ما يزعج أو يفاجئ كثيرا من النساء أن كل مكان يمكنهن الدخول إليه في اليونان، ما عدا جزيرة رائعة الجمال. إنها جزيرة أثوس، وتسمى أيضا الجبل المقدس (علوه 2033 مترا). ويعيش في الجزيرة نساك ورهبان يصل عددهم إلى 1200 من مختلف الكنائس الأرثوذكسية، إضافة إلى موظفين وعاملين رجال وعناصر من قوى الأمن وعمال حصاد المواسم، فوق مساحة تصل إلى 336 كيلومترا مربعا. ويحيط بالجزيرة كثير من الأسرار والمعتقدات الغريبة، منها أن سكانها يستخدمون التقويم اليولياني القديم، أي أن السنة 365 يوما وربع اليوم، ما جعل الفارق بينه وبين التقويم الميلادي حتى اليوم 13 يوما.
وفي كل رحلة بحرية على متن سفينة سياحية تقوم بجولة حول الجزر وتتوقف أمام الجبل المقدس، يسمح للرجال فقط بالنزول لزيارته، بينما على النساء مشاهدته من بعيد. وفي إحدى الرحلات حاولت سيدة إغراء عامل فوق السفينة بالمال كي تنزل بقارب صغير وتتسلل إلى الشاطئ فرفض بشدة؛ لأن خرق القانون ومساعدة امرأة على الدخول يعاقب عليه بالسجن من عام إلى عامين. ولقد فشلت عدة حكومات متعاقبة بأثينا في إلغاء هذا الإجراء.
وكانت جزيرة أثوس تابعة سياسيا وإداريا ودستوريا لليونان، إلى أن منحت عام 1926 وضعا خاصا، وأصبح يديرها اليوم ما يسمى بالاتحاد المقدس، وهو مكون من 20 ديرا يونانيا وروسيا ومقدونيا وصربيا وسلافيا ورومانيا، وزعت مسؤوليته الإدارية على خمس مجموعات، يضاف إليها مجلس إدارة من 4 رهبان ولجنة عليا تشرف على الشؤون المالية والقانونية للدولة الرهبانية، ما يجعل الجزيرة شبيهة بدولة الفاتيكان.
وحدث أن دخلت نساء رسميا إلى الجزيرة مرتين: عام 1770 خلال إحدى الثورات في اليونان، وعام 1821 إبان حرب الاستقلال، يوم قام الثوار اليونانيون بحركة عصيان ضد الإمبراطورية العثمانية وتأسيس المملكة اليونانية. ومع أن كلمة أثوس تعني «جنة مريم والدة المسيح» وهي امرأة، إلا أن أحد الرهبان برر حظر الدخول بأن سكانها يحبون النساء وهن حاضرات بحضور السيدة مريم العذراء، بينما تقول أسطورة إن مريم العذراء تملك وحدها هذه الجزيرة، لذا حرمت دخول أي امرأة إليها ما عداها. لكن أحد الرهبان اعترف بأن سبب رفض دخول النساء هو كبح رغبة الرهبان الجنسية، والعيش بعيدا عن المثيرات وتكريس أنفسهم للعبادة فقط.
وعلى الرغم من الحظر فإن عدة نساء تمكنّ من خرق القانون، فإحدى الكاتبات الفرنسيات تنكرت بزي بحار وعاشت بضعة أيام متخفية، وكتبت بعد خروجها رواية مثيرة تحت عنوان «شهر كامل بين الرجال»، وشجعت هذه المغامرة نساء أخريات لخوضها. ففي عام 1969 تسللت 5 يونانيات لكن كشف أمرهن وطردن بسرعة، وفي عام 1989 نجحت سائحة ألمانية في الدخول وقضاء وقت وتصوير بعض المناطق. والصور التي حملتها كل الصحف الأوروبية في يناير (كانون الثاني) عام 2008 كانت لـ6 نساء يونانيات قفزن أمام عدسات الكاميرا من على متن قارب وحاولن الوصول إلى الجزيرة، وذلك اعتراضا على مواصلة تحريم الرهبان دخول النساء إليها.
لكن في الحقيقة فإن حظر دخول النساء إلى الجزيرة يعود إلى عام 1045، وثبّته يومها القيصر كوستاتينوس مونوماخوس وحمل اسم «أفاتون» وكان قد وضعه القديس تيودور ستوديتا، وعاش ما بين عام 759 و826، واعتبر أبا للرهبنة الأرثوذكسية.
والحظر ليس مقتصرا على النساء فقط، بل على كل الحيوانات الإناث. وبحسب مراجع غير رسمية، فإن القديس تيودور قال يومها: «لا تحتفظ بحيوان مؤنث؛ لأنك قررت التخلي عن الأنثى في الحقل أو في البيت». وعندما تلد الحيوانات منها الأبقار والماعز أو غيرها إناثا، يتم بيعها إلى القرى المحيطة وجلب دواب من الذكور كالخيل والبغال والحمير، ويتم إحضار الإناث في أوقات محددة للتكاثر، ومع ذلك فإن الحيوان البيتي الوحيد الأنثى الذي يحتفظ به هي الهرر لأنها تقضي على الجرذان والفئران والأفاعي.
ذكرتها إلياذة هوميروس
والجبل المقدس (أثوس) له تاريخ يعود إلى عهد الإغريق، وذُكر في إلياذة هوميروس في القرن الخامس قبل الميلاد، وفي أواسط عام 850 استوطنه رهبان أرثوذكس بمساعد الإمبراطور نكفوروس الثاني فوكاس، لكن إدارة الجزيرة بشكل منتظم بدأت عام 960 بتأسيس أول دير وبتعيين القديس إثناسيوس حاكما على الرهبان الساكنين هناك. وخلال القرن الـ11 بنيت أديرة أخرى فوق الجبل عن طريق هبات قدمتها الكنائس الأرثوذكسية في أوروبا التي لها اليوم تواجد. ومع حلول عام 1400 أصبح عدد الأديرة 40، بقي منها 20 ديرا كلها واردة على لائحة حماية مواقع التراث العالمي، منها دير ستافرونيكيتا الذي تعرض للحريق أكثر من مرة، وحرقت فيه وثائق وكتب ثمينة. وبعد أن كان الجبل مع أديرته يخضع لنظام إداري صارم واحد لمجموعة من الرهبان برئاسة راهب له السلطة الأعلى، أصبح التوجه في القرن الـ15 أكثر ليبرالية وانفتاحا مع إدخال نظام رئاسي عبر الانتخابات السنوية.
لكن عندما استولى العثمانيون على منطقة تسالونيكي عام 1430، أخضعوا كامل الجبل المقدس لسلطتهم، ما سبب خللا في نظام الرهبنة الداخلي. وهربا من سلطة العثمانيين ظهرت الصوامع للرهبان المتقشفين في المناطق الجبلية الوعرة. ولقد عانى الجبل من عمليات النهب من قبل الجنود الأتراك الذين أحرقوا مكتبات بأكملها، وفي القرن الـ19 وبرعاية القيصر الروسي شهد الجبل زيادة في عدد الأديرة الروسية وفي الممتلكات التابعة له.
جزيرة مستقلة
وما يميز هذه المملكة الصغيرة أنها واقعة في أوروبا وبالتحديد في اليونان، لكنها لا تخضع للحكومة اليونانية، وهي تسدد الضرائب إلى البطريركية الأرثوذكسية في القسطنطينية (إسطنبول) وبالتالي تتبع النظام البطريكي أيضا.
وزوار الجبل المقدس هم حجاج رجال وليسوا سياحا، وعليهم الحصول على تأشيرة حج من مكتب في مدينة تسالونيكي تسمى «ديامونيتريو» ولا يسمح بالإقامة سوى 4 أيام، ويجب أن يكونوا بمرافقة راهب، وكل ما يمكن القيام به من أنشطة هو التجول بين أحضان الطبيعة والعبادة. ولا تستقبل الجزيرة سوى 10 حجاج يوميا، حيث ينقلون بالقوارب من الشاطئ إلى الداخل، ومن النادر مشاهدة وسائل نقل آلية؛ لأن السكان يستعملون الحيوانات، أما الحافلات الكبيرة والسيارات فهي ملك للأديرة.
ويوجد في الجزيرة إلى جانب العناية الطبية مصرف اسمه المصرف الزراعي، ومطار صغير لنقل الشخصيات المهمة، منها الملياردير الروسي رومان إبراموفيتش، الذي يسمح له في أي وقت أن يرسو بيخته مقابل مبلغ ضخم، وكان قد رمم كنيسة روسية على حسابه.
ويودع كثير من الأغنياء الروس وغيرهم الملايين في المصرف الزراعي، إلى جانب تخزينهم صناديق مليئة بالذهب والألماس والبلاتين. والجزيرة هي المكان الوحيد في أوروبا الذي لا يتحدث فيه أحد عن الضرائب، فكل ما يصدر منها مثل المنتجات اليدوية المختلفة وزيت الزيتون والنبيذ والعسل بعد ازدهار تربية النحل، معفي من الضرائب، وكذلك المعلبات والمواد الغذائية التي تصنع في الأديرة.
هذا التوجه جعل الجزيرة جنة لكثير من السياسيين ومهربي الأموال، وهذا كان السبب لإنشاء مطار خاص حط فيه سابقا الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، وبعده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكثير من السياسيين الأوروبيين، مستغلين الستار الحديدي الذي تختفي وراءه هذه الجنة. حتى أن بعض العاملين في الأديرة يتحدثون عن خروج حقائب مليئة بالماس باتجاه أمستردام وأنتويرب، وفشل البرلمان الأوروبي في تجفيف جنة غسل الأموال وفي إلغاء استقلالية الجزيرة.
ويعتبر الجبل المقدس أغنى المناطق في اليونان، ففي أديرته وكنائسه أقدم التحف الفنية، منها لوحات فنية يقدر ثمنها بالمليارات، عدا ذلك فإن منتجات الأديرة توفر إيرادات سنويا بالمليارات معفاة من الضريبة، ويقدر البعض أن مليارات هذه الجزيرة بإمكانها إنقاذ اليونان من الإفلاس، أو الاستغناء عن الاقتراض من الاتحاد الأوروبي.