آرثر ميلر.. كاتب مقال

جانب غير معروف من إبداع الكاتب المسرحي الشهير

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT
20

آرثر ميلر.. كاتب مقال

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

آرثر ميلر (1915-2005) واحد من ثلاث قمم كانت تقف على رأس المسرح الأميركي في القرن العشرين. والقمتان الأخريان هما يوجين أونيل وتنيسي وليمز.
وبمناسبة مرور مائة عام على مولد ميلر، أصدرت دار بلومزبري للنشر في 2015 مجلدا من 536 صفحة يحمل عنوان «مجموعة مقالات آرثر ميلر» حررها ماثيو رودانيه.
Collected Essays of Arthur Miller، edited by Matthew C. Roudane، Bloomsbury، 2015، 536pp.
اشتهر ميلر بمسرحياته المهتمة بقضايا المجتمع، وانخراطه في حقل السياسة وحدة وعيه بالقوى الاقتصادية التي تحرك المجتمع الأميركي. وأهم هذه المسرحيات هي: كلهم أبنائي (1947) موت قومسيونجي (1949) البوتقة (1953) مشهد من الجسر (1955) بعد السقوط (1963) الثمن (1969).
قدمت مسرحية «البوتقة» لأول مرة في 22 يناير (كانون الثاني) 1953 على أحد مسارح برودواي، ردا على الإرهاب الذي أشاعه السياسي الأميركي السناتور جو مكارثي ضد قوى اليسار بدعوى أنها تهدد «القيم الأميركية». وقد كتب ميلر في 1999 مقالة عنوانها «مسرحية البوتقة في التاريخ» قال فيها إن المسرحية تدور حول «سلطان الخيال البشري المشتعل، وشعر الإيحاء، وأخيرا مأساة المقاومة البطولية لمجتمع سيطرت عليه فكرة إلى حد الدمار». لقد كتبها في قلب «مناخ من الخوف»، مناخ شاعت فيه نظرية المؤامرة التي اعتقد مكارثي أنها من تدبير جماعة سرية تضم عمالا ومدرسين وكتابا ومهنيين من كل نوع تعاهدوا جميعا على أن يهددوا الحكومة الأميركية. ويبرز أوجه التوازي بين مطاردة رجال الدين للساحرات (أو من اتهمن بمزاولة السحر) في ولاية سيلم الأميركية عام 1692 و«الحرب الآيديولوجية» في أميركا خمسينات القرن الماضي. في كلتا الحالتين شاع الاعتقاد بوجود مؤامرة خفية، وتشابهت طقوس الدفاع والتحقيق والإدانة. كانت التهمة، بل مجرد الشك، حكما بالإدانة.
وتقول رونا كران، أستاذة الأدب الأميركي بجامعة برمنجهام البريطانية، في مقالة لها بـ«ملحق التايمز الأدبي» (18 و25 ديسمبر/ كانون الأول 2015) عن هذا الكتاب: لقد جرب ميلر الوقوف أمام لجنة التحقيق في الأنشطة المعادية لأميركا، ورقابة هيئة المباحث الفدرالية، ورفض طلب استخراج جواز سفر بدعوى أن «وجوده خارج البلاد ليس في مصلحة الولايات المتحدة». وعند التحقيق معه رفض أن يبوح بأسماء أي من «رفاق السفر الذين التقى بهم في أحد اجتماعات الكتاب اليساريين التي حضرها»، ومن ثم أدين بتهمة ازدراء الكونجرس وحكم عليه بالسجن لمدة عام مع وقف التنفيذ، وغرامة خمسمائة دولار، وطلب منه أن «يكتب بطريقة أقل مأساوية» عن أميركا. وبديهي أنه لم يتمكن، حتى لو أراد، من تلبية هذا الطلب الأخير، فقد كانت الحقائق كما يراها مأسوية بما فيه الكفاية. وكان يؤمن بأن «المرحلة المأسوية جزء من البشرية كالحيطان والطعام والموت».
