الغابون.. إرث بونغو

صراع سياسي في بلد تعددي تفاقمه الحساسيات الشخصية

الغابون.. إرث بونغو
TT

الغابون.. إرث بونغو

الغابون.. إرث بونغو

استقلت الغابون عن فرنسا عام 1960. إلا أنها ظلت دومًا الحديقة الخلفية للأنظمة الحاكمة في فرنسا، خاصة بعد اكتشاف مخزون نفطي هائل قبالة سواحل المستعمرة السابقة. وجاء نفط الغابون ليحل محل النفط الجزائري الذي خرج عام 1962 من قبضة الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول الساعي نحو جعل فرنسا قوة عظمى، وهو أمر ما كان ليتحقق من دون سد حاجياتها من الطاقة.
وفعلاً، استفادت الغابون طيلة العقود الماضية من دعم فرنسي كبير، لتضمن بذلك أكبر قدر ممكن من الاستقرار في محيط إقليمي مضطرب. فالقوات الفرنسية لم تتأخر في التدخل لإفشال أول انقلاب عسكري عام 1964 وقع ضد أول رئيس للبلاد ليون مبا. كذلك ضمنت باريس انتقال السلطة بشكل سلس عام 1967 بعد وفاة مبا إلى الرئيس السابق عمر بونغو، ولم يكن خافيًا على أحد أن علي بونغو هو مرشح فرنسا في الانتخابات الرئاسية التي أجريت بعد وفاة والده عمر بونغو عام 2009.
ولكن الغابون التي تدخل الموت مرتين لإحداث التغيير الرئاسي فيها، تقف اليوم عند نقطة حاسمة من تاريخها السياسي، فهنالك رجلان تربيا في حضن نظام الرئيس السابق الراحل عمر بونغو، يعلن كل منهما فوزه بالانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم السبت 27 أغسطس (آب) الماضي. وبينما يراهن علي بونغو، الرئيس الفائز بولاية جديدة، على قوة القانون والأمن، لا يتردد زعيم المعارضة جان بينغ في الاستناد إلى الشارع. أما فرنسا فقد أعلنت على لسان وزير خارجيتها أنها لن تنحاز لأي من الرجلين، فيما يبدو أن الصراع على إرث الراحل عمر بونغو سيهز واحدًا من أكثر البلدان الأفريقية استقرارًا.
انتشرت الحواجز الأمنية في شوارع ليبريفيل، عاصمة دولة الغابون. جنود يتحركون بحذر في الساعات الأولى من الصباح، وسيارات الشرطة تجوب بعض الأحياء، فيما ينشغل عدد من المواطنين بالبحث عن مواصلات بدت حركتها ضعيفة منذ الانتخابات التي أدخلت البلاد في موجة من العنف. تحولت بعض الشوارع إلى ساحة معركة بين عناصر الأمن ومئات الشباب الغاضبين، كانوا يرفضون إعادة انتخاب الرئيس علي بونغو لولاية رئاسية ثانية مدتها سبع سنوات، ستمد عمر حكم عائلته لأكثر من نصف قرن.
حالة من الانقسام تعيشها البلاد منذ أسابيع، ما بين الرئيس المنتهية ولايته علي بونغو (57 سنة)، وزعيم المعارضة جان بينغ (73 سنة)، بعدما تنافسا في حملة انتخابية شرسة غلب عليها الصراع الشخصي وغابت عنها البرامج الانتخابية، وتخللتها أعمال عنف واتهامات للحكومة بالانحياز للرئيس المنتهية ولايته.
استبق مرشح المعارضة الأحداث وأعلن فوزه بالانتخابات قبل أن تعلن النتائج النهائية، إذ قال أمام أنصاره مساء الأحد 28 أغسطس (آب) الماضي «لقد فزت بالانتخابات وأنتظر من علي بونغو أن يتصل بي للتهنئة». ولكن هذا الاتصال لم يتحقق لأن بونغو أعلن النصر هو الآخر يوم الأربعاء الموالي؛ وهكذا عاشت البلاد عدة ساعات منقسمة ما بين «رئيسين»، يضغط كل منهما على اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، فقد بدا واضحًا أن النتيجة التي ستعلنها – مهما كانت – ستدخل البلاد في أزمة حقيقية.
