الديمقراطي الحقيقي هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية وليس من يتمناها في برجه العالي

محمد نور الدين أفاية في «النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»

الديمقراطي الحقيقي هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية وليس من يتمناها في برجه العالي
TT

الديمقراطي الحقيقي هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية وليس من يتمناها في برجه العالي

الديمقراطي الحقيقي هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية وليس من يتمناها في برجه العالي

سأركز في هذا المقال، على دراسة بعض القضايا التي أثارها الدكتور محمد نور الدين أفاية، في القسم الثاني من كتابه الجديد: «في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت لبنان، الطبعة 2014. وفيه عالج «الكثافة النقدية التي تتضمنها الفلسفة وعلاقتها بأسئلة الوجود والحياة، وللأبعاد النقدية الثاوية، بل والمكونة للديمقراطية، باعتبارها نظرة إلى الإنسان وإلى المجتمع، فضلا عن كونها سياسة تنبني من المساءلة والمراقبة» (ص 13). من خلال رصد مجموع القضايا التي تجعل من الفلسفة لا مجرد تأمل نظري بحت، بل فعلا مقترنا بالواقع المعيش وباليومي، حيث يدعونا إلى إعادة النظر في طريقة وأساليب عمل الفلسفة، وربطها بالواقع اليومي المعيش، بما هي نشاط يمنحنا الحياة السعادة بالمعنى الأبيقوري. حيث يذهب إلى أن الفلسفة، كمادة فكرية وتربوية، تبقى «رغم وضعيتها المؤسسية والثقافية، مجالا للتنوير والتحفيز والاجتهاد. بل إنه من الأفضل، بجميع التقديرات، دعم الدرس الفلسفي داخل المؤسسات وترسيخه، بدلا من ترك الميدان حرًا للنزعات اللاعقلانيّة، حيث ينتعش التحجر، واللاتسامح، وإعدام التاريخ» (ص 122). وهذا ما يجعلنا نعتبر أن غايات الدرس الفلسفي تتجاوز الممارسة الفصلية، وتخترق جدران الفصل الدراسي نحو الخارج، حيث تدعو إلى قيم إنسانية نبيلة غير مستساغة لذوي النزعة اللاعقلانية، ولذوي النزوع نحو التحجر والتعصب.
ويقف كثيرًا على وضعية الدرس الفلسفي بالمغرب، ويعتبره درسا تحيط به إكراهات وضغوط تتعلق بالمناخ الثقافي العام، وبما هو مؤسسي، وبغياب الشروط المادية، حيث يقول: «يعيش الدرس الفلسفي، سواء كان جامعيا أو ثانويا، مجموعة ضغوط، منها ما هو مؤسسي وما هو رهين بالسياق المادي، ومنها ما يتصل بالوضعية النظرية التي يتحرك ضمنها، وبالمناخ الثقافي العام الذي يتفاعل معه سلبا أو إيجابا» (ص 120). وبطبيعة الحال، أمكننا تلخيص هذه الضغوط في طبيعة المجتمع المغربي، حيث تحضر السلطة التقليدية والمحافظة بقوة في القرار السياسي، ناهيك عن الثقل التاريخي الذي نحمله معنا منذ مأساة ابن رشد.
يفرض علينا النظر إلى طبيعة العلاقة بين المؤسسة التعليمية والفلسفة، افتراض أن هناك اختلافا جوهريا بين أهداف وغايات الفلسفة، وأهداف وغايات المؤسسة التربوية. ففي الوقت الذي تتجه فيه الفلسفة نحو نقد المألوف والسائد، وخلخلة الدوكسا (المعتقد الشائع)، والثابت، والآراء المسبقة حول المجتمع وثقافته وسلوكياته، تتجه المؤسسة بصفة عامة، نحو تكريس السائد، وإعادة إنتاج التقليد، والمحافظة على الآيديولوجيا المهيمنة. تبدو وظيفة المدرس حقا مختلفة عما ألفناه، في حين أنه كخبير ومختص في مادته التدريسية، فهو لا يقوم بأي شيء إبداعي أو خارق، لأنه يقوم فقط بمساعدة التلاميذ على فهم النصوص وتفكيك المضامين، وتدريبهم على الكتابة الإنشائية. وعلى الرغم من ذلك، يبقى مدرس الفلسفة بكل سلطاته التربويّة والمعرفيّة والمهنيّة، في خدمة المؤسسة التعليميّة للأسباب التي ذكرناها أعلاه. لذلك نتفق مع دريدا في أنه لا وجود لمكان محايد وطبيعي في التعليم، أي أن الأمر يتعلق باتخاذ موقف سياسي، أي موقف القبول أو رفض اللعبة: هذا هو منطق السياسة. وهو ما يرفضه سلافوي جيجيك، حينما يعتبر أن الفلسفة والسياسة مفترقتان: ففي الوقت الذي تتجه فيه السياسة صوب تدبير وتسيير وتقويم المجتمع، أي حل المشكلات، تتجه الفلسفة نحو إثارة المشكلات وعلى الأخص المشكلات الجديدة؟ وبهذا المعنى تقف الفلسفة في وجه المؤسسة لأنها تخدم أغراض السياسة.
