«الاستثناء التونسي» والفرصة الأخيرة

حرب ليبيا والتهريب والإضرابات أولويات حكومة «الوحدة الوطنية» الجديدة

رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)
TT

«الاستثناء التونسي» والفرصة الأخيرة

رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء التونسي الجديد يوسف الشاهد يصل لأول اجتماع للحكومة في قصر قرطاج في العاصمة (أ.ف.ب)

خلافا لما ورد في أغلب التقارير الإعلامية، نجح الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي وشركاؤه في الأحزاب والنقابات الكبرى في إنجاح مبادرته السياسية التي أعلن عنها قبل 3 أشهر التي دعا فيها إلى تشكيل حكومة «وحدة وطنية» تذكر بالحكومات الأولى التي شكلها الحبيب بورقيبة زعيم تونس الراحل بعد الاستقلال عن فرنسا. وخلافا لتوقعات المتشائمين والمعارضين اليساريين والنقابيين صوت لصالح هذه الحكومة ثلاثة أعضاء البرلمان بينهم نواب يمثلون أحزابا رفضت المشاركة في تشكيلتها.
وخلافا لتشكيلة الحكومات السابقة عُين على رأس هذه الحكومة وزير شاب في الأربعين من عمره ينتمي إلى حزب الرئيس، كما اختارت الأحزاب لتمثيلها فيها سياسيين من بين «المعتدلين» الذين لم يكونوا طرفا في الصراعات الآيديولوجية والسياسية وأعمال العنف التي شهدتها البلاد في العقود الماضية. فهل تنجح هذه الحكومة في تحقيق الأهداف التي تشكلت من أجلها وعلى رأسها معالجة ملفات الإرهاب ومضاعفات الحرب مع ليبيا واستفحال العجز التجاري وعجز كبرى المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التابعة للدولة؟ وهل تنجح تونس - من خلال حكومة يوسف الشاهد في إثبات صواب «النموذج التونسي للانتقال الديمقراطي السلمي وللتوافق بين الليبراليين واليساريين المعتدلين والإسلاميين الديمقراطيين» أم يحصل العكس؟