وبعد أيام من الترقب الحذر أعلنت اللجنة فوز بونغو بنسبة 49.80 في المائة من الأصوات، مقابل 48.23 في المائة لمرشح المعارضة، أي أن الفارق بين الرجلين لا يزيد على 5594 صوتًا فقط. ومن ثم، أشعلت هذه النتائج الشارع في الغابون، حيث خرج مئات الشبان الغاضبين ووضعوا الحواجز على الشوارع الكبيرة، كما أحرقوا مبنى البرلمان في العاصمة. وأسفرت الصدامات بين الأمن والمحتجين – حسب تقارير غير رسمية – عن سقوط سبعة قتلى ومئات المعتقلين. وتعيد هذه الأحداث إلى أذهان الغابونيين ما شهدته بلادهم من صدامات عنيفة عام 2009 بعد انتخاب علي بونغو.
* «جزيرة استقرار»
كثيرًا ما وصفت الغابون بأنها «جزيرة استقرار»، رغم كونها تقع في منطقة ملتهبة بالحروب، وذلك ما تعيده فلورنس بيرنولت، أستاذة التاريخ الأفريقي في الجامعات الأميركية، إلى اليد الفرنسية الحاضرة بقوة. وتقول الباحثة «منذ استقلالها، لم تغادر الغابون فلك القوة الاستعمارية السابقة، هناك علاقات اقتصادية متينة جدًا، وحضور عسكري فرنسي داخل الأراضي الغابونية».
وعلى غرار الكثير من المستعمرات الفرنسية في غرب ووسط أفريقيا، حصلت الغابون على استقلالها بشكل تدريجي، وسلّمتها فرنسا لنخبة تضمن ولاءها المطلق، حتى أن الرئيس ليون مبا الذي حكم البلاد سبع سنوات بعد الاستقلال، كان محاطًا بمستشارين فرنسيين يتولون تسيير البلاد ووضع أسس الدولة الحديثة، ولكن في الحقيقة كان هؤلاء المستشارون مرتبطين بشكل مباشر مع الخلية المكلّفة بالشؤون الأفريقية في قصر الإليزيه.
وحقًا أظهر الرئيس ليون مبا خلال فترة حكمه ولاء مطلقًا لفرنسا. إذ كان يرى فيها الضامن لاستمرار حكمه، خاصة بعد انقلاب 1964 الذي أفشلته القوات الفرنسية. بيد أن مبا في المقابل بدا ضعيف الشخصية وعاجزًا على مواجهة الأزمات، وما كان ذلك الرجل القادر على أن يُحكم قبضته على البلد ويضرب بيد من حديد. هذه الصفة كانت متوافرة في أحد الشباب العاملين في القصر، يدعى ألبير بيرنار بونغو، الذي سرعان ما رصدته أعين المستشارين الفرنسيين في القصر فبدأت الأبواب تفتح أمامه.
* عصر بونغو
برز نجم الشاب الواعد في الفترة التي أمضاها مبا يتلقى العلاج في فرنسا. بل إن الرئيس بإشارة من مستشاريه الفرنسيين استحدث منصب نائب رئيس الجمهورية وعيّن فيه الشاب بونغو، في مسرحية مثلت فصولاً في سفارة الغابون بباريس، بينما كانت صحة الرئيس لا تسمح بالعودة إلى الغابون؛ ولاحقًا توفي مبا وأصبح بونغو رئيسًا للبلاد.
ولم يخيّب بونغو ظن المستشارين الفرنسيين، فقد أحكم قبضته بسرعة على بلده الصغير، وخدمته في ذلك الاكتشافات النفطية الهائلة، وما أعقبها من نهضة اقتصادية سريعة. كذلك فإنه إبان حكمه رفع شعار الوحدة الوطنية، الذي تصفه الباحثة بيرنولت بقولها «استطاع بونغو طيلة حكمه أن يحيط نفسه بفريق يضم ممثلين لمعظم الفئات الاجتماعية والعرقية المتفرقة في البلد، كما نجح دائمًا في إقناع معارضيه بالتعاون والتفاهم».
وتشرح بينولت «يتحدر بونغو من قبيلة التيكي (أو الباتيكي) Teke التي تعد أقلية في الغابون، وذلك ما ساعده في إدارة التنوع الثقافي والتمايز العرقي داخل بلد بالكاد يتجاوز عدد سكانه مليونا ونصف المليون نسمة، ويتكلمون أكثر من خمسين لهجة محلية. إن نظام المحاصصة الذي اعتمده كان يطمئن ويريح الغابونيين، سواء كانوا موالين أو معارضين لحكمه».
بعدها، اعتنق ألبير بيرنار بونغو الإسلام، وغيّر اسمه ليصبح عمر بونغو، واتسعت دائرة نفوذه لتصل إلى الكثير من البلدان الأفريقية. وفي هذه الأثناء، كان تأثيره كبيرًا في الساحة السياسية الفرنسية، حيث اشتهر بمتابعته لأدق التفاصيل فيها، وحرصه على بناء علاقات صداقة قوية مع الشخصيات التي يرى أنها ستلعب أدوارًا مهمة في دوائر الحكم الفرنسي. بل إن عدة تقارير أشارت إلى تمويلات كانت تخرج من خزائنه لتصل إلى جيوب كثرة من هؤلاء السياسيين الذين أصبح فيما بعد من بينهم رؤساء ووزراء. وتحدثت شخصيات فرنسية عن وزراء عيّنهم بونغو وآخرين أقالهم من الحكومات الفرنسية؛ وهو ما بات يسميه بعض الإعلاميين الفرنسيين بأنه «استعمار غابوني» خطط له عمر بونغو وموّله بعائدات النفط الهائلة.
