لمع اسم بولنت أرينتش على الساحة السياسية في تركيا على مدى أكثر من 40 سنة أمضاها تحت قبة البرلمان نائبا في أحزاب رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان، ثم في صفوف العدالة والتنمية الحاكم الآن، والذي شكل مع كل من الرئيس رجب طيب إردوغان والرئيس السابق عبد الله غل ثلاثة أضلاع قام عليها الحزب. ولقد عرف أرينتش على مدى مسيرته السياسية بالتواضع والتمسك بالمبادئ واختير رئيسا للبرلمان، كما عين في حكومات إردوغان المتعاقبة في أكثر من منصب وزاري وكنائب لرئيس الوزراء. غير أن علاقته بالرئيس إردوغان ساءت في الفترة الأخيرة، وخرج من فريق السلطة في مؤشر لافتراق الطرق بين رفاق الصف الواحد.
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة لم يبد أن بولنت أرينتش كان راضيا أو مقتنعا بطريقة تسيير الأمور داخل «العدالة والتنمية»، أو إجمالا في الحياة السياسية في تركيا، لكنه ظل صامتا حتى لا يستغل كلامه كمعول هدم للحزب الذي كان واحدا من أبرز من شيدوا بناءه. لكنه مع تطور الأحداث في تركيا بدأ يخرج عن صمته، فحاول أن يتكلم وطوّر فعل الكلام إلى الحركة بعد أن لاحظ جفوة من رفيقه إردوغان، لكن تدخل عبد الله غل كان حاسما لمنع تدهور العلاقة أكثر فأكثر.
خلال العام الماضي ظهر بولنت أرينتش، الذي عرف على مدى مسيرته في حزب العدالة والتنمية بأنه «ضمير الحزب» و«حكيم الحزب»، غير راض تماما عن الصراع بين إردوغان وحليفه السابق الداعية فتح الله غولن، الذي بات متهما بالوقوف وراء محاولة الانقلاب في تركيا منتصف يوليو (تموز) الماضي.
وحينما وجد أرينتش تصاعدا في تيار الهجوم على غولن وحركة الخدمة، المسماة الآن «منظمة فتح الله غولن»، أو «الكيان الموازي»، بسبب تحقيقات الفساد والرشوة التي طالت وزراء في حكومة العدالة والتنمية في نهاية عام 2013. والحملة على مدارس غولن، قال بجرأته المعتادة: «إذا كانت مدارس غولن هي الكيان الموازي فجميعنا من الكيان الموازي، لأن أولادنا تعلموا في هذه المدارس».
وقبل انتخابات السابع من يونيو (حزيران) 2015، أبدى أرينتش قلة رضاه على الأوضاع في تركيا، وتوقع أن يتعرض حزب العدالة والتنمية لهزة كبيرة. وهو ما حدث بالفعل، لكنه قال إن لديه الكثير من الأسرار التي يحتفظ بها وسيعلن عنها يوم 8 يونيو بعد ظهور نتيجة الانتخابات.
بعد ذلك لم يسمح له بالظهور على شاشة التلفزيون الرسمي «تي آر تي» الذي كان يقع تحت مسؤولياته كنائب لرئيس الوزراء. ولقد أبدى غضبه لذلك قائلا: «إنني منعت من الظهور على تلفزيون بلدي، الذي أشرف عليه لأنني فقدت مودة شخص ما» - في إشارة إلى إردوغان - وتطور الأمر بعد ذلك إلى الحيلولة دون ظهوره في ندوات في 5 جامعات تركية.
وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو الماضي أصبح أرينتش هدفا لهجوم مليح جوكتشيك، رئيس بلدية أنقرة، الذي كتب في تغريدات على «تويتر» موجها كلامه إلى أرينتش: «كل الناس يعرفون أنك خادم حركة الخدمة. فالجشع والطمع يلتهمونك، أنت مخادع والمؤمنون يكرهونك، حسبي الله ونعم الوكيل فيك».
ولم يتأخر رد أرينتش العنيف عبر حسابه على «تويتر» قائلا: «عندما تأسس حزب العدالة والتنمية وقف جوكتشيك مع أحد أحزاب المعارضة، ووجه جميع أشكال الإهانات لإردوغان وحزبنا. والجميع يعلم أنه انضم إلى حزب العدالة والتنمية بطريقة التوسل إلينا آنذاك، وليس من الممكن أخذ عباراته التي قالها عن تأثير حركة الخدمة وفتح الله غولن على الناس عن طريق استخدام الجن على محمل الجد. ولا بد أن نسأل عن كيفية انضمامه إلى حزب العدالة بعد تأسيسه بعامين ومن سانده في ذلك؟».
وكان جوكتشيك قال في برنامج تلفزيوني إن غولن خدعه هو شخصيًا، وإنه كان يوزع على أتباعه قطعا معدنية قرأ عليها بعض التعاويذ وإنه يستخدم الجن في تطويع أتباعه وإن هذا حدث معه أيضا.
وناشد أرينتش في صفحته على «تويتر» الحكومة قائلا إن مدينة أنقرة تحتاج إلى رئيس وإن البلدية في حالة يرثى لها، وأضاف: «إنني أوصيك يا جوكتشيك باستخدام (الزفت) الذي يملأ لسانك في رصف الطرق السيئة في أنقرة التي تتولى أنت رئاسة بلديتها، والتي يعاني فيها الناس من خطر الغرق في أحيائها ومعابرها السفلية إذا ما تساقط المطر فيها لمدة خمس دقائق فقط إذ تمتلئ شوارعها الرئيسية بالحفر. وأتوقع أن تكون هذه أيضا رغبة مواطنينا الأعزاء في أنقرة، إذ إنها تفتقر لرئيس بلدية منذ فترة طويلة». واتهم جوكتشيك قبل سنوات في قضية فساد بسبب دمج نادي أنقرة غوجو مع نادي أنقرة سبور، الذي كان يترأسه ابنه، لخلق كيان قوي لصالح ابنه.
وفي إطار حملة الاعتقالات التي تشهدها تركيا على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة طالت الاعتقالات 154 موظفا بوزارة الصحة من بينهم ضياء طاي، مدير الصحة العامة لمحافظة مانيسا، غرب تركيا، ابن عم زوجة بولنت أرينتش. وتعليقا على اعتقال ابن عم زوجته ضياء تاي قال أرينتش في تغريدة على حسابه على «تويتر»: «إن ضياء له شخصية محترمة وقومي ومحب لوطنه كما أنه بيروقراطي جيد، وأنا متأكد أنه لم يعين في وظيفته بطرق غير شرعية».
وأضاف أرينتش، وهو في الأساس محام وقانوني بارز في تركيا، أنه يؤمن بصدور قرار عادل بحق قريبه متمنيا إصدار قرار الإفراج في أقرب وقت.
كذلك كشف أرينتش عن أن كثيرين من المحيطين بإردوغان الآن، ومنهم الصحافي أرصوي ديده، هم من «جماعة الخدمة» وأتباع غولن لكنهم الآن يتظاهرون بأنهم بريئون منه. ثم تعهد قائلا: «إنني سأظل أدافع عن غولن حتى لو اضطررت لارتداء الجبة».
والحقيقة أن أرينتش خاض الكثير من المعارك السياسية في العام الماضي وبداية العام الحالي، من اعتراضه على الإطاحة بالمؤسسين القدامى لحزب العدالة والتنمية لصالح بعض الأعضاء الجدد، إلى الحديث عن اهتزاز الثقة في الهيئة القضائية أثناء تولي العدالة والتنمية الحكم قائلا: «الحزب لم يحقق إلا التنمية.. دون العدالة بعد أكثر من 10 سنوات من وجوده في السلطة. ما يحزنني هو أننا على قدر جيد جدا من التنمية.. لكن هل نحن على نفس القدر الجيد من العدالة؟». ثم أضاف: «أنشأنا قصور عدل جميلة جدًا، لكن علينا أن نعمل جاهدين لزيادة الثقة في العدالة والقضاء». وكان يشير إلى «قصور العدل» أو المحاكم الجديدة التي أقامها إردوغان في سنوات حكم حزب العدالة والتنمية. وتابع هجومه: «إذا تدنت الثقة في القضاء لنحو 20 في المائة في بلد ما.. ينبغي أن نضع رؤوسنا في أكفنا وأن نستغرق في التفكير».
الصوت المعارض بالداخل
وسبق أن مثل أرينتش صوتا معارضا نادرا داخل الحزب الحاكم. ففي مارس (آذار) من العام الماضي انتقد إردوغان لتدخله في تعامل الحكومة مع عملية السلام مع المتمردين الأكراد.
وبسبب مواقفه المبدئية تعرض لهجمة شرسة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما دفعه لأن يصدر بيانا من 6 صفحات في فبراير (شباط) الماضي للرد على التهديدات والإهانات التي توجهها إليه الصحف وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم بسبب انتقاداته للحزب الذي يعد أهم مؤسسيه. وفي لقاء مع قناة «سي إن إن تورك» التركية العام الماضي انتقد أرينتش طريقة إدارة حزب العدالة والتنمية للبلاد، معربا عن الأسف لإزاحة القيادات التي أسست الحزب لصالح شباب عديم الخبرة، كما انتقد التخلي عن مفاوضات السلام لحل المشكلة الكردية. وبعد تعرضه للهجوم أكد أنه يقف وراء تصريحاته وأنه لا يدين لأحد بشيء. ثم قال إن ما كشفه في ذلك البرنامج هو جزء صغير من الوقائع التي يعرفها وسبق أن شهدها. ورد أرينتش، الذي اشتهر بدعوته لوزراء وقيادات حزب العدالة والتنمية بألا تغرهم المناصب وأن يتقشفوا ويبتعدوا عن حياة الرفاهية، على منتقديه في بيانه على مواقع التواصل الاجتماعي قائلا: «أريد أن أجيب في عدة جمل على منتقدي القائلين «لماذا تكشف كل هذا الآن وأمام الرأي العام؟». اعلموا أن سؤال «لماذا الآن» لا يمكن توجيهه لأي حقيقة يراد الكشف عنها. تتكلّمون بحرية وراحة بال إن لم يشهد تاريخكم السياسي الممتد لأربعين سنة أي شائبة أو إن لم يرِد اسمكم في قضايا أو فضائح مالية. وعدا ذلك إما ستصبحون العكاز الذي يتكئ عليه مَنْ منحكم مناصبكم أو ستصبحون رأس الحربة لمن سيمنحكم عمودًا في صحيفته».
وحملت هذه العبارات انتقادات صريحة للحكومة التي تورّط 4 من وزرائها في مزاعم الفساد والرشوة ولوسائل الإعلام القريبة للحكومة التي شنت ضده حملة هجوم مكثفة.
وأعرب المتحدث السابق باسم الحكومة وكبير مستشاري رئيس حزب العدالة والتنمية حسين تشيليك ووزير العدل السابق سعد الله أرجين ووزير الرياضة سعاد كيليتش، الوزراء السابقون في حكومة إردوغان، عن دعمهم لأرينتش على حساباتهم بموقع التواصل الاجتماعي «تويتر». عندما قاموا بإعادة نشر تصريحات أرينتش لمتابعيهم على الموقع. وكان تشيليك قد تناول عملية السلام الداخلي مع الأكراد في تصريحات كتبها في مدونته، مشيرًا إلى أن المسؤولين، بمن فيهم رئيس البلاد ورئيس وزرائه لم يكترثوا لتحذيراته التي ظل يطلقها منذ عام 2009.
بوادر انشقاق حزبي
أحدثت هذه التصريحات أزمة كبيرة وأشارت إلى بوادر انشقاق قد يهز حزب العدالة والتنمية من جذوره وقام الرئيس السابق عبد الله غل، وقتها، بدور المنقذ، واحتوى الأمر باتصالات واجتماعات مع إردوغان ومعارضيه لتنتهي الأزمة دون تأثير على حزب العدالة والتنمية. إلا أن أرينتش بقي على موقفه واحتفظ بجرأته حتى لو كان سيدفع ثمنها في حروب ومشاحنات مع بعض من يحاولون إظهار ولاء مزيف ويزايدون على تاريخ مؤسسي «العدالة والتنمية».
لكن هذه المواقف نقلته إلى الظل إلى الحد الذي أقيم فيه احتفال بالذكرى الخامسة عشرة لتأسيس «العدالة والتنمية» في 14 أغسطس (آب) الحالي لم يظهر فيه أرينتش على الرغم من أنه من الأضلاع الرئيسية التي قام عليها الحزب.
في سطور
* ولد بولنت أرينتش يوم 25 مايو (أيار) 1948، في مدينة بورصة، بشمال غربي الأناضول. وبعد الانتهاء من المدرسة الثانوية في مدينة مانيسا، بغرب تركيا، تلقى تعليمه العالي في جامعة أنقرة حيث حصل على شهادة الليسانس (الإجازة) الحقوق وذلك في عام 1970. وبعد التخرج، عمل أرينتش - وهو متزوج وأب لثلاثة أولاد قتل أحدهم عام 1997 – لحسابه الخاص في مانيسا.
انجذب أرينتش إلى السياسة منذ مرحلة دراسته الجامعية. ودخل عالم السياسة فعلاً عندما انتخب نائبا عن حزب «الرفاه» الإسلامي في البرلمان عن مانيسا في الانتخابات العامة عام 1995 وخدم في لجنة العدل في البرلمان. وفي هذه الأثناء اختير أيضًا عضوًا في مجلس الحزب.
وبعد قرار المحكمة الدستورية التركية إغلاق حزب «الرفاه» يوم 15 فبراير 1998، انتقل إلى حزب «الفضيلة» الإسلامي الذي ورث القاعدة الشعبية لـ«الرفاه».
وتكرّر انتخاب أرينتش خلال الانتخابات العامة لعام 1999 نائبا عن مانيسا، وهذه المرة عن حزبه الجديد «الفضيلة». وأصبح عضوا في لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان. ومجددًا، بعد حظر المحكمة الدستورية حزب «الفضيلة» وإغلاقه في 22 يونيو 2001. شارك أرينتش رجب طيب إردوغان في تأسيس حزب العدالة والتنمية.. وفي العام نفسه، يوم 14 أغسطس (آب) اختير رئيسًا لكتلة حزبه في البرلمان.
انتخب أرينتش للمرة الثالثة نائبا عن مانيسا في الانتخابات العامة في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2002. ولم يلبث أن انتخب رئيسًا لمجلس النواب. وفي أول مايو 2009 عيّن في منصب وزير الدولة المسؤول عن المؤسسات، ونائب رئيس الوزراء في الحكومة الثانية التي شكلها إردوغان.