تتباين المواقف والتقديرات في صفوف المراقبين والباحثين التونسيين هذه الأيام بين متفائل ومتشائم ومتعامل بحذر مع «الطبخة التونسية الجديدة».
ولعل من أبرز مفارقات هذه الحكومة، التي هي التاسعة منذ انفجار «الربيع العربي»، أن بعض منتقديها والمتخوفين من إخفاقها ينتمون إلى قيادات النقابات والأحزاب المشاركة في تشكيلتها.
لكن حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي لحزب «نداء تونس»، ونور الدين البحيري، نائب رئيس حزب «حركة النهضة» الإسلامي ورئيس كتلته في البرلمان، يؤكدان مع عدد آخر من الساسة والنقابيين وزعماء الأحزاب الصبغة التاريخية للتحالف الحكومي الجديد الذي ضم لأول مرة ليبراليين وشخصيات من نظام زين العابدين بن علي ورموزا من التيارات اليسارية والنقابية «المتشددة» وقيادات من تيار «المسلمين الديمقراطيين» من خريجي الجامعات الأوروبية والأميركية.
* ورقة رابحة؟
ويفتخر يوسف الشاهد، رئيس الحكومة الجديدة، بكونه نجح في الحصول على ثقة البرلمان في فريق يضم لأول مرة زعماء نقابيين بارزين بينهم الوزراء الجدد للشؤون الاجتماعية والوظيفة العمومية والتربية والتعليم والزراعة، وهم على التوالي محمد الطرابلسي وعبيد البريكي وناجي جلول وسمير الطيب. كما يفتخر رئيس كتلة حزب «نداء تونس» في البرلمان سفيان طوبال بكون رئيس الحكومة الجديد ينتمي بوضوح للقيادة العليا لحزبه، الذي كان الفائز بالمرتبة الأولى في انتخابات 2014. خلافا لسلفه الحبيب الصيد الذي كان يصنف «مستقلا» رغم أنه كان وزيرا للداخلية في حكومة الباجي قائد السبسي الأولى عام 2011. وينوه قياديون في الحزب نفسه بكون نوابه الـ67 والمنشقين عنه الـ22 دعموا سياسيا رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد، بما حسن موقعه التفاوضي مع منافسيهم الرئيسيين نواب «حركة النهضة»، وفي المقابل حسنت «الحركة» حجم تمثيلها في التشكيلة الجديدة «لكنها بقيت في الصف الثاني بعد حزب قائد السبسي رغم كونها أصبحت صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان بـ69 مقعدا»، على حد تعبير الأكاديمي والمحلل السياسي عبد اللطيف الحناشي.
* الدولة أولاً
تصريحات راشد الغنوشي زعيم حزب «حركة النهضة»، الذي خرج بـ6 حقائب وزارية بينها الصناعة والتجارة والاتصالات والاقتصاد الرقمي، شددت على أن مفاوضاته مع الرئيس التونسي قائد السبسي ومع رئيس الحكومة المعين يوسف الشاهد حول توزيع الحقائب «أعطت الأولوية لمصالح الدولة على المصالح الحزبية». ولذلك دعم الحزبان الكبيران - النداء والنهضة - بقوة مبدأ عدم تغيير وزراء الدفاع والداخلية والخارجية والتربية، كما وافقا على إشراك قيادات من نقابات العمال ورجال الأعمال والفلاحين «بهدف توجيه رسالة طمأنة للشعب التونسي والمستثمرين والمراقبين العرب والأجانب حول بروز مؤشرات جديدة للإصلاح واستقرار الأوضاع في البلاد». والموقف نفسه الذي يؤكد «انتصار المصالح العليا للدولة على الاعتبارات الحزبية» برز على لسان برلمانيين من عدة أحزاب وثلة من مستشاري قائد السبسي ومقربين منه، بينهم فيصل الحفيان ورؤوف الخماسي ونور الدين بن نتيشة. ودعم هذا التوجه بشكل غير مسبوق أمين عام اتحاد نقابات العمال حسين العباسي، ورئيس نقابات الفلاحين عبد المجيد الزار، ورئيس نقابة الصناعيين والتجار وداد بوشماوي، فضلا عن قادة الأحزاب الصغرى المشاركة في الائتلاف الحكومي الجديد.
* استبعاد «الصقور» و«المناضلين»
لعل من أهم مميزات الحكومة الجديدة أن الشخصيات التي تمثل الأحزاب فيها لا تصنف ضمن «الصقور» و «المناضلين» و «الزعماء التاريخيين» «خلافا للحكومات المتعاقبة منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2014، فقد وقع تمثيل حزب قائد السبسي بـ«تكنوقراط» من بين المقربين منه ليس بينهم أحد المؤسسين للحزب قبل 4 سنوات، بعد سلسلة الاستقالات والإقالات التي شملتهم. كما اختار زعيم «النهضة» راشد الغنوشي أن يكون ممثلوه في هذه الحكومة سياسيين من «الجيل الجديد» ليس بينهم أي عضو من «القيادة التاريخية» لمرحلة «سنوات الجمر» ومرحلة الصراع الطويلة بين التيار الإسلامي ونظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي في العقود الماضية.