وحسب الباحثة بيرنولت، أجبرت وفاة عمر بونغو عام 2009 فرنسا على الوقوف مع ابنه علي. وتشرح «كانت فرنسا تحاول تفادي انهيار إمبراطورية بونغو بشكل مفاجئ وغير مخطّط له، ما قد يؤدي لخروج أسرار من تحت ركام إمبراطورية عاصرت عدة أنظمة فرنسية، وكانت تلعب دورًا محوريًا في السياسات الفرنسية في أفريقيا».
* القطيعة مع الماضي
خرج علي بونغو منتصرًا من انتخابات رئاسية نظمت بعد أشهر قليلة من وفاة والده، وبدت رغبته واضحة في شق طريق غير الذي سلكه أبوه، وأن يعلن القطيعة مع العهد القديم. غير أنه سرعان ما اصطدم بالزعامات التقليدية والشخصيات السياسية، التي كان يمنحها والده امتيازات خاصة ليضمن ولاءها. وفي هذا السياق يقول الصحافي المتخصص في الشأن الأفريقي جورج دوغيلي «كانت رغبته كبيرة في القطيعة مع حكم والده، فرفض علي بونغو الاستسلام للراغبين في الاحتفاظ بامتيازاتهم. لكن هذا الأمر أثار غضب الرفاق السابقين، فاستقالوا من الحزب الحاكم واحدًا تلو الآخر، قبل أن يلتحقوا بصفوف المعارضة».
من جهة أخرى تقول حسب الباحثة الأميركية بيرنولت إن بونغو بمجرد وصوله إلى الحكم «تخلى عن نظام والده القائم على التوازن والمزج بين مختلف الأعراق والفئات الاجتماعية، ليختار فريقًا صغيرًا من الذين يثق فيهم؛ وهكذا ضعف التوازن الجهوي والسياسي». ولكن في المقابل، ركز بونغو الابن على الاقتصاد والاستثمار، وأعلن مشروع «الغابون الناهض» الذي قال عنه إنه سيغير وجه البلاد في المدى القريب، لتخلص إلى القول: إنه «من الواضح أن سبع سنوات من الحكم لم تكن كافية ليقنع علي بونغو مواطني بلاده».
* بوادر الأزمة
وهكذا، خلال السنوات الأخيرة شهدت الغابون الكثير من الغليان السياسي، وتعرض علي بونغو لهجمات كثيرة تستهدف إضعاف حكمه، بدأت بانقسامات داخل الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم، وانتهت بالتشكيك في أصوله، بالإضافة إلى حرب كلامية شرسة أنهكت قوى النظام.
وهنا يقول دوغيلي «لم يدخر خصوم علي بونغو أي جهد لمنعه من الترشح للانتخابات؛ حتى أنهم شككوا في نسبه، ورفعوا دعوى قضائية أمام محكمة فرنسية. إلا أن هذه الهجمات التي كانت تقوم على حرب كلامية عنيفة، انتهت بالفشل حين صادقت المحكمة على وثيقة ميلاد علي بونغو».
ولكن اللافت أن الأزمة السياسية التي عاشت الغابون بوادرها في السنوات الأخيرة، تأتي أيضا في فترة ضعف وتشرذم للمعارضة التقليدية، خاصة بعد وفاة بيير مامبودو (2011) وآندريه مبا أوبامي (2015)، وهما شخصيتان من أبرز زعامات المعارضة الراديكالية. غياب هاتين الشخصيتين خلق ظروف التأزم داخل الحزب الديمقراطي الغابوني الحاكم، وفق ما يشير إليه دوغيلي، قبل أن يضيف: «لقد هيأ ضعف المعارضة بعد وفاة قادتها، ظروف التأزم داخل الحزب الحاكم، خاصة بعد الخلاف القوي بين الرئيس علي بونغو والقيادات التقليدية للحزب».
ومن ثم، حدثت موجة انسحابات واسعة من الحزب الحاكم، وكان أغلب المنسحبين زعامات تقليدية تعتقد أنها لم تجد المكانة التي تستحق مع الرئيس علي بونغو، فظهرت معارضة جديدة هي في الحقيقة جزء من النظام مغاضب للرئيس. وكانت هذه المعارضة الجديدة تراهن على أن علي بونغو لن يكمل ولايته الرئاسية الأولى، ويتكلمون في أنشطتهم السياسية عن «انقلاب عسكري وشيك» أو «تمرّد شعبي على الأبواب».
