا في المقابل بدا ضعيف الشخصية وعاجزًا على مواجهة الأزمات، وما كان ذلك الرجل القادر على أن يُحكم قبضته على البلد ويضرب بيد من حديد. هذه الصفة كانت متوافرة في أحد الشباب العاملين في القصر، يدعى ألبير بيرنار بونغو، الذي سرعان ما رصدته أعين المستشارين الفرنسيين في القصر فبدأت الأبواب تفتح أمامه.
* عصر بونغو
برز نجم الشاب الواعد في الفترة التي أمضاها مبا يتلقى العلاج في فرنسا. بل إن الرئيس بإشارة من مستشاريه الفرنسيين استحدث منصب نائب رئيس الجمهورية وعيّن فيه الشاب بونغو، في مسرحية مثلت فصولاً في سفارة الغابون بباريس، بينما كانت صحة الرئيس لا تسمح بالعودة إلى الغابون؛ ولاحقًا توفي مبا وأصبح بونغو رئيسًا للبلاد.
ولم يخيّب بونغو ظن المستشارين الفرنسيين، فقد أحكم قبضته بسرعة على بلده الصغير، وخدمته في ذلك الاكتشافات النفطية الهائلة، وما أعقبها من نهضة اقتصادية سريعة. كذلك فإنه إبان حكمه رفع شعار الوحدة الوطنية، الذي تصفه الباحثة بيرنولت بقولها «استطاع بونغو طيلة حكمه أن يحيط نفسه بفريق يضم ممثلين لمعظم الفئات الاجتماعية والعرقية المتفرقة في البلد، كما نجح دائمًا في إقناع معارضيه بالتعاون والتفاهم».
وتشرح بينولت «يتحدر بونغو من قبيلة التيكي (أو الباتيكي) Teke التي تعد أقلية في الغابون، وذلك ما ساعده في إدارة التنوع الثقافي والتمايز العرقي داخل بلد بالكاد يتجاوز عدد سكانه مليونا ونصف المليون نسمة، ويتكلمون أكثر من خمسين لهجة محلية. إن نظام المحاصصة الذي اعتمده كان يطمئن ويريح الغابونيين، سواء كانوا موالين أو معارضين لحكمه».
بعدها، اعتنق ألبير بيرنار بونغو الإسلام، وغيّر اسمه ليصبح عمر بونغو، واتسعت دائرة نفوذه لتصل إلى الكثير من البلدان الأفريقية. وفي هذه الأثناء، كان تأثيره كبيرًا في الساحة السياسية الفرنسية، حيث اشتهر بمتابعته لأدق التفاصيل فيها، وحرصه على بناء علاقات صداقة قوية مع الشخصيات التي يرى أنها ستلعب أدوارًا مهمة في دوائر الحكم الفرنسي. بل إن عدة تقارير أشارت إلى تمويلات كانت تخرج من خزائنه لتصل إلى جيوب كثرة من هؤلاء السياسيين الذين أصبح فيما بعد من بينهم رؤساء ووزراء. وتحدثت شخصيات فرنسية عن وزراء عيّنهم بونغو وآخرين أقالهم من الحكومات الفرنسية؛ وهو ما بات يسميه بعض الإعلاميين الفرنسيين بأنه «استعمار غابوني» خطط له عمر بونغو وموّله بعائدات النفط الهائلة.
وحسب الباحثة بيرنولت، أجبرت وفاة عمر بونغو عام 2009 فرنسا على الوقوف مع ابنه علي. وتشرح «كانت فرنسا تحاول تفادي انهيار إمبراطورية بونغو بشكل مفاجئ وغير مخطّط له، ما قد يؤدي لخروج أسرار من تحت ركام إمبراطورية عاصرت عدة أنظمة فرنسية، وكانت تلعب دورًا محوريًا في السياسات الفرنسية في أفريقيا».
* القطيعة مع الماضي
خرج علي بونغو منتصرًا من انتخابات رئاسية نظمت بعد أشهر قليلة من وفاة والده، وبدت رغبته واضحة في شق طريق غير الذي سلكه أبوه، وأن يعلن القطيعة مع العهد القديم. غير أنه سرعان ما اصطدم بالزعامات التقليدية والشخصيات السياسية، التي كان يمنحها والده امتيازات خاصة ليضمن ولاءها. وفي هذا السياق يقول الصحافي المتخصص في الشأن الأفريقي جورج دوغيلي «كانت رغبته كبيرة في القطيعة مع حكم والده، فرفض علي بونغو الاستسلام للراغبين في الاحتفاظ بامتيازاتهم. لكن هذا الأمر أثار غضب الرفاق السابقين، فاستقالوا من الحزب الحاكم واحدًا تلو الآخر، قبل أن يلتحقوا بصفوف المعارضة».
من جهة أخرى تقول حسب الباحثة الأميركية بيرنولت إن بونغو بمجرد وصوله إلى الحكم «تخلى عن نظام والده القائم على التوازن والمزج بين مختلف الأعراق والفئات الاجتماعية، ليختار فريقًا صغيرًا من الذين يثق فيهم؛ وهكذا ضعف التوازن الجهوي والسياسي». ولكن في المقابل، ركز بونغو الابن على الاقتصاد والاستثمار، وأعلن مشروع «الغابون الناهض» الذي قال عنه إنه سيغير وجه البلاد في المدى القريب، لتخلص إلى القول: إنه «من الواضح أن سبع سنوات من الحكم لم تكن كافية ليقنع علي بونغو مواطني بلاده».
* بوادر الأزمة
وهكذا، خلال السنوات الأخيرة شهدت الغابون الكثير من الغليان السياسي، وتعرض علي بونغو لهجمات كثيرة تستهدف إضعاف حكمه، بدأت بانقسامات داخل الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم، وانتهت بالتشكيك في أصوله، بالإضافة إلى حرب كلامية شرسة أنهكت قوى النظام.
وهنا يقول دوغيلي «لم يدخر خصوم علي بونغو أي جهد لمنعه من الترشح للانتخابات؛ حتى أنهم شككوا في نسبه، ورفعوا دعوى قضائية أمام محكمة فرنسية. إلا أن هذه الهجمات التي كانت تقوم على حرب كلامية عنيفة، انتهت بالفشل حين صادقت المحكمة على وثيقة ميلاد علي بونغو».
ولكن اللافت أن الأزمة السياسية التي عاشت الغابون بوادرها في السنوات الأخيرة، تأتي أيضا في فترة ضعف وتشرذم للمعارضة التقليدية، خاصة بعد وفاة بيير مامبودو (2011) وآندريه مبا أوبامي (2015)، وهما شخصيتان من أبرز زعامات المعارضة الراديكالية. غياب هاتين الشخصيتين خلق ظروف التأزم داخل الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم، وفق ما يشير إليه دوغيلي، قبل أن يضيف: «لقد هيأ ضعف المعارضة بعد وفاة قادتها، ظروف التأزم داخل الحزب الحاكم، خاصة بعد الخلاف القوي بين الرئيس علي بونغو والقيادات التقليدية للحزب».
ومن ثم، حدثت موجة انسحابات واسعة من الحزب الحاكم، وكان أغلب المنسحبين زعامات تقليدية تعتقد أنها لم تجد المكانة التي تستحق مع الرئيس علي بونغو، فظهرت معارضة جديدة هي في الحقيقة جزء من النظام مغاضب للرئيس. وكانت هذه المعارضة الجديدة تراهن على أن علي بونغو لن يكمل ولايته الرئاسية الأولى، ويتكلمون في أنشطتهم السياسية عن «انقلاب عسكري وشيك» أو «تمرّد شعبي على الأبواب».
في هذه الأجواء المتأزمة ظهر جان بينغ، الذي قدم نفسه كمعارض شرس لنظام بونغو، فتلقفته المعارضة بسرعة لأنه يملك مؤهلات تجعل منه ندًا مناسبًا للرئيس. فهو ابن تاجر صيني وسيدة تتحدر من قبيلة الأومبووي بجنوب الكاميرون (المجاورة للغابون)، وسبق أن شغل منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس الراحل عمر بونغو الذي كان قد وقف خلفه عام 2008 حتى أصبح الأمين العام لمفوضية الاتحاد الأفريقي. إلا أن بينغ غادر المفوضية عام 2012 وهو يتهم حكومة بلاده بالتخلي عنه والتقاعس عن دعمه، فتفجر الخلاف الشخصي بينه والرئيس. وهذا الخلاف تطور إلى قطيعة تامة عام 2014. مع أن بينغ سبق له الزواج من باسكالين ابنة عمر بونغو وأخت علي بونغو، وهي أم ولديه. وبالنظر إلى مسار العلاقة ما بين الرجلين يتضح مدى التعقيد الذي يطبع الأزمة في الغابون.
إن ما يجري في الغابون ليس مجرد أزمة سياسية ذات طرفين: معارضة تسعى للسلطة ونظام مصر على البقاء، بل هو أكثر تعقيدًا بكثير. فأولئك الذين يقفون اليوم ضد الرئيس علي بونغو، ويحرّكون الشارع ضده بحجة هيمنة عائلته على الحكم لنصف قرن، كانوا من ضمن الدائرة المقربة منه ومن والده عمر بونغو، في مقدمتهم جان بينغ صهر الرئيسين الأب والابن السابق الذي ترعرع في حضن نظام عائلة بونغو وكان قريبًا جدًا منها؛ بالإضافة إلى رئيس الوزراء السابق كازيمير إيوي مبا؛ ورئيس البرلمان السابق نزوبا انداما.
* الإخوة الأعداء
يطغى الجانب الشخصي على الأزمة المحتدمة في الغابون، لتتحول إلى صراع ما بين رجلين، خرجا من رحم نظام عمر بونغو الذي حكم البلاد لأكثر من نصف قرن، إنهما الرئيس الحالي علي بونغو وزعيم المعارضة جان بينغ.
علي بونغو اونديمبا: ولد عام 1959. في مدينة برازافيل، العاصمة الحالية للكونغو الديمقراطية، وذلك قبل استقلال بلاده عن فرنسا بعام واحد، وتولى والده الحكم وهو في الثامنة من العمر. بعدها تلقى تعليمه في فرنسا حيث تخرج بشهادة عليا في القانون، ثم بدأ مساره المهني عام 1987 في ديوان رئيس الجمهورية الذي هو والده.
وتقلّب علي بونغو في المناصب الحكومية وزيرا للخارجية (1989 - 1991)، ثم نائبا في البرلمان (1991 - 1999)؛ ثم وزيرا للدفاع (1999 - 2009). وفي الفترة نفسها كان يشغل منصب نائب رئيس الحزب الديمقراطي الغابوني الذي رشحه للانتخابات الرئاسية التي نظمت عقب وفاة والده عام 2009. ليحقق الفوز بنسبة 42 في المائة.
جان بينغ: ولد عام 1942 في مدينة بور جانتيل، العاصمة الاقتصادية الحالية للغابون، وكان والده تاجرًا صينيًا وصل إلى البلاد في عشرينات القرن الماضي، ثم تزوج من فتاة غابونية من أصل كاميروني. ونجح التاجر الصيني في ابتعاث ابنه إلى فرنسا من أجل الدراسة، ليتخرج بشهادة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية من جامعة باريس - السوربون.
بدأ بينغ مساره المهني كموظف دولي في منظمة اليونيسكو بباريس عام 1972، ليصبح الممثل الدائم للغابون في المنظمة الدولية (1978 - 1984). ثم ترأس عن بلاده عام 1993 منظمة الدول المصدرة للبترول؛ ولكنه دخل الحكومة في بلاده من بوابة وزارة الخارجية (1999 - 2008)، وفي الفترة نفسها ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة (2004 - 2005)؛ كما ترأس مفوضية الاتحاد الأفريقي (2008 - 2012).
كان عدم التجديد له على رأس المفوضية الأفريقية واحدًا من الأسباب التي أدت إلى الشرخ القوي بينه والرئيس علي بونغو، بالإضافة إلى أن جان بينغ يرى أن مساره المهني ومؤهلاته تجعل منه الوريث الحقيقي لعمر بونغو.



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.