ولقد أسندت الحقيبة الأهم من حصة «النهضة» أي الصناعة والتجارة للأمين العام الجديد للحزب زياد العذاري، وهو محام في العقد الخامس من عمره من بين خريجي جامعة باريس - السوربون الفرنسية - ممن لم يسبق لهم أن عرفوا السجون والمنافي والمعارك مع النظام، كما أسندت حقيبة التشغيل إلى الناطق الرسمي السابق للحركة وهو برلماني سابق عرف باعتداله ودفاعه عن خيار «المصالحة الوطنية الشاملة» ويرفض تصنيف حركته ضمن تيار «الإسلام السياسي» العربي ويعتبرها تيارا من «المسلمين الديمقراطيين» على غرار الأحزاب «المسيحية الديمقراطية» في أوروبا.
وقد عوّض العذاري في هذا المنصب رئيس الحكومة الأسبق علي العريّض الذي حوكم بالإعدام والمؤبد أكثر من مرة في عهد بورقيبة وبن علي وقضى 16 سنة في السجن قبل أن يشغل رئاسة الوزراء بعد تولي «النهضة» السلطة ضمن ترتيب الشراكة الوطنية.
في المقابل، استبعد يوسف الشاهد من حكومته زعماء أحزاب حرصوا على المشاركة فيها، مثل ياسين إبراهيم زعيم حزب «آفاق» وسليم الرياحي زعيم «الحزب الوطني الحر» واكتفى بتعيين شباب وسياسيين من الصف الثاني يمثلونهما.
هذا، ونسبت مصادر مسؤولة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى الرئيس قائد السبسي حرصه على أن تكون «حكومة الوحدة الوطنية» ممثلة لأغلب التيارات والقوى السياسية دون أن تتطور إلى «ناد لكبار الزعماء الحزبيين» بما قد يهدد تماسكها بعد مدة على غرار ما حصل مرارا في بعض حكومات لبنان وإيطاليا.
* قطيعة مع المناضلين
هذا التوجه يتناسق مع ترفيع نسبة الشباب والنساء في الفريق الحكومي لتبلغ نحو نصف أعضائها. إذ ينتمي الوزراء ووزراء الدولة الشبان إلى كل التيارات بما في ذلك الحزبين الكبيرين - النداء والنهضة - اللذين يتحكمان في ثلثي مقاعد البرلمان، لكن بعض السياسيين مثل مصطفى بن أحمد، البرلماني القيادي في حزب مشروع تونس الذي لديه 22 نائبا، يحذر من مخاطر الرهان على الشباب الذين قد لا تتوفر فيهم شروط الخبرة والكفاءة والنزاهة والإخلاص للوطن. وسار في التوجه نفسه سامي الطاهري الناطق الرسمي باسم اتحاد نقابات العمال. وفي هذا السياق حذر مراقبون ومختصون في علم الاجتماع السياسي، مثل المنصف وناس من سيناريوهات قد تواجه الوزراء والجيل الجديد من السياسيين في صورة اندلاع اضطرابات شبابية واجتماعية وأمنية جديدة. وعلى رأس تلك السيناريوهات وصول البلاد إلى مرحلة يعجز فيها «التكنوقراط» و «السياسيون الشبان والنساء» عن إقناع الشباب المهمش والثائر والعاطلين عن العمل والمضربين بسبب غياب «الكاريزماتية» والقدرة على الإقناع لديهم. ويعتقد عالم الاجتماع المهدي مبروك أن «استبعاد جيل المناضلين من القيادات السياسية والشخصيات الكاريزماتية سلاح ذو حدين، لأن الأوساط الشبابية والشعبية والنقابية تحتاج إلى زعماء قادرين على قيادتهم وليس إلى مجرد تكنوقراط وفنيين وشباب متخرج من الجامعات الأوروبية والأميركية.
* ملفات الأمن والإرهاب
إلا أن من أبرز التحديات التي سوف تحكم لصالح هذه الحكومة أو ضدها ملفات التنمية المستعجلة والأمن والإرهاب وانعكاسات حرب ليبيا على تونس. وفي هذا الإطار أكد خميس الجهيناوي، وزير خارجية تونس، «ألا نجاح ولا استقرار في تونس إذا لم تحسم الحرب في ليبيا وإذا تجددت التهديدات الإرهابية خصوصا في المناطق الحدودية». ورغم نجاح الحكومة السابقة في توجيه ضربات موجعة للمجموعات الإرهابية التي تسللت من حدود البلاد الجنوبية والغربية، بالشراكة مع الجزائر وعواصم غربية، فإنه يبقى خطر تجدد أعمال العنف السياسي واردا.
وللعلم، تزامن تشكيل حكومة يوسف الشاهد والأيام الأولى من تنصيبها بسلسلة من الهجمات والعمليات الإرهابية التي قتل فيها عسكريون ومدنيون في غابات جبال المحافظات المتاخمة للحدود الجزائرية التونسية. ويكشف تجدد مثل هذه الهجمات بعد نحو عام من التهدئة عن تشابك الأوضاع في تونس بالمستجدات الأمنية في جارتها ليبيا وفي عمقهما الاستراتيجي العربي والأفريقي، حيث تؤكد التقارير العسكرية والأمنية تضاعف عدد «المسلحين المتطرفين» الفارين من نيران الحروب مع مقاتلي «داعش» وحلفائه في سوريا ومالي ونيجيريا وتشاد.
* الوضع المالي