في هذه الأجواء المتأزمة ظهر جان بينغ، الذي قدم نفسه كمعارض شرس لنظام بونغو، فتلقفته المعارضة بسرعة لأنه يملك مؤهلات تجعل منه ندًا مناسبًا للرئيس. فهو ابن تاجر صيني وسيدة تتحدر من قبيلة الأومبووي بجنوب الكاميرون (المجاورة للغابون)، وسبق أن شغل منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس الراحل عمر بونغو الذي كان قد وقف خلفه عام 2008 حتى أصبح الأمين العام لمفوضية الاتحاد الأفريقي. إلا أن بينغ غادر المفوضية عام 2012 وهو يتهم حكومة بلاده بالتخلي عنه والتقاعس عن دعمه، فتفجر الخلاف الشخصي بينه والرئيس. وهذا الخلاف تطور إلى قطيعة تامة عام 2014. مع أن بينغ سبق له الزواج من باسكالين ابنة عمر بونغو وأخت علي بونغو، وهي أم ولديه. وبالنظر إلى مسار العلاقة ما بين الرجلين يتضح مدى التعقيد الذي يطبع الأزمة في الغابون.
إن ما يجري في الغابون ليس مجرد أزمة سياسية ذات طرفين: معارضة تسعى للسلطة ونظام مصر على البقاء، بل هو أكثر تعقيدًا بكثير. فأولئك الذين يقفون اليوم ضد الرئيس علي بونغو، ويحرّكون الشارع ضده بحجة هيمنة عائلته على الحكم لنصف قرن، كانوا من ضمن الدائرة المقربة منه ومن والده عمر بونغو، في مقدمتهم جان بينغ صهر الرئيسين الأب والابن السابق الذي ترعرع في حضن نظام عائلة بونغو وكان قريبًا جدًا منها؛ بالإضافة إلى رئيس الوزراء السابق كازيمير إيوي مبا؛ ورئيس البرلمان السابق نزوبا انداما.
* الإخوة الأعداء
يطغى الجانب الشخصي على الأزمة المحتدمة في الغابون، لتتحول إلى صراع ما بين رجلين، خرجا من رحم نظام عمر بونغو الذي حكم البلاد لأكثر من نصف قرن، إنهما الرئيس الحالي علي بونغو وزعيم المعارضة جان بينغ.
علي بونغو اونديمبا: ولد عام 1959. في مدينة برازافيل، العاصمة الحالية للكونغو الديمقراطية، وذلك قبل استقلال بلاده عن فرنسا بعام واحد، وتولى والده الحكم وهو في الثامنة من العمر. بعدها تلقى تعليمه في فرنسا حيث تخرج بشهادة عليا في القانون، ثم بدأ مساره المهني عام 1987 في ديوان رئيس الجمهورية الذي هو والده.
وتقلّب علي بونغو في المناصب الحكومية وزيرا للخارجية (1989 - 1991)، ثم نائبا في البرلمان (1991 - 1999)؛ ثم وزيرا للدفاع (1999 - 2009). وفي الفترة نفسها كان يشغل منصب نائب رئيس الحزب الديمقراطي الغابوني الذي رشحه للانتخابات الرئاسية التي نظمت عقب وفاة والده عام 2009. ليحقق الفوز بنسبة 42 في المائة.
جان بينغ: ولد عام 1942 في مدينة بور جانتيل، العاصمة الاقتصادية الحالية للغابون، وكان والده تاجرًا صينيًا وصل إلى البلاد في عشرينات القرن الماضي، ثم تزوج من فتاة غابونية من أصل كاميروني. ونجح التاجر الصيني في ابتعاث ابنه إلى فرنسا من أجل الدراسة، ليتخرج بشهادة دكتوراه دولة في العلوم الاقتصادية من جامعة باريس - السوربون.
بدأ بينغ مساره المهني كموظف دولي في منظمة اليونيسكو بباريس عام 1972، ليصبح الممثل الدائم للغابون في المنظمة الدولية (1978 - 1984). ثم ترأس عن بلاده عام 1993 منظمة الدول المصدرة للبترول؛ ولكنه دخل الحكومة في بلاده من بوابة وزارة الخارجية (1999 - 2008)، وفي الفترة نفسها ترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة (2004 - 2005)؛ كما ترأس مفوضية الاتحاد الأفريقي (2008 - 2012).
كان عدم التجديد له على رأس المفوضية الأفريقية واحدًا من الأسباب التي أدت إلى الشرخ القوي بينه والرئيس علي بونغو، بالإضافة إلى أن جان بينغ يرى أن مساره المهني ومؤهلاته تجعل منه الوريث الحقيقي لعمر بونغو.



أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
TT

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات المتبادلة و«المُتفق على موعدها وأهدافها» بين طهران وتل أبيب، ولتعود مخاطر عمليات تهريب المخدرات والسلاح على الواجهتين الشمالية والشرقية، وتدخل الجبهة الغربية على الحدود مع دولة الاحتلال على خطوط التهريب، لتعويض الفاقد من المواد المخدّرة في أسواق المنطقة.

سارع الأردن لتأمين سلامة أرضه، ومنع اختراق أجوائه، وممارسته لسيادته بعد ليلتين متباعدتين سعت طهران من خلالها إلى «حفظ ماء الوجه بتوجيه صواريخ لم تنجح في الوصول إلى أهدافها داخل إسرائيل». وبالنتيجة، أسقطت الدفاعات الجوية الأردنية صواريخ إيرانية في الصحراء الشرقية وعلى الحدود الشمالية مع سوريا.

وفي حين اعتبرت بعض الجهات أن «الدفاعات الجوية الأردنية انطلقت حماية لإسرائيل»، أكدت عمّان على لسان مصادر مطلعة أن «الضرورة تتطلب اعتراض أي صواريخ عابرة لسماء المملكة، بعيداً عن المواقع الآهلة بالسكان، ومخاطر تسبّبها بخسائر بشرية، أو أضرار مادية». وبالتالي، جاء القرار العسكري محصّناً بأولوية حماية أرواح الأردنيين. وأردفت المصادر من ثم أن «مَن يريد ضرب إسرائيل فأمامه حدود لبنان الجنوبية أو الحدود السورية مع الجولان المحتل»؛ لأن من هناك تكون الصواريخ الإيرانية أقرب لتحقيق أهدافها، بدلاً من إطالة المسافة بمرورها عبر سماء المملكة، واحتمالات سقوطها في مواقع حيوية على الحدود الغربية مع دولة الاحتلال.

في الواقع، تابع المواطنون الأردنيون ليلة الثالث عشر من أبريل (نيسان) وأيضاً في أكتوبر (تشرين الأول)، عرضاً ليلياً بإضاءات الدفاعات الجوية وإسقاطها صواريخ إيرانية عبرت فضاءات الأردن على وقع الكلام عن دعم طهران لغزة ضد العدوان الإسرائيلي، والانتقام لاغتيال إسماعيل هنية، رئيس حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، أثناء زيارته الرسمية للمباركة بفوز الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في انتخابات الرئاسة، وكذلك الانتقام من تصفية قيادات الصفوف المتقدمة في «حزب الله» اللبناني، وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي.

وفي المقابل، أمام التقدير العسكري الأردني في أولوية إسقاط الصواريخ الإيرانية أثناء عبورها سماء المملكة ومنع سقوطها بالقرب من مناطق سكنية، أكّدت عمّان، عبر قنوات اتصال أمنية مع إسرائيل، ورسائل أردنية إلى الإدارة الأميركية، تصدّيها لأي هجوم إسرائيلي على طهران قد يستخدم سماءها بذريعة الردّ على ضربات إيرانية محدودة في الداخل الإسرائيلي.