ليست تأملات الدكتور بنوع التأملات الفارغة من المعنى، ولا بنوع الشعارات الرنانة التي تعودنا سماعها في النقاشات الجارية، بل هي نابعة من عمق غيرته على الدرس الفلسفي، في بعده المنهجي والمعرفي أيضا، لأن «التفلسف معناه أن تفكر فيما تعرف وما تعيش وما تريد» (ص 101)، وهو بذلك يخترق جدارا يعرف جيدا أنه ليس بهين: فكيف لنا أن نفكر فيما نعرف وما نعيش وما نريد؟ إن الدعوة إلى تأمل المعيش والتساؤل عن البديهيات والأحكام المسبقة، لهي مغامرة حقيقية، من دونها لا يمكن الحديث عن تفلسف حقيقي. فهذا الأخير «ليس مجرد ادعاء أو مغامرة، بل هو عمل وجهد لا يحصل من دون قراءات وأدوات بل معاناة»، إن التفلسف يفيد في نظر الدكتور: «نقد للمسبقات والأوهام وللآيديولوجيات... إنه عمل وكفاح سلاحه العقل وأعداؤه تعبيرات البلاهة والتعصب والانغلاق وحلفاؤه مختلف العلوم، وهدفه الحكمة والسعادة» (102)، وهنا تتضح بجلاء عمق النزعة الأبيقورية التي يستحضرها ويستشهد بها غير مرة: «الفلسفة نشاط يمنحنا الحياة السعيدة من خلال الخطاب والبرهنة».
يؤمن الدكتور إيمانًا عميقًا بقدرة الفلسفة على القيام بوظيفتها النقديّة، فعلى الرغم من الصورة السلبيّة التي يرسمها الجميع عن درس الفلسفة، و«على الرغم من كل العوائق التي لا تزال تحيط بالدرس الفلسفي في المغرب وفي العالم العربي ككل، فإن هناك بصيص أمل، هناك من لا يزال يجتهد داخل الحقل الفلسفي، ولا تزال أنوية شابة تعمل على توصيل السؤال وتبليغ الهم الفكري».
ينطلق الدكتور لبحث العلاقة الشائكة بين الفلسفة والديمقراطية، من التساؤلات التالية: هل يمكن تصور دور ما للفلسفة في ظل التحولات الجارفة الجارية على الصعيد الدولي؟ هل يحتمل منطق العولمة، بانكساراتها وأزماتها وحساباتها، إمكانية إدخال هامش من التأمل والتفكير؟ ما هو دور الفلسفة في المجال الديمقراطي؟ كيف يمكن للفلسفة، وللديمقراطية معها، أن تساهم في تكوين المواطنين؟ وما هي وسائلها ومقاصدها؟
تمثل تغيرات السيّاسة في عالم اليوم، الهاجس الأكبر للدكتور في اختياره لموضوعة الديمقراطيّة، ناهيك عن محيطنا الثقافي والسيّاسي والاجتماعي، أي الطبيعة المركبة لمجتمعنا المغربي. بحيث يدعو إلى تدقيق النظر في العلاقة بين الفلسفة والديمقراطية من خلال رصد الموقفين المتعارضين حول دور الفلسفة اتجاه الديمقراطية، لأنه «يصعب تصور تسخير الأولى قصد تحقيق الثانية» (117)، وسيكون من الخطأ «اعتبار الفلسفة دعامة للديمقراطية بالضرورة، وسنكون واهمين إذا عملنا على تنمية تدريس الفلسفة وانتظرنا، من خلال ذلك، نتائج تخدم وتنشر القيم الديمقراطية بكيفية آلية ونفعية». هكذا يرى «إنه من الصعب الاستنتاج بأن أي فيلسوف أو من اكتسب معرفة فلسفية، إنسان ديمقراطي بالضرورة، ويشهد تاريخ الفكر الفلسفي على هذا التعارض الصارخ بين الفلسفة وسؤال الديمقراطية، بحيث إن السياق يفرض نفسه: ألم يدافع توماس هوبز عن الحكم الملكي المطلق في وجه الجمهوريين باسم المصلحة العامة؟ فالديمقراطي الحقيقي في نظره هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية، وليس ذلك الذي يتمنى الديمقراطية في برجه العالي وكأنها قدر ستأتي يوما لا محالة». غير أن الديمقراطية لا تفيد في نظره مجرد أسطورة أو حكاية بل هي ممارسة لا تخلو من سلبيات، وتقبل التطور والتغير، من هنا يستحضر النقاش المعاصر الذي دشنه الفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس إلى جانب رواد الليبرالية السياسية الأميركية: جون راولز وتشارلز تايلور حول الديمقراطية التمثيلية والتي تعيش أزمة حقيقية في عصر العولمة.