من جهة أخرى تعتبر التحديات الاقتصادية الاجتماعية بدورها من أخطر ما يواجه «الاستثناء التونسي»، حسب محافظ البنك المركزي السابق مصطفى كمال النابلي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»؛ إذ حذر النابلي مع اقتصاديين وخبراء مستقلين آخرين من مخاطر «عدم مصارحة الشعب والنقابات ورجال الأعمال بحقيقة المصاعب الاقتصادية التي تواجه البلاد، ومن بينها عجز ميزان المدفوعات والعجز التجاري وتراكم الديون الخارجية وعجز كثير من المؤسسات الوطنية، مثل الصناديق الاجتماعية وشركات الطيران والنقل البري ومؤسسات الفوسفات والأسمدة الكيمياوية والمصانع المصدرة.
بل إن الخبيرة الاقتصادية، جنات بن عبد الله، تحذر من وصول البلاد في عهد الحكومة الجديدة لأول مرة إلى مرحلة «العجز عن احترام تعهداتها المالية، بما في ذلك العجز عن تسديد الرواتب والأجور بعدما تضاعف حجم الأجور في ميزانية الدولة 3 مرات منذ ثورة 2011 في مرحلة تراجع فيها الإنتاج والإنتاجية والاستثمار».
ولقد كان الخطاب الافتتاحي لرئيس الحكومة الجديد أمام البرلمان مناسبة أطلق فيها صيحات فزع بسبب «الخطوط الحمراء الاقتصادية والاجتماعية» ومن بينها تراجع موارد الدولة من صادرات الفوسفات بسبب الإضرابات إلى نحو 30 في المائة فقط من قيمتها قبل 5 سنوات. لكن الشاهد بدا رغم ذلك متفائلا بـ«نجاح تونس الجديدة» و «النموذج التونسي للتغيير السلمي» رغم إقراره بتأثيرات الحرب في ليبيا والمحيط الإقليمي المتقلب «الذي تزايدت فيه مخاطر العنف السياسي والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة».
* أوضاع هشة
وهكذا، بسبب تراكم التحديات الاقتصادية والمالية تبدو الأوضاع في تونس في عهد الحكومة الجديدة هشة رغم رسائل التطمين التي وجهتها الأحزاب الكبرى وثلاثة أرباع أعضاء البرلمان الذين صوتوا لفائدتها، بل إن وزير المالية السابق والأكاديمي حسين الديماسي ذهب إلى حد توقع «انهيار قريب» لهذه الحكومة بسبب «الإفراط في الانفتاح على الأحزاب». واعتبر الديماسي مع عدد من السياسيين التونسيين، بينهم وزير التجارة السابق محسن حسن، أن «مشاركة 7 أحزاب و3 نقابات في تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية سيؤدي إلى شلل رئيس الحكومة الشاب بسبب صعوبة التوفيق بينها في القضايا المستعجلة والقرارات الوطنية الموجعة التي ستضطر إلى اتخاذها إذا تواصلت الأزمة الاقتصادية، وبينها قرارات بطرد عشرات الآلاف من العمال تشكو مؤسساتهم صعوبات مالية».
أما زعماء اليسار «الراديكالي» وقيادات «الجبهة الشعبية» الممثلة في البرلمان بـ15 نائبا فقد بدأوا مبكرا إصدار تصريحات وبلاغات وتقارير تنذر بـ«انهيار» هذه الحكومة التي يصفونها بأنها «حكومة ترضيات ومحاصصة بين الحزبين الكبيرين النداء والنهضة»، ويتهمونها بـ«التحالف مع صندوق النقد الدولي ومافيات المال الفاسد في الداخل والخارج ضد مصالح العمال والفقراء والمهمشين والشباب».
* الورقة الدولية
في هذا المناخ العام يتابع قادة الأحزاب الكبرى الليبرالية والإسلامية والقومية إعلان تفاؤلهم بانتصار «النموذج التونسي للانتقال السلمي والتغيير الهادئ» بالاعتماد على المجتمع المدني «على غرار ما جرى في صائفة 2013 عندما احتكم الفرقاء السياسيون إلى حوار وطني ساهم فيه قادة المنظمات الحقوقية والنقابية واستبعدوا فيه «الحل العسكري». وهنا يشير وزير الخارجية السابق رفيق عبد السلام إلى أهمية «الورقة الدولية» وتشجيع صناع القرار في عدة عواصم غربية للمسار السياسي التونسي الذي يقوم على «التوافق بين العلمانيين والإسلاميين وبين الليبراليين واليساريين، مع احترام نتائج صناديق الاقتراع والمؤسسات المنتخبة.
فهل تبادر واشنطن والعواصم الأوروبية بتقديم دعم مادي أكبر لتونس حتى تكسب رهانات رفع التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها؟
البداية ستكون من مقر صندوق النقد الدولي في واشنطن الذي تعهد بإسناد حكومة تونس بنحو 3 مليارات دولار من القروض الجديدة لتضمن احترام تعهداتها المالية الداخلية والدولية.. وحتى لا تضطر لإعلان «سياسة تقشف» قد تتسبب في اضطرابات اجتماعية وأمنية واسعة ينهار بسببها «نموذج الانتقال الديمقراطي» و «الاستثناء التونسي للتغيير السلمي».

* أكاديمي وإعلامي تونسي



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.