توضيح الموقف الأردني

هنا استعاد جنرالات أردنيون تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» ذاكرة المفاوضات مع إسرائيل قبل صياغة «قانون معاهدة السلام» المتعارف على تسميته «اتفاق وادي عربة من عام 1994»، ومنها تمسّكهم - آنذاك - بتحديد تل أبيب مدىً جغرافياً للرد على أي هجوم مُحتمل «على أن يضمن ذلك عدم انتهاك الأجواء الأردنية وإسقاط أي أجسام متفجرة داخل حدود المملكة الغربية». ومما سمعناه أن «نبوءة» المفاوضين الأردنيين من قيادات القوات المسلحة، كانت تقرأ مستقبل التطورات في منطقة متخمة باحتمالات الحرب، وموقع الأردن بين «فكي كماشة» بضم «محور الممانعة» من جهة وإسرائيل من الجهة المقابلة. وبناءً عليه؛ اضطر الجيش إلى التعامل مع الصواريخ الإيرانية العابرة التي قد تُسقط داخل الأراضي الأردنية. ومن المعلوم بأن الحدود الغربية مأهولة بالسكان؛ وبذا تبادر دفاعات الجيش الأردني الجوية بالرد على تلك الصواريخ دفعاً لسقوطها في الصحراء الشرقية بعيداً عن السكان، غير أن بعض حطام تلك الصواريخ وقع حقاً في مناطق من العاصمة ومحافظات الوسط، ولقد وثقتها كاميرات الهواتف الذكية فيديوهات، وجرى نشرها على منصات التواصل الاجتماعي.

إيمن الصفدي (رويترز)

نشاط عمّان الدبلوماسي ترك انطباعاً بأن انفتاح الحراك

على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي

لحماية المصالح الأردنية

عبر الأجواء السورية

من ناحية ثانية، وجّهت إسرائيل قبل أسبوع ضربة صاروخية على مواقع عسكرية إيرانية. وأفادت معلومات مؤكدة بأن مسار الرد الإسرائيلي كان عبر الأجواء السورية، بعد نجاح الاختراق الإسرائيلي من ضرب رادارات متقدّمة للدفاعات السورية. ولقد أعادت تل أبيب في هذا المشهد التأكيد على انتهاكاتها المستمرة بحق «دول الجوار»، وأمام صمت دولي ومباركة أميركية بعد توافر معلومات عن مواقع حددتها إسرائيل، ورأى مراقبون أن الرد جاء في سياق «معادلة ميزان القوى» في المنطقة ضمن حدود الحرب المنتظرة أو سياسة صناعة التوتر في المنطقة عبر «حرب استنزاف»، تسبّبت في سقوط آلاف القتلى والجرحى والمفقودين ومئات آلاف النازحين في غزة ومن جنوب لبنان.

زوايا حرجة في العلاقة مع إيران

توازياً مع ما سبق، وفي زيارة مفاجئة حمل وزير الخارجية أيمن الصفدي في الثامن من أغسطس (آب) الماضي رسالة من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أكد خلالها الصفدي أن الزيارة جاءت «بتكليف من الملك عبد الله الثاني لتلبية الدعوة إلى طهران»، مضيفاً أن هدف الزيارة هو «الدخول في حديث أخوي واضح وصريح حول تجاوز الخلافات ما بين البلدين بصراحة وشفافية، والمضي نحو بناء علاقات طيبة وأخوية قائمة على احترام الآخر، وعدم التدخل في شؤونه، والإسهام في بناء منطقة يعمّها الأمن والسلام».

الزيارة والرسالة شكَّلتا «استدارة» أردنية في علاقتها مع إيران، ليتبعها خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لقاء جمع الملك الأردني وبزشكيان، في الثلث الأخير من سبتمبر الماضي، وهو لقاء بدأ موسّعاً بحضور بعض أركان وفدي البلدين، ثم اقتصر على مباحثات ثنائية لم يحضرها أحد، وظلّت تفاصيل اللقاء محفوظة لدى الزعيمين.