إن المسرح، في رأي ميلر، هو أكثر الفنون «سوقية»، فضلا عن كونه «أبسطها»، ولكنه يحمل «عبئا قديما .. هو الإضاءة الأخلاقية للمجتمع وللوضع الإنساني».
جهر بهذه الآراء في الطبعة الثانية من كتابه المسمى «مقالات عن المسرح» (1992) وهي تظهر في هذا الكتاب الجديد الذي يغطي خمسة عقود زمنية، ويعكس إيمان ميلر بأن «المسرح يمكن أن يحقق التغير الاجتماعي داخل المدينة، ويمكن أن يجلب وعيا ذاتيا، عثر عليه حديثا، كثيرا ما يروغ عن أبطال المسرحية الذين تحددت أقدارهم».
والمقالة الأولى في الكتاب عنوانها «الاعتقاد في أميركا» تصف وضع الجندي الأميركي العائد من الحرب في الخارج ليجد أن أهل وطنه لا يدركون لماذا حارب أساسا، ولا ما الذي حققه بذهابه. أما المقالة الأخيرة في الكتاب وعنوانها «المسرح المدعم ماليا» فتأمل في مسارح برودواي التي يصفها ميلر بأنها «مفلسة فنيا». وفيما بين هاتين المقالتين تتدعم صورة ميلر بوصفه كاتبا ملتزما ومثقفا عموميا لا يعيش في برج عاجي.
ومقالات الكتاب مرتبة تاريخيا في أقسام تمتد من 1944- 1950 إلى 1991-2000. إنها تضم مقالات عن المسرح وتأملات في موضوعات محاكمات زعماء النازية في نورنبرج، وكتاب مارك توين المسمى «سيرة ذاتية»، فضلا عن شذرات من سيرة ميلر الذاتية. في هذا القسم الأخير يكتب مقالة عنوانها «أفكار حول بيت محترق» عن حريق دمر بيته، ومقالة عنوانها «مختطف؟» عن لقائه برجل عصابات من صقلية يدعى «لوشيانو المحظوظ» في بالرمو عقب الحرب العالمية الثانية. وكما قال الشاعر الأميركي ولت ويتمان إنه يطلق «صرخته البربرية» فوق سقوف العالم، يقول ميلر إنه يطلق صرخة مثلها فوق سقوف المسرح والأدب والثقافة والسياسة. عند ميلر إن العمل الفني الجيد مرتبط بزمنه، ومسرحياته تطبيق لهذا المبدأ.
ولئن كان ميلر يتمتع بالثقة بالنفس من حيث هو كاتب مسرحي، فإنه أقرب إلى التواضع من حيث هو كاتب مقالة. إنه يؤكد أنه خبير بشؤون المسرح، ولكنه يكتب من زاوية الهاوي عن غير المسرح من شؤون. ويؤكد أنه «ليس دارسا وليس ناقدا» ويعترف بأنه أشد كسلا من أن يرجع إلى أرسطو (صاحب كتاب «فن الشعر» وهو أول وثيقة نقدية عن المأساة)، ويعبر عن أسفه لأن ذاكرته ضعفت مع السنين حتى أصبحت التواريخ في ناظريه أشبه بخليط من بيض لزج مسلوق من دون قشرة. غير أننا لا يجب أن نأخذ هذا التواضع من جانبه على محمله الظاهري، فهو عادة يكتب كتابة الثقة المتمكن من موضوعه، وإن كان- كما يقول- يخطئ أحيانا في إيراد التواريخ. وأحيانا لا تكون حججه مقنعة كما في مقالته عن جناح الأحداث وعنوانها «الملول والعنيف».
وإنما يكون ميلر في خير أحواله حين يروي قصة، سواء كان يتحدث عن محاكمات النازي في نورنبرج أو عن رحلة قام بها بسيارة أجرة في روما أو عن سقوط مكارثي. في هذه المقالات يتمكن القارئ من أن يرى الرجل وراء الكاتب وأن يتذوق إنسانيته. أو كما قال كاتب مسرحي أميركي آخر هو توماس كذشنر: إن ميلر يتميز «بالتعاطف والقرب من المنزوع ميراثهم والمهمشين وعديمي الحول».



هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

هدى بركات
هدى بركات
TT
20

هدى بركات: عنف الحرب الأهلية اللبنانية أعاد تربيتي

هدى بركات
هدى بركات

لم تتأقلم الكاتبة الروائية هدى بركات مع باريس وغيومها الرمادية وأجوائها الباردة، برغم إقامتها فيها ما يزيد على ثلاثة عقود، ولم تكتب أعمالها الروائية باللغة الفرنسية التي تجيدها بطلاقة. ظلت موقنةً دائماً أن قلبها لا يزال معلقاً هناك حيث بيروت، مدينة السحر ورعشة القلب مهما نالت الحرب من قسماتها الجميلة.

فازت أخيراً روايتها «هند أو أجمل امرأة في العالم» بجائزة «الشيخ زايد للكتاب». ومن أبرز أعمالها «أهل الهوى»، «بريد الليل»، «حجر الضحك»، «حارث المياه».

«الشرق الأوسط» حاورتها حول روايتها الفائزة، وقضايا الغربة والهجرة وهموم الكتابة.

* في روايتك الأحدث «هند أو أجمل امرأة في العالم»، بدا العنوان للبعض وكأنه ينطوي على شيء يشبه الارتباك أو الحيرة، كأنك كنت حائرةً بين عنوانين هما «هند» وعنوان آخر هو «أجمل امرأة في العالم»، ثم قررت في النهاية الجمع بينهما في عنوان واحد... كيف ترين الأمر؟

- لعلّ هذه الرواية الأخيرة هي الوحيدة التي لم أتردّد قبل وضع عنوان لها. ولا أعتقد أنّ الالتباس في الجمع الذي تشيرين يؤكد على محتوى النصّ في عمق ما ذهب إليه. و«أو» في هذا العنوان تدلل على الازدواجية، وإلى لعبة المرايا التي تنتظم السرد بكامله، هند وأختها هنادي، الجمال والقبح، الوهم وحقائق الذاكرة، إلى آخره.

أما أن يرى البعض في ذلك «ارتباكاً وحيرةً»، كما تقولين، فهذا يعزّز خياري. لا أظن أن على العناوين أن تكشف عن دلالات مباشرة. هذا إلى جانب اعتقادي أن هنالك دائماً «البعض»، وهذا من حقّ القارئ ولا يزعجني أبداً.

* كيف تختارين عناوين أعمالك عادةً، ما الذي تراعينه فيها ومتى تشعرين أنك موفقة في هذا العنوان أو ذاك؟

- لا أعتقد أنّي موهوبة في وضع عناوين رواياتي. أقلّه فيما عدا الرواية الأخيرة، أو ربّما بالنسبة لروايتي «أهل الهوى»، لا أستطيع القول إنّي راضية عن مجمل هذه العناوين. أتردّد كثيراً، وغالباً أضع العنوان تحت ضغط الطباعة والنشر، أي بعد الانتهاء من كتابة النصّ الروائي. والحقيقة أنّي لا أعرف إن كان عنوان ما ناجحاً أم لا.

* لو عاد بك الزمن إلى الوراء، هل كنتِ تغيرين عنواناً قديماً لك؟

- ربما، لا أعتقد. لو افترضنا أنّي أستطيع ذلك، فما لم أنجح فيه في الماضي لن أضمن نجاحي فيه اليوم! روايتي «حجر الضحك» مثلاً أجد أنّ عنوانها معقّد، لكن أحداً ممّن استفتيت لم يوافقني الرأي.

* يحكي النص عن طفلة ذات جمال صاعق لكنها أصيبت بمرض نادر أدى إلى تشوه ملامحها بشكل صادم. هناك من ذهب إلى أن البطلة ترمز هنا لبيروت، كيف تستقبلين تلك المقاربة؟

- الحقيقة أني لا أخطّط لشيء قبل الشروع في الكتابة. لا للدفاع عن نظرية ولا حتى لبناء الشخصيات ودفعها إلى مصائر محتومة. ليست هناك «قناعات»، أو أنّ هناك ما أنوي أن أبرهن على صحّته أو إثبات أحقيّته. أنا أسير في الكتابة مدفوعة بـ«صوت» الشخصية التي ستروي حكايتها. أنصت إليها. لكنّ كلّ ذلك قد يأتي من هاجس ما، قد أكتشفه بعد الكتابة.

لم يأت التشوّه على بيروت فقط. بل على مدننا العربية كافّة، ولا بدّ أن ذلك آلمني إلى حدّ كبير. ففي حين بالغنا كثيراً في التغنّي بجمال مدننا، مدينتنا، وكل لبنان، ولم نتقبّل ما فعلت أيدينا ببلداننا، فضّلنا التنصّل واستيهام الجمال لعدم قدرتنا على تحمّل المسؤولية أو على تدبير ذلك الشعور المرّ بالذنب. أو أنّنا، عند مصيبة ما أو كارثة ما، بالغنا في التفجّع والنياحة والعويل و«تشحير» الوجه، تقريباً للسبب نفسه. لا بدّ أنّي كنت أهجس بكلّ ذلك. فأنا، كما ذكرت لك، لا أعرف تماماً ما الذي يدفعني إلى الكتابة.