لقد أبانت العولمة عن حدود الديمقراطية التمثيلية، من جهة ظهور مؤسسات عالمية تدير حكما سياسيا دوليا، وهي مؤسسات تمارس سلطتها على مجموع الكوكب من دون حاجة إلى أي شرعية انتخابية أو شعبية، من قبيل مجموعات الدول الثماني الكبار أو مجموعة العشرين، التي تضع مصير مواطني العالم بين أيدي الشركات المتعددة الجنسية. ولنأخذ كمثال على ذلك، اتفاقية (الاتفاقية متعددة الاستثمار)، التي تمنح الحق للشركات للاعتراض على قرارات دولة ما، تمس بمصالح الشركة. لقد صار قرار الدولة بسيادتها ومؤسساتها وعمليتها السياسية ككل، موضع سؤال، وتعاظم دور الاقتصاد أمام دور الدول.
يقترح أفاية، توليفة متأنية وعميقة للدور المفترض للفلسفة تجاه الديمقراطية، لأن «ممارسة التأمل الفلسفي لا تفهم بوصفها مقاربة لتاريخ الأفكار، بمقدار ما يفترض فيها المساعدة على تكوين المواطن وتطوير حسه النقدي التحليلي، وتقديره لتنوع الحجج واختلافها ووعيه بنسبية الأمور. وتمثل المساهمة في تنمية القدرة على الحكم معطى أساسيًا في الحياة الديمقراطية، خصوصًا إذا ما حصل تجاوز الإطار الضيق للاختصاص، وتلاه الانفتاح الملائم على وسائط الاتصال الجديدة، لمحاربة الأمية الفكرية ونشر الفكر العقلاني» (120)، بحيث إن ما يقرب الفلسفة من الديمقراطية، في نظره، هو القدرة على النقد الذاتي، أي قدرة الفلسفة على إعادة النظر في أساسياتها وقدرة الديمقراطية على تطور مؤسساتها في خدمة المواطنين.
لا تسير الفلسفة مع الديمقراطية دوما في اتجاه واحد، كما أن حضور الفلسفة في بلد ما من البلدان لا يقترن بالضرورة بالديمقراطية، بل يرتبط الأمر بالإرادة السياسية وبمرونة القرار السياسي، وأن التاريخ الثقافي والفكري لبلد ما قد لا يساير تاريخه السياسي. فهناك: «بلدان ديمقراطية لا تعير الفلسفة أي اهتمام، ولا تدمجها في نظامها التربوي، أو تستدعيها في حياتها الثقافية، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية». وبهذه الإشارة، فإن رهان مؤسسة اليونيسكو أن تحقق الفلسفة وتعزز الديمقراطية في بلدان مستبدة أو أوثوقراطية، هو رهان يقبل النقض. وعلى العكس من ذلك، نجد الفلسفة حاضرة بقوة في بلدان غير ديمقراطية، ما يطرح السؤال حول أطروحة اليونيسكو. يحدد الدكتور التقاء الفلسفة والديمقراطية في أربعة مستويات: الشك: بحيث إن البحث عن الحق والمناقشة حول العدالة يتطلب: خلخلة اليقينيات، ومساءلة الثابت، والانتقال من الأجوبة إلى الأسئلة؛ الكلام، أي ضرورة المناقشة والنقد ومواجهة حجج الآخرين، سواء في مجال الفكر الفلسفي أو في معترك السياسة؛ المساواة: لأن المساهمة في الحوار والمناقشة لا يتطلب أي ترخيص أو أي سلطة أو صفة، بل القدرة على الكلام والإقناع والحجاج؛ التأسيس الذاتي: بحيث إن «الفلسفة والديمقراطية تستمدان قوتهما من ذاتيهما، ولا تخضعان لأي قوة عير منبعثة منهما».
تمثل هذه المستويات بحق مجالات اشتغال الفلسفة السيّاسيّة والعلوم السيّاسيّة معًا، مع افتراض التمايز الممكن بين الخطاب الفلسفي وبين الخطاب السيّاسي، ففي الوقت الذي يتجه هذا الأخير، نحو غايات نفعيّة ولحظيّة تهدف إلى تدبير الشأن العام، فإن الخطاب الفلسفي يهدف إلى مساءلة الخطاب السياسي برمته، وإلى إثارة المشكلات لا كما يراها السيّاسي ذو النظرة الضيقة – ولربما لأنها تتعارض ومصلحته الخاصة – وإنما كما يراه منطق العقل في تاريخيته وفي بعده الكوسموبوليتي. وبموجب هذا، يقر «إن الفلسفة في الأول والأخير، اختيار فكري وتربوي وسياسي، نجد من يعتبره وسيلة لتعزيز العملية الديمقراطية، وتحفيز التفكير الحر، ونلقى، في المقابل، من يرى أن هناك أولويات اقتصادية واجتماعية يتعين توفيرها، أولا، قبل الانشغال بقضايا الفلسفة وبأمور تدريسها»، وعلى الرغم من ذلك، فالقرار السياسي يستحضر البعد الديمقراطي للفلسفة، لأن مهمة الفلسفة هي «تكوين المواطن، وتطوير حسه التحليلي، وتقديره لتنوع الحجج واختلافها، ووعيه بنسبية الأمور».



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.