أيضاً، تلك الزيارة فتحت شهية البعض لـ«شيطنة» الموقف الرسمي الأردني واتهام عمّان بنقلها «رسالة تهديد» لطهران برد إسرائيلي حازم. غير أن الوزير الصفدي أكد في تصريحات رسمية مع نظيره الإيراني في حينه «أبلغت معالي الأخ بشكل واضح، لست هنا حاملاً رسالة إلى طهران، ولست هنا لأحمل رسالة لإسرائيل». وتابع أن «رسالة الأردن الوحيدة لإسرائيل أُعلنت في عمّان بشكل واضح وصريح، ومفادها وقف العدوان على غزة، ووقف جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني، ووقف الخطوات التصعيدية، والذهاب نحو وقف فوري ودائم لإطلاق النار يتيح العمل من أجل تحقيق سلام عادل وشامل... لن يتحقّق إلا إذا حصل الشعب الفلسطيني على حقوقه كاملة، وفي مقدمها حقه في الحرية والسيادة والكرامة في دولته المستقلة».

في مطلق الأحوال، ما كان المقصود من زيارة الصفدي الإيرانية تأكيد موقف حيال طهران وحلفائها فقط، بل كانت الزيارة في حد ذاتها رسالة إلى إسرائيل مفادها أن الأردن «يملك خياراته السياسية في الدفاع عن سيادته على أرضه وسمائه، وأن واحداً من الخيارات هو فتح قنوات الاتصال على وسعها مع طهران وأطراف الصراع في المنطقة»، بحسب مصادر تحدثت لـ«الشرق الأوسط» آنذاك.

استقبال عراقجي وميقاتي

ما يُذكر أنه في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي استقبل الملك عبد الله الثاني في عمَّان، وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وشدّد على «ضرورة خفض التصعيد بالمنطقة». وحذّر العاهل الأردني من أن «استمرار القتل والتدمير سيبقي المنطقة رهينة العنف وتوسيع الصراع»؛ ما يتطلب «ضرورة وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان خطوةً أولى نحو التهدئة»، مجدداً التأكيد على أن «بلاده لن تكون ساحة للصراعات الإقليمية».

ثم أنه إذا كان استقبال الوزير الإيراني، الذي زار الأردن ضمن جولة عربية مهماً لعمَّان، فقد سبق هذه الزيارة بيومين وصول رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى العاصمة الأردنية ولقاؤه الملك عبد الله الثاني. وكان في جدول أعمال الزيارة:

- أولوية دعم الجيش اللبناني وسط احتمالات النزول إلى الشارع في ظل مخاوف من احتكاكات محتملة بين ميليشيات حزبية محسوبة على زعماء لبنانيين.

- الحاجة إلى تطبيق القرار الأممي بنشر قوات من الجيش اللبناني في مناطق الجنوب التي تخضع لسيطرة «حزب الله».

- الاستفادة من فرص وقف إطلاق النار عبر هُدن يمكن تمديدها.

واستكمالاً لعقد المباحثات مع «محور الممانعة»؛ طار الوزير أيمن الصفدي إلى دمشق، التي شكَّلت حدودها الجنوبية مع الأردن وعلى مدى أكثر من عقد ونصف العقد، حالة أمنية طارئة للجيش الأردني. ذلك أنه يتعامل باستمرار مع صد محاولات قوافل مهربي المخدّرات وعصابات السلاح لتجاوز الحدود؛ وهو ما استدعى مواجهات مسلحة واشتباكات نهاية العام الماضي أسفرت عن سقوط قتلى وإلقاء القبض على مهرّبين لهم اتصالات مع خلايا داخل المملكة.

الصفدي حمل رسالة شفوية من العاهل الأردني إلى الرئيس السوري بشار الأسد، لكن لم يُكشف عن مضمونها. مع هذا، نشاط عمّان الدبلوماسي على مدى أيام الشهر الماضي، ترك انطباعاً لدى جمهور النخب المحلية، بأن انفتاح الحراك الدبلوماسي الأردني على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي لحماية المصالح الأردنية في ظل ما تشهده المنطقة من تصعيد عسكري خطير، وموقع المملكة على خطوط النار.

التهريب تهديد أمني

أردنياً، يُعتقد في أوساط الطبقة السياسية المطلعة، أن خطر تهريب المخدرات من الداخل السوري لا يزال يشكل «تحدياً أمنياً» كبيراً؛ الأمر الذي يستدعي إبقاء حالة الطوارئ لدى قوات حرس الحدود على امتداد الحدود الشمالية نحو (370 كلم) بين البلدين، لا سيما في ظل تحوّل مناطق في الجنوب السوري إلى مصانع إنتاج المخدرات، ونقلها من خلال عمليات التهريب إلى أسواق عربية وأجنبية عبر المملكة. ويضاف إلى ذلك النزف الاقتصادي المستمر منذ عام 2012، واستقبال اللاجئين وكُلف إقامتهم، وتراجُع أثر خطط الاستجابة الدولية للتعامل مع الدول المستضيفة للاجئين؛ إذ يستضيف الأردن نحو 1.3 مليون لاجئ سوري، معظمهم يقيمون خارج المخيمات التي خصصت لهم.

أمر آخر، يستحقّ التوقف عنده هو أنه لا يمكن فصل تلك الزيارة عن الملف الأردني الأهم، ألا وهو «الملف الأمني» المباشر. والحال، أنه لطالما بقي الجنوب السوري مسرحاً للميليشيات الإيرانية وغيرها، سيظل القلق الأردني من الخطر الآتي من الشمال، وبالتحديد، ستستمر المخاوف من تسرّب عناصر مسلحة بقصد «المقاومة» في فلسطين وعن طريق عمّان.

وبالفعل، جاء في بيان إن الرئيس الأسد والوزير الصفدي بحثا قضية عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم؛ إذ شدد الأسد على أن «تأمين العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين» هو «أولوية للحكومة السورية» التي أكد أنها قطعت شوطاً مهماً في الإجراءات المساعدة على العودة، خصوصاً في المجالين التشريعي والقانوني.وفي إطار الزيارة، أجرى الصفدي مباحثات موسَّعة مع وزير الخارجية والمغتربين السوري بسام الصباغ، ركّزت على جهود حل الأزمة السورية وقضية اللاجئين، ومكافحة تهريب المخدرات، إضافةً إلى التصعيد الخطير الذي تشهده المنطقة وجهود إنهائه.

الرئيس نجيب ميقاتي (إ.ب.أ)

 

حقائق

زيارة ميقاتي لعمّان... طلبتُ دعم أمن لبنان

فيما يخصُّ العلاقات الأردنية - اللبنانية، طلب الرئيس نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، في عمّان من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني دعم الجيش اللبناني بصفته القوة القادرة على التعامل مع احتمال تطور استخدام سلاح ميليشيات حزبية متباينة المواقف والولاءات، مع استمرار القصف الإسرائيلي الليلي على مناطق في الضاحية الجنوبية، وفي جنوب لبنان.وللعلم، يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي استقبل اللواء يوسف الحنيطي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية، في عمّان، قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون. وفي الواقع لم يخفِ الأردن الرسمي دعمه للجيش اللبناني وأولوية تزويده بكل الاحتياجات بصفته ضمانة لأمن لبنان وحامياً للسلم الأهلي، بينما المواقف بين الأحزاب السياسية والميليشيات المحسوبة عليها. وبموازاة أولوية تزويد الجيش اللبناني بمتطلبات فرض سيطرته لحماية الأمن الداخلي وتنفيذ استحقاق قرارات أممية، أعلنت عمّان أيضاً دعمها لجهود الاستقرار السياسي في لبنان عبر انتخاب رئيس جديد للبلاد، ما من شأنه تخفيف حدة الاحتقان والتوتر، خصوصاً بعد تطورات الأسابيع الأخيرة أمنياً وسياسياً على معادلات الإدارة السياسية للبلاد، وتحريك عمل مؤسسات لبنان الدستورية. وهنا يرى محللون أردنيون أن تراكم الفوضى على حدود المملكة الشمالية مع سوريا والشرقية مع العراق، وحالة اللااستقرار في لبنان التي تفاقمت مع استمرار العدوان الإسرائيلي، وزيادة نشاط خطوط تهريب المخدرات، وضع تجب مواجهته عبر مسارين: الأول، مسار أمني يتطلب رفع درجات التأهب لمنع أي اختراقات إيرانية للأمن الأردني، والثاني مسار سياسي يتعلق بمواصلة الجهود السياسية لاحتواء الخطر الراهن ومحاولة تجاوز أي تصعيد من شأنه دفع المنطقة وجوار الأردن نحو المجهول. ولكن في هذه الأثناء، واضح أن إسرائيل هي الأخرى تبحث عن إزعاج الأردن، بما في ذلك «عزف» حسابات خارجية على منصات التواصل الاجتماعي على وتر الفتنة، وإغراق الرأي العام في جدل الإشاعات وتأجيجها.