* أيهما أخطر على النفس الإنسانية، تشوه الجسد أم تشوه الروح، وكيف تطرقتِ في أعمالك إلى النوع الثاني من التشوه؟

- أعتقد أن مقاييس الجمال والقبح، التألّق والتشوّه هي مقاييس مترجرجة ومتغيّرة باستمرار، وبالتالي فهي قد تنتهي بالركون داخل الذات الفرد ومرجعها هو ذاتها. فيحصل أن تكون حرّة من تلك التي يحدّدها «المجتمع» أو ما نجمع على تسميته الرأي العام أو التيّار الغالب أو الموضة. العزلة، أو الوقوع في الهامش قد يساعد على ذلك.

أمّا عن كيفية تطرّقي إلى التشوّه في رواياتي، فأنا أرى الآن بمناسبة سؤالك أنّه كان في صلب كتاباتي. أكان في النظرة إلى الذات أو في نظرة الآخرين إلى الشخصية الروائية، وأكان ذلك حقيقياً في حياة الشخصية أو متوهّماً. هذه على ما أعتقد من مكوّنات الدراميّة الحيّة في الكتابة الروائية.

ولكي نحاول تبسيط الأمور قليلاً سنقول إنّه عنف الحروب الأهلية المديدة، وعبورنا القلق عبر هذه الحقبة التي تشبه الزلازل البركانية، وانتفاء الحيّز «الإنساني» المشترك الآمن والعادل. لن نكون على جمال إن لم يكن الآخر يشبهنا ولو قليلاً. ابتعاد ذلك الآخر الذي يركن إليه قلب الإنسان هو الباعث على الهواجس بأنّ عناصر الجمال، في ما يعنينا ويحيط بنا آخذة بالتآكل. ولن نكون على جمال مستحق إن لم نكن كذلك في عيني الآخر، ولو قليلاً... هذا «الآخر» قد يكون حبيباً أو أمّاً أو مجتمعاً مختلفاً.

* أليس غريباً أن الهم اللبناني لا يزال يشكل هاجسك الأول والأخير، رغم إقامتك في باريس طوال تلك السنوات؟

- ما تقولين حقيقي بلا شك. الحرب الأهلية، تحديداً عنفها المديد أعاد تربيتي من جديد، ونظّم حياتي اليومية كما أفكاري. كأنّي أعدت اكتشاف العالم. وإلا فلم أكن لأترك بلدي أصلاً. كلّ أدوات الفهم، وكل المقولات والأدوات المعرفية فقدت صلاحيتها. لم تعد تنفع لا للعيش ولا للإدراك. الشرط البشري تغيّرت مفاهيمه، من التعريفات إلى آليّات الخلاص من الشقاء ومن آلام الوحشة.

هذا ما يحصل عادة بعد الحروب، أو الكوارث الكبرى. ما زال الأدب في الغرب مثلاً يستقصي ذيول الحربين العالميتين. ليس فقط في التأريخ، بل في ما فعلته الحربان في المجتمعات والنفوس. كأنّ ما حصل عصيّ على الفهم.

* بين بيروت التي رحلت عنها وباريس التي تقيمن بها... كيف تنظرين إلى ثلاثة عقود من الاغتراب؟

- حتى وقت قريب لم أكن مصدّقة هجرتي تماماً. كنت أستغرب حين أفتح نافذة غرفتي صباحاً أنني لا أطل على بيروت. لا أطيق سماء باريس الثقيلة الرمادية المطفأة. لا ألبس ما يقيني بردها القارس. لا أعتاد على تعقيد الأوراق الرسمية وشبه الرسمية التي لا تكتمل أبداً. لا آلف روائحها أو ناسها وأخاف من نهارها كما ليلها باستمرار، أنا القادمة من بلاد الرعب. نوع من الإنكار العنيف. كأنّ هناك من دفع بي بقوّة خارج بلادي غصباً عنّي. لكن مرارة السنوات علّمتني أنّي أبداً لن أدجّن هجرتي أو أتخلّص من بيروت. الغربة عاهة، ينبغي القبول بذلك. تدبيرها صعب لكن إنكارها أشدّ صعوبة. وينبغي القبول بأن الغربة ليست مسألة حدود جغرافيّة. المكان، مكاني على الأقلّ، ليس مشروطاً بوجودي الجسدي. لذا ربّما كل ما كتبت وأكتب يشير إلى بيروت ويعود إليها. ولعلّها حريّة مذهلة ألا تكون بالكامل لا هنا ولا هناك. الآن أقول إنّ إقامتي في باريس منذ أكثر من ثلاثة عقود لم تكن كلّها شقاءً ومرارةً، كما كنت أدّعي قبلاً. فلفرنسا عليّ فضل كبير أدركه الآن، أنا الغريبة التي لا تكتب حتى بلغتها.

* ترفضين مصطلح «أدب المهجر» لوصف إنتاج الأدباء العرب الذين يعيشون بالغرب وترين أنه قديم وغير دقيق، هل لديك توصيف «بديل»؟

- صحيح. أولاً لأن المسافة الفاصلة لم تعد عظيمةً بسبب ما وصلت إليه سهولة المواصلات والأسفار وسرعة التنقّل وعدم ارتفاع التكلفة. ثمّ إنّ «المهجر» كان هجراً حقيقياً للمكان الأوّل بما فيه اللغة والبيت. لذا كان الأدب المهجري أدباً «حنينياً»، و«نوستالجيا» يجمّل الماضي البعيد ويتمسّك به حباً وتعلّقاً ولو كان ذلك اختراعاً. الآن لم يعد «حب الوطن» أو حلم «العودة» إليه ماثلاً في الكتابات، في حين أن ملايين الناس تلقي بنفسها في البحار وتواجه الموت وتستدين من أجل الرحيل. رحيل بلا أيّ وعود أو أيّ إرادة بالعودة. تلك الملايين من البشر التي تسير في بلاد الله الواسعة لا تطلب سوى الابتعاد عن مكان شقاء وفقر ورعب وذلّ بلا حدود.

* رغم إجادتك للغة الفرنسية، فإن الكتابة بالعربية ظلت قرارك الحاسم الذي لا رجعة فيه، ألم تنشغلي بفكرة أن الكتابة بلغة الآخر قد تفتح الباب أمامك لتحقيق ما يسمى بـ«العالمية»؟

- والله، وبكل صدق، أنا لا أعلم ما هو تعريف «العالميّة» ولا الوصفات الناجعة للوصول إليها. يتهيّأ لي أن ولع بعض الكتّاب العرب بالترجمة كيفما كان وبأيّ شروط هو وراء وهم يسمّونه العالميّة. بعض الروائيين العرب ممّن أحبّ كثيراً لم يترجموا إلا قليلاً جداً، أو أن الترجمات لم تكن سبباً لانتشارهم في الغرب. أضرب لك مثالاً واحداً بالكاتب المصري محمد البساطي.

الكتابة بالعربية، ورغم أنّه صدرت لي نصوص مهمّة كتبتها بالفرنسية، تبقى لغة رواياتي وستبقى كذلك. الفرنسية ليست خياراً. باختصار شديد العربية هي لغتي، ولأنّي تركت بلدي والمنطقة العربيّة أتعلّق بالعربيّة أكثر، كأنّها ملاذ وبيت أخير أو أوّل.

* يؤكد كثيرون أن تجربة محفوظ في هذا السياق تبرهن على أن «المحلية تفتح الطريق للعالمية»، مستشهدين بتركيزه على «الحارة المصرية» في أعماله... برأيك، هل لا تزال تلك الصيغة فعالة في مخاطبة الأدب العربي للعالم؟

- مرّة أخرى لا أستطيع الإجابة، ولا أدري ما هو الناجع في مخاطبة العالم. ولا أعرف ما هي التوليفة التي قد تحمل الأدب العربي إلى العالميّة أو إلى جائزة نوبل. إننا مهتمّون بأمور كثيرة ونشغل أنفسنا بها كلزوم ما لا يلزم. كأنّ هناك العالم وهناك نحن وفي الوسط حفرة هائلة الاتساع لا نعرف موقعها أو مداها. هناك كتّاب عرب مشهورون يجهلون قواعد اللغة العربيّة البسيطة ويطمحون للعالمية وينتقدون تحيّز الغرب!

* تُرجمت أعمالك إلى العديد من اللغات الحية حول العالم، ما الذي تعنيه لك الترجمة عموماً؟

- كلّ ترجمة جديدة هي إضافة حياة أخرى للكتاب. تفتح على مجتمعات وحيوات أناس قد لا نعرف مطلقاً كيف نتشارك وإيّاهم إحساساً وهمّاً، أو ما الذي يفتح التجربة الإنسانيّة على آفاق رحبة تلغي الحدود الصارمة، الجغرافية والسياسية... إلخ، كيف نرى ذواتنا في الآخر. وكيف تمّحي عبر القراءة جروح أو إعاقات التاريخ والذاكرة. كلّ لغة جديدة هي حجرة جديدة في بيت الكاتب، ومدى إضافي إلى أفقه وروحه.

ثمّ إنّ الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى لها طعم الفرحة المضاعفة، حيث نعرّف بأنفسنا عبر أجمل وأفعل